سطور قليلة تقود الطبيب المصري للتنقيب عن ما فعله الوباء في المصريين.. ويكشف لماذا ارتبط اسم الأنفلونزا بإسبانيا
الوباء بدأ في إسكندرية عن طريق البحر.. والوفيات زادت بسبب سوء التغذية والجوع أثناء الحرب العالمية الأولى
ربما يعتقد البعض أن كوفيد 19 أو فيروس كورونا المستجد، أكثر الأوبئة فتكا بالبشرية من حيث عدد الضحايا والضرر الجماعي الذي وقع على جميع مناحي الحياة في الأشهر الخمسة الماضية، لكن تاريخ الوباء لا يحكم بذلك، فكل مرض ينتشر بين الناس ولا يعرفون كيفية مواجهته بالعلم وتفادي الإصابة منه، فهو أخطر مرض على الإطلاق، لذا فمن عاش الإنفلونزا الإسبانية التي قتلت حوالي 50 مليون شخص في عشرينيات القرن الماضي في ظل الإمكانيات المتاحة حينها أكيد سيرى أنها الأكثر فتكا ولا تقارن بأي وباء آخر.
دفعت جائحة كورونا والعزل الصحي الطويل الذي فرضته على البشرية، الدكتور محمد أبو الغار، الطبيب المتخصص في أمراض النساء والسياسي المعروف، إلى التنقيب عن الأوبئة المماثلة التي كدرت صفو الحياة وأجبرت المواطنين على التزام منازلهم فترات، فعثر خلال رحلة التفتيش عن معلومات ووثائق جديدة لم تنشر من قبل ولم يهتم بها المؤرخون المصريون وكذلك الأطباء الذين يقرأون في التاريخ ويشتغلون بالسياسة عن ما فعلته الأنفلونزا الإسبانية بالمصريين إبان انتشارها في 1918، ليقدم لنا كتابا جديدا من نوعه بعنوان “الوباء الذي قتل 180 ألف مصري” الذي صدر مؤخرا عن دار الشروق.
نبحر مع الدكتور أبو الغار في عالم الأوبئة وكيف تأثرت مصر بهذا الوباء، ولماذا لم يذكر كثيرا عن المصريين الذين قتلهم خلال ذروة انتشاره في العهد الملكي. فما استوقف “أبو الغار” أنه لم يجد شيئا مكتوبا عن تأثير هذا الوباء الفتاك على مصر، رغم بحثه في مؤلفات كبار المؤرخين خلال هذه الفترة، باستثناء السطور القليلة للغاية التي وجدها بمساعدة صديقه د. إيمان يحيى، في كتاب “الأيام الحمراء”، مذكرات الشيخ عبد الوهاب النجار عن ثورة 1919، وسطر واحد وجده في «حوليات شفيق باشا»، جاء فيه: “وقد ساءت الأحوال الصحية في البلاد بانتشار حمى غريبة قاسية أشبه بالوباء الفتاك سميت بالحمى الإسبانية، وفتكت هذه الحمى بالعدد العديد من الناس”.
وجد “أبو الغار” في رحلته بحث صغير كتبه د. كريستوفر روز، أستاذ قسم التاريخ بجامعة تكساس، عن تأثير الإنفلونزا على مصر، وأنها قتلت آلاف المصريين، لأسباب أرجعها كريستوفر نفسه إلى ضعف مناعة المصريين بسبب الفقر وسوء التغذية، وسخرة عدد من الفلاحين في فيلق العمال المصريين، وهو الخيط الذي مشى وراه الدكتور أبو الغار فبدأ سعيه في الوصول إلى د. كريستوفر روز، عبر الإنترنت، ويعرف منه أن الجامعة لديها وثائق الصحة العمومية للسنوات من 1914 حتى 1927 كاملة ومفصلة بدقة، وأنه لا يمانع بإرسال كل هذه الوثائق إلى طبينا المصري، ليطلعه على صفحات من التاريخ المنسي في حقبة مهمة ووباء عالمي كان يصعب إيقافه.
يشرح الطبيب أن المراسلات والوثائق التي تسلمها تحوي شهادات حية مكتوبة للمرضى والأطباء، وتفاصيل دقيقة لما حدث في مصر مع هذا المرض، الذي راح ضحيته 180 ألف مصري، أي 1.5% من تعداد مصر وقتها.
لماذا ارتبط اسم الفيروس بإسبانيا؟
يوثق “أبو الغار” من خلال كتابه أن إسبانيا بريئة من ذلك الوباء الذي نُسب اسمه إليها، موضحا أنه ظهر أثناء الحرب العالمية الأولى، ولأن هذا الفيروس كان يقتل أكثر ممن يقتلون في الحرب، وحتى لا تنهار الروح المعنوية للجنود مُنع نشر أي أخبار عن الإنفلونزا الإسبانية، بينما إسبانيا كانت دولة محايدة لم تتدخل في الحرب، ولذا تفرغت للكتابة عن الفيروس بشكل يومي ومفصل لتصبح المصدر الرئيسي للأخبار، لذا أطلق عليها الإنفلونزا الإسبانية.
لكن اللافت أيضا في مراجعة “أبو الغار” للأوبئة أن الأنفلونزا الإسبانية قد تكون بدأت في الصين، كما بدأ كوفيد19 كذلك، ولكنه بدأ في الوقت نفسه في الولايات المتحدة التي ربما تكون مكان بدء الوباء، ثم انتشر في إفريقيا على مركب بريطاني متجه إلى سيراليون، ليتسبب في مقتل نحو 1.5 إلى 2 مليون فرد.
مراحل الظهور في مصر
عن مراحل ظهور المرض في مصر، توصل إلى أن المرض بدأ في مايو 1918 في مدينة الإسكندرية قادما من أوروبا عبر البحر المتوسط، ثم انتقل إلى بورسعيد ومنها إلى القاهرة في صورة مخففة في يوليه 1918، وفى أغسطس ظهر في الدقهلية، وحتى نهاية شهر أغسطس لم تحدث زيادة واضحة في معدل الوفيات في مصر.
ويوثق الكتاب أن الإصابات بدأت تظهر بكثرة من خلال حالات الالتهاب الرئوي الحادة في المحافظات التي بدأ المرض ينتشر فيها في شهر سبتمبر، وفى نفس الوقت ظهرت حالات التهاب رئوي شديدة مع نسبة وفيات عالية في المنوفية والغربية وجرجا وأسيوط، وفى شهر أكتوبر انتشر المرض في كل القطر المصري بسرعة فائقة، وازدادت نسبة الوفيات بطريقة مريعة، وفى شهر نوفمبر دخل المرض كل ركن صغير في أبعد مكان في مصر، وفى أول أسبوع في ديسمبر وصلت الإصابات والوفيات إلى أعلى مستوى.
كيف تسلل الوباء إلى المحروسة؟
وفقا للوثائق التي حصل عليها “أبو الغار”، فكانت حركة الجيش البريطاني عاملًا من عوامل انتشار الوباء، وكذلك فيلق العمال والفلاحين المرافق للجيش، وجميعهم قادمون من جميع مدن وقرى مصر. وكان حدوث الوباء أولًا بين العسكريين أمرًا طبيعيًّا؛ لأن الاتصال بين أوروبا ومصر في هذه الفترة كان مقصورًا على العسكريين.
وكان واضحًا أن الحالات العنيفة من المرض التي ظهرت بين سبتمبر وحتى نهاية العام، كانت إصابات من نفس الوباء الأول، وليس بسبب عدوى حديثة أو جديدة، وبعد نهاية الفترة الصعبة، استمرَ الوباء على هيئة حالات متتابعة، ولكنها ليست شديدة. العدد الكامل للحالات التي أصابها الوباء غير معروف بدقة، وأحد الأسباب أن الأهالي لا يسعوْن إلى استشارات طبية، برغم أن في مصر مستشفيات مركزية في المدن الكبرى، ويوجد طبيب متوفِّر لكل 100 ألف نسمة.
وكانت زيادة عدد الوَفَيَات عن المعدل الطبيعي خلال المدة التي حدث بها الوباء 138648، هو الرقم التقديري لأعداد المتوفين بوباء الإنفلونزا، ورغم أن حساب عدد الوَفَيَات بهذه الطريقة يُعدّ طريقة غير دقيقة، فإنه ـ في الأغلب ـ قريب من الصحة، وقد دهش كريستوفر روز من أن 1% من سكان مصر يفقدون أرواحهم بسبب وباء الإنفلونزا في غضون ثلاثة أشهر، ومع ذلك يكتشف الأمر في التاريخ المصري الحديث بمحض الصدفة.
وبعد أن تحاور “روز” مع الخبراء في الإنفلونزا الإسبانية، وجد أن رقم 138 ألفًا هو رقم لا بدَّ أن يكون أقلَّ من الواقع، وباتباع طريقة حسابية وصل إلى الرقم الحقيقي، وهو أقرب إلى 180 ألف نسمة.
وقال “روز” إن الفترة الرهيبة للوباء كانت فيها المواد الغذائية شحيحة للغاية، وكان الكثير من المصريين عندهم ضعف ووهن بسبب سوء التغذية والجوع لمدة طويلة في أثناء الحرب.
إجراءات لمنع الانتشار
لا تختلف الإجراءات الاحترازية التي اتبعتها الحكومات لمواجهة كوفيد19 عن إجراءات أوروبا ومصر لمنع انتشار الانفلونزا الإسبانية، فأغلقت جميع المدارس الحكومية، والمدارس التي تخدم فئات معينة من المجتمع، والمدارس الداخلية والعادية، والكٌتاب في القرى، والمدارس العليا والجامعة، بالإضافة إلى التعليم الأزهري.
كما جرى تقييد الحركة ومنعت التجمعات، وإتباع نظام التهوية في دور السينما بالنسبة لأوروبا، كما منعت الجنازات، وجرى إيقاف المحاكمات العسكرية للمتهربين من التجنيد في القرى وإيقاف تجنيد الفلاحين في فيلق العمال المرافق للجيش البريطاني الذي كان مصدرا لانتشار الوباء آنذاك.
درس وباء 1919
وخلص “أبو الغار” في نهاية كتابه إلى أن الدرس الواضح من وباء 1919 هو أن إصلاح النظام الصحي وتوسيعه وتحسينه أصبح ضرورة يجب تطبيقها بقوانين جديدة، مع تغيير القيادات الصحية الحالية وتحسين العلاقة بين النظام الصحي العام والقطاع الصحي الحاص، مع تقوية البحث العلمي والاعتماد عليه.
وختم: “مصر يجب أن تتوقع مشاكل اجتماعية خطيرة تلي انتهاء وباء كورونا، والحول الأمنية فقط لن تنجح، وإنما لا بد من حلول ناجعة في الهيكل الاقتصادي والاجتماعي أصبحت ضرورة عاجلة”.