السؤال كان واضحاً.

وردي كان مباشرًا.

وبين السؤال والرد، وقفت على المنصة مع مدير الحوار في افتتاح معرض “شيفا يلتقي بسوفا”، والحضور يستمع بانتباه.

الافتتاح تم يوم الأربعاء 13 أغسطس 2020 في العاصمة السويسرية بيرن.

والمعرض كان موضوعه العلاقة بين الدين والدولة.

ووقوفي على المنصة كان سببه تسجيل صوتي لي تم إدراجه ضمن المعرض.

أجبت فيه على السؤال التالي: هل يجب على الدولة أن تصر على ضرورة احترام الأديان لحقوق المساواة بين الرجل والمرأة؟وإجابتي كانت واضحة، “نعم”.

وقبل أن أشرح، لعل من الأفضل أن أمهد للموضوع بمقدمة قصيرة.

سويسرا دولة متعددة الثقافات منذ تأسيسها.

لغاتها الرسمية أربعة، الألمانية، الفرنسية، الإيطالية والرومانشية (لغة لاتينية قديمة يتحدثها نحو خمسة وأربعون ألف شخص) وكنائسها متنوعة، بروتستانتية وكاثوليكية، بأطياف مختلفة، إضافة إلى أقلية يهودية، تنقسم هي الأخرى إلى كيانات متمايزة.

رغم هذا التنوع، فإن المشهد الثقافي والديني أصبح أكثر تعقيدًا وتشابكًا، وتحديدًا منذ ستينيات القرن الماضي، مع قدوم شرائح سكانية جديدة في موجات هجرة متعددة، إما بحثاً عن عمل، أو هربًا من حروب وأزمات طاحنة.

أديان جديدة انضمت إلى المشهد الديني في سويسرا، منها الهندوسية والإسلامية والعلوية، ومعها تساؤلات عن علاقة الدولة بالدين في مجتمع متعدد ومتنوع.

بالطبع الدولة علمانية، تحترم كل الأديان وتقف منها على مسافة محايدة، رغم أن الطابع الفيدرالي لسويسرا يعقد الصورة أكثر، فكانتوناتها الستة والعشرون لها دساتير متعددة، ومعها علاقة متغايرة بين الدولة والدين، كانتون جنيف على سبيل المثال يتبني نمطًا فرنسيًا في علمانيته الصارمة في الفصل بين الدين والدولة، لذا لا يسمح لمُعلمة على سبيل المثال أن ترتدي الحجاب أو الصليب أو تروج للإلحاد، لأنها يجب أن تمثل علمانية الدولة في زيها وطرحها الأيديولوجي.

في حين أن كانتونات أخرى ناطقة بالألمانية، تعترف بعدد من الكنائس والأقليات اليهودية وترتبط معا بقانون تعاقدي.

دخول الأديان الجديدة، الهندوسية والإسلام، إضافة إلى زيادة عدد اللادينيين، التي تصل نسبتهم إلى نحو 27% من عدد سكان سويسرا، أعاد السؤال من جديد عن علاقة الدين بالدولة.

من هنا جاء عنوان المعرض “شيفا يلتقي بسوفا”!

شيفا هو اسم أحد أكبر الآلهة الهندوسية، وسوفا هو اسم أكبر شركة تأمين ضد الحوادث في سويسرا، وبينهما قصة.

فعند البدء في بناء بيت الأديان عام 2012 في العاصمة السويسرية بيرن، الذي يضم بين جدرانه معظم الأديان المتواجدة في سويسرا (المسيحية، اليهودية، الهندوسية، الإسلام، العلوية، السيخية، البوذية، البهائية)، حدثت مشكلة عند البدء في بناء المعبد الهندوسي، فحسب التقاليد الدينية الهندوسية يقوم رجال الدين ببناء المعبد وهم حفاة الأقدام، لكن قواعد السلامة والأمان المفروضة من قبل شركة التأمين سوفا تُصر على عدم المشي حفاة في مكان العمل.

قاعدة عامة يعمل بها الجميع في سويسرا.

وبعد أخذ ورد توصل الجانبان إلى تسوية مقبولة بينهما، تم بناء منصة داخل موقع العمل، يقف عليها رجال الدين وهم حفاة، ومن فوقها يعكفون على البناء، لكن حين نزولهم إلى الأرض، عليهم ارتداء الأحذية.

نحترم كافة العقائد، لكن القواعد ملزمة للجميع.

كان اختيار هذا العنوان للمعرض ذكيًا.

فهو يعكس طبيعة التشابك والتعقيد في علاقة الدولة بالدين، وضرورة البحث عن حلول عملية تحترم عقائد البشر بتنوعاتها، وتجمع الكل، على اختلاف أديانهم/ن، تحت مظلة الدولة وقانونها.

التسوية الخاصة بقواعد السلامة في البناء وبين والتقاليد الدينية الهندوسية كانت ممكنة.

لكن كيف يمكن للدولة أن تتصرف عندما لاتتوافق نصوص وتقاليد الجماعات الدينية مع مفاهيم المساواة بين الرجل والمرأة؟  هل يجب على الدولة أن تطالب الأديان (الأصح الجماعات الدينية) بالالتزام بمبادئ المساواة ومساءلتها عندما تنتهك هذا الجانب؟

طلب مني منظمو المعرض الرد على هذا السؤال وتسجيله صوتيًا، ولم أكن الوحيدة، أكثر من شخصية سويسرية ردت على نفس السؤال، بينها من تنتمي إلى الديانة اليهودية، وأخرى مسيحية وأخرى لا دينية.

ردي كان واضحًا مباشرًا لا لبس فيه، كالسؤال نفسه.

قلت نعم، يجب على الدولة فعل ذلك، الأديان بصفة عامة لها مساهمات إيجابية في المجتمع، يمكنها أن تكون مصدرًا غنيًا للروحانية والتضامن المجتمعي والمحبة، يمكن للأديان أن تكون ذلك عندما تكون في أحسن صورها، وبالطبع يمكنها أيضًا أن تكون مصدرًا للنزاع والكراهية والحروب، لكن هذا ليس موضوعنا اليوم.

أما عندما يتعلق الأمر بالمساواة بين الجنسين، فإن تأثيرات الأديان تظل أقل إيجابية.

موضوع المرأة يظل شائكًا في معظم الأديان، إذا استثنينا الديانة البهائية، التي قدمت رؤية فريدة للمساواة بين الجنسين منذ بدايتها في القرن الثامن عشر.

أما الغالبية العظمى من الأديان فهي ذكورية حتى النخاع.

وفي الواقع، هناك بعض الجماعات الدينية، التي تؤمن بقيم وأعراف وتطبق قوانين دينية تنتهك مبادئ المساواة بين الجنسين، وتتعامل مع الفتيات والنساء على أنهن قاصرات ولهن قيمة أقل، عندما يحدث ذلك، سيكون على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها في حماية الأضعف داخلها، والالتزام بالتدخل إذا لزم الأمر من أجل تطبيق مبادئ وقيم المساواة المنصوص عليها في الدستور.

في المنصة ذُّكرت الحاضرين والحاضرات بالشخصيات الرئيسية في فيلم سويسري نال نجاحًا دولياً كبيرًا اسمه “متعة الأنثى”، الفيلم وثائقي ويحكي الصعوبات التي واجهتها خمسة شخصيات رئيسية نسوية من خمس ثقافات وأديان مختلفة، وكل منها تحكي قصة انتهاك وتمييز تعرضت له كل منهن، باسم الدين أو الثقافة.

التمييز بين الجنسين قضية وظاهرة تتجاوز الثقافات والأعراق والأديان.

ولأن المسألة كذلك، يتوجب علينا مواجهتها في كل صورها وأشكالها، بغض النظر عن مسببها.

في التسجيل الصوتي، ذّكرت المستمعين والمستمعات بالكفاح الطويل للنساء في سويسرا لتحقيق المساواة بين الجنسين، حصلت المرأة على حق التصويت في عام 1971، وتم تعديل وإصلاح قوانين العائلة بصورة تضمن الكرامة والحقوق المتساوية للزوجين عام 1988، والطريق لايزال طويلًا.

ولذا سيكون من الغريب أن نقبل اليوم بانتهاك حقوق المرأة باسم الحرية الدينية، سيكون من الغريب أن ننسى كل هذا التاريخ باسم الدين أو الثقافة.

هل نغض الطرف عن زواج الطفلات أو الزواج القسري باسم الدين؟ هل نغض الطرف عن ختان الإناث وتشويه أعضائهن التناسلية باسم الثقافة؟ هل نغض الطرف عن قوانين دينية تتعامل مع المرأة على أنها قاصر وتفرض عليها وصاية ولي أمرها الذكر؟

الرد بسيط. “لا.”

“لا” قاطعة واضحة لا لبس فيها.

فحديثنا هنا لا علاقة له بحرية الأديان.

كلنا هنا في سويسرا لنا الحق في ممارسة ديننا.

ما نتحدث عنه هو تمييز وانتهاك يحدث ضد الفتيات والنساء باسم الدين أو الثقافة.

ولذا نحتاج إلى وضوح في الأطر العامة التي يتوجب على كل الأديان الالتزام بها في احترام الحقوق الأساسية للإنسان، وهذا يعني أن حقوق الإنسان والمساواة يجب أن تكون لها الأسبقية على أي دين.

أي دين بلا استثناء.

احترام الإنسان له أسبقية على أية قوانين دينية تنتهك حقوقه وكرامته.

الإنسان أولا.

إذن، كان السؤال واضحًا.

وردي عليه كان مباشرًا.

وبين السؤال والرد، علاقة ملتبسة بين الدين والمرأة.

والمحك هو الدولة، تلك التي تحمي الإنسان على اختلاف هوياته.

نحترم كافة العقائد، لكن قواعد المساواة ملزمة للجميع.

أين المشكلة إذن؟