شكلت فكرة القومية العربية، حلمًا راود خواطر الشعوب العربية، آملين في تكوين تكتل قوي يُمكنهم من مواجهة الصراعات والأزمات التي تُحيط بهم على غرار الاتحاد الأوروبي، لكن الواقع في المنطقة كان أكثر تعقيدًا مما قضى على الفكرة في مهدها وحال دون تحقيق ذلك.

عصر القومية

على عكس المتعارف، لم تنطلق فكرة القومية العربية، بعد ثورة 23 يوليو 1952 في مصر، لكن الحركة القومية العربية ظهرت قبل ذلك، ويُرجع البعض تاريخها إلى نهايات القرن التاسع عشر لمواجهة الحكم العثماني للبلدان العربية، والتدخل الأوروبي، وتحديدًا عام 1891 عند تأسيس الجمعية العربية للفتاة في باريس.

أستاذ التاريخ العربي والإسلامي في جامعة أكسفورد في بريطانيا، يوسف الشويري، يقول في كتابه “تاريخ القومية العربية”، إنه في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تنامى الوعي القومي العربي على التضاد مع الحكم التركي، مطالباً بالاستقلال وبالوحدة العربية، ثم لاحقًا وبعد الحرب العالمية الأولى قاد هذا الفكر حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي والصهيوني والإيطالي.

وتابع الشويري: “اقترابًا من النصف الثاني من القرن العشرين وما بعده تطور الفكر القومي على شكل مشروعات سياسية مثل الناصرية في مصر، والبعثية في سوريا والعراق، وعمليًا اكتسح الساحة السياسية والشعبية في الوطن العربي إلى منتصف السبعينات”، مشيرًا إلى أنه في الوقت الحاضر يدخل الفكر القومي مرحلة أخرى يسميها “الغروبة الجديدة”، والتي تتبنى الديمقراطية وحقوق الإنسان والدعوة إلى مجتمع عربي مدني.

وأشار الشويري، إلى أنه مع قيام ثورة يوليو عام 1952 بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر سيطرت القومية العربية بصيغتها الناصرية على فضاءات واسعة من السياسة العربية، وبالتالي خضع المشروع القومي للاختبار، حيث خاض الناصريون العرب معارك طاحنة سواء مع خصومهم الشيوعيين والإسلاميين والبعثيين في الداخل، أم مع إسرائيل في الخارج.

صعود ناصر

صعود ناصر إلى حكم مصر، حمل معه بزوغ فكرة القومية، وبالفعل بدأ التوجه صوب مُحيطه العربي، سعيًا لإقامة الوحدة والحفاظ على الهوية العربية، وعلى المشروع الوطني والقومي، فدعّمت مصر ثورة ليبيا بقيادة الراحل معمر القذافي، وقدّمت المساعدة السياسية والعسكرية للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، فضلًا عن دعم ليبيا وسوريا والعراق ومختلف حركات التحرر في دول المنطقة.

انطلاقة عبد الناصر السريعة نحو محيطه العربي، توج بإعلان الوحدة بين “مصر وسوريا”، وتكوين الجمهورية العربية المتحدة في 22 فبراير 1958، ما منح الفكرة زخمًا كبيرًا في شتى بلدان المنطقة، وأتى معه تحقيق حلم الوحدة وتشكيل العرب كيان قوي يمكنه مواجهة الأطماع التي أحاطت به وإنهاء الاحتلال، رغم انتهاء الوحدة بانقلاب عسكري في دمشق يوم 28 سبتمبر 1961، وأعلنت سوريا عن قيام الجمهورية العربية السورية، بينما احتفظت مصر باسم الجمهورية العربية المتحدة حتى عام 1971.

وبالتزامن مع كل التحركات الجديدة، انطلقت الهالة الإعلامية التابعة للدولة المصرية، على دعم ونشر الفكرة بكافة الصور الممكنة فغزت الأغاني الوطنية، والأفلام السينمائية كافة البلدان العربية مدغدغة مشاعر الجماهير، التي كانت تعاني من الفقر والاحتلال، وحملت أقلام الكتاب رسائل صريحة وضمنية بأن الوحدة هي الطريق إلى الخلاص من كل هموم الأمة، وبالفعل ارتبطت الشعوب بالفكرة، وبدأ يشعر الجميع بأن مشكلته الخاصة، وأنه دعمه واجب عليه.

السادات
السادات

هزائم وخذلان

المشهد بدأ يتغير قليلًا، مع هزيمة 5 يونيو 1967، لكنه ظل محتفظًا برونقه إلى حد بعيد، لكن التناحر بين التيارات القومية، خاصة بين البعثيين والناصريين، ووفاة جمال عبد الناصر لاحقًا، كلها مثلت صدمات للفكرة، لكن حرب 6 أكتوبر 1973، شهدت دعمًا عربيًا كبيرًا لمصر وسوريا، في مواجهة إسرائيل والغرب والعالم.

التصدع العربي، بدأ يزداد لاحقًا، مع الحرب الأهلية في لبنان، وصعود النزعة الإسلامية في مواجهة حزب الكتائب “الماروني المسيحي”، وما تلاه من الصراع المسلح “المغربي الجزائري الصحراوي” على المنطقة الصحراوية المحصورة بينهم، والمعروفة باسم “الصحراء الإسبانية”، والصراع “اليمني اليمني” بين الشمال والجنوب، حتى جاءت مفاجئة الرئيس الراحل محمد أنور السادات بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد.

إعلان السادات في نوفمبر 1977، في مجلس الشعب المصري، عن سعيه للسلام بكل السبل، وأنه في سبيل ذلك، مستعد للذهاب إلى أي مكان في العالم، وزيارته إسرائيل بعد أيام قليلة من خطابه، ومن ثم توقيع اتفاقيتي كامب دافيد 17 سبتمبر 1978، ثم إلى معاهدة سلام مصرية ـ إسرائيلية 26 مارس 1979، كانت الخطوة التي قضت على حلم القومية العربية، وهو ما ظهر جليًا مع إعلان الدول العربية مقاطعة مصر.

الأزمات السابقة، وسعي إسرائيل إلى إنهاء العزلة المفروضة عليها من الدول العربية، وإنهاء حالة الرفض الشعبي لوجودها في المنطقة، واستغلالها الأنظمة العربية لتحقيق مكاسبها أدت إلى تراجع المشروع القومي العربي، وتخلي الشعوب عن حلم الوحدة، والانكفاء على المحيط القطري والتناحر الداخلي، ومن ثم ظهور الصراعات الشعبوية “العربية العربية”.

هزيمة القومية

وفي ظل حالة التخبط، والصراع “العربية العربية”، أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، السهم الأخير في رحم القومية العربية، معلنًا نجاح الكيان الصهيوني، في هزيمة القومية العربية ودحرها، وجعلها بلا تأثير على دولة الاحتلال التي كانت تواجه هجومًا دائمًا، وعداءً مستمرًا من قبل العرب بمختلف انتماءاتهم.

نتنياهو تحدث في تصريحات من مقر قيادة جهاز الأمن العام الإسرائيلي “الشابك”، قائلا: “إن غاية بلاده الكبرى هي التغلب على التهديد الإيراني التقليدي والإرهابي والنووي، كما تغلبت على التهديد الكبير الذي تمثل بالقومية العربية”، متابعًا: “”نستطيع أن نحقق ذلك وقد أثبتناه، ويجب أن يكون إصرارنا على خوض النضال من أجل ضمان مستقبلنا ودحر أعدائنا أكبر من إصرارهم”.

وقال نتنياهو، في كلمته خلال حفل سنوي في “الشاباك”: “تم إنقاذ حياة المئات من الإسرائيليين بفضل أنشطتكم.. تزايد عدد السياح الذين دخلوا إسرائيل خلال السنوات الأخيرة بنسبة 50%، ولم يكن ذلك ليحدث لولا عمليات قمتم بها، هذا هو مؤشر على الشعور بالأمان”.

تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي، لم تُثير أي ضجة في المجتمعات العربية، رغم أنها تمس هدفًا سعت الأنظمة العربية جميعها في وقت ما إلى دعمه، وانطلقت حركاته في شتى البلدان، ليبقى التساؤل مطروحًا هل أجهض حلم القومية العربية بدون رجعة؟، أم أن المستقبل يحمل سيناريوهات جديدة؟

الاتحاد الأوروبي
الاتحاد الأوروبي

درس أوروبا

فشل الوحدة العربية، سلط الضوء على أسباب نجاح وحدة أوروبا، والتي بدأت كفكر سياسي بارز من الثورة الفرنسية عام 1789، والتي حملت المبادئ الثلاثة العدالة، الأخوة، المساواة، لتكلل لاحقًا بتشكيل الاتحاد الأوروبي، والذي ترجع فكرة انطلاقه إلى معاهدة روما عام 1957 رغم كونها أمم ولغات وثقافات متعددة على عكس ما هو الحال في الوطن العربي ذو الثقافة واللغة الواحدة.

الباحث عاطف أبو سيف، يقول في كتابه “الاتحاد الأوروبي في القرن الواحد والعشرين.. أوروبا والبحث عن دور”: “ارتكز المشروع الوحدوي الأوروبي على 3 أهداف أساسية ستشكل عصب الفكر التكاملي الأوروبي وتميّزه على مدار العقود اللاحقة، وتمثلت في القضاء على التنافس الاقتصادي والصناعي عبر تربيط الاقتصاديات الأوروبية مع بعضها البعض لنفي واستئصال أي توتر وتنافس قد ينشأ”

وتابع أبو سيف: “تضمنت الركائز القضاء على النعرات الوطنية عبر بناء مؤسسات فوق وطنية تعمل على رسم سياسات تعاونية مشتركة تعكس السعي المشترك بدلاً من التنافس الفردي، فضلًا عن بناء أهداف مشتركة ومواقف متقاربة، ووقف سباق التسلح الداخلي، والتركيز على بناء هوية مشتركة بين الدول الأوروبية”.

سفير بعثة الجامعة العربية في برلين سالم قواطين، يقول: “اعتقد أنه يجب النظر إلى تجربة الاتحاد الأوروبي كنموذج عملي لوحدة عربية مقبلة وكقدوة يمكن الاحتذاء بها”، مشيرًا إلى أن هناك مشكلتين تعيقان مشروع الوحدة العربية وهما، أولاً: النفط وما يسببه من تدخلات وأطماع خارجية، وثانياً: القضية الفلسطينية وما ترتب عليها من خلافات عربية حول التعامل معها وطريقة حلها سواء سلمياً أو عسكرياً.

وأشار إلى أن خصوصيات العالم العربي التاريخية والثقافية لا تعيق الوحدة بل إنها عناصر إيجابية يجب أن تستخدم لتسريع عملية الوحدة، متابعًا: “علينا التركيز في البداية على تحقيق الأهداف المشتركة لأنها إذا تحققت فسوف تتحقق الأهداف الخاصة أيضاً وهو ما أثبتته التجربة الأوروبية”.