مفهوم الحرية مثل غيره من المفاهيم “المجردة” مفهوم مراوغ، لا يمكن البت في وصفه أو تحديد معناه بصورة نهائية، وتمثل رؤيتنا له جزءً من تصوراتنا/تفسيرنا العام  للعالم، ومن ثم تختلف رؤانا باختلاف هذه التصورات وهو أمر لا شك مشروع، يؤكد أحدهم أن الإنسان وجد حرًا بلا أية قيود، وأن التنظيم الاجتماعي والحياة داخل جماعة، ومن ثم مجتمع قد حدت وقيدت أفعال البشر، ومن ثم لم يعد هناك حرية مطلقة كما كان الحال في العصور الأولى.

ويرى آخر: “ما أنا إلا كائن بيولوجي جمعتني معًا جيناتي، هي قد وضعت شكلي، وأعطتني أصابعي الخمسة في كل يد، واثنين وثلاثين سِنة في فمي، وأرست قدرتي اللغوية، وعينت أكثر من نصف قدرة ذكائي، وعندما أتذكر شيئا فإن جيناتي هي التي تفعل لي ذلك، فتشغل زر تشغيل منظومة كريب لتخزين الذاكرة، وجيناتي هذه هي التي بنت لي مخي وأوكلت له مسؤولية القيام بواجباته اليومية.

في الواقع أنك قد ولدت لأب وأم لم يكن لك حق اختيارهما، وهو ما أرغمك على أن توجد في هيئة لم يستشرك أحدهما في مدى قبولك بها أو رفضها، وفي واقع الأمر أن جيناتك الوراثية تتحكم في كثير من الأحداث اليومية التي تتورط فيها، وتشكل الجزء الأكبر منك، في داخل مجتمع عادة لا تنفك ترفضه أوتتمرد عليه، وكم كنت تود أن تولد في عصر غير العصر، أو كنت تتمنى أن تولد في مجتمع غير المجتمع، تدين بدين أبيك وأمك، ولا تستطيع تغييره وإلا تعرضت لنفي اجتماعي أو جسدي، وفي الحقيقة أيضا أنك تقوم ببعض الأفعال التي لا تعرف بدقة ووضوح ما الذي يدفعك للقيام بها، وأحيانا ما تتخذ مواقفا ترتكن في أغلبها على دوافع  تجهلها، وفي بعض الأحيان لا تنتمي لشخصيتك، تلك التي ارتضيت أن تظهرها بوصفها تعبيرا اجتماعيا عنك، وكثير من الأشياء التي تسبب لك المتعة، تجهل لماذا هذه الأشياء تحديدا تمتعك دون غيرها، هل كنت تتمنى أن تكون أكثر ذكاء، أو أن تتسم بسرعة البديهة والفراسة.

تبدو المسألة وكأننا أمام حتميات متنوعة، ما بين الحتمية البيولوجية، وحتمية النفوذ الأبوي، وحتمية التكيف الاجتماعي، تدفعنا لأن نقر مع دارون بأن الإرادة الحرة “وهم” يسببه عدم قدرتنا على تحليل دوافعنا الخاصة.

ولعل الافتراض السابق الذي ينفي قدرتنا على الاختيار يكون مرضيا لأكثرنا، فمادامت البيئة قد فعلت فعلتها معنا، فما الذي يجعلنا مدانين أمام انفسنا أو العالم، وما دام الحال هكذا فطبيعتنا الشريرة أو الخانعة أو الطيبة هي نتاج هؤلاء الذين رحلوا عنا من أبائنا وأجدادنا الذين ورثنا عنهم كل شيء بما في ذلك أمراضنا المزمنة، مثلما هي نتاج الطبيعة، فلتذهب بنا الحياة حيث شاءت، وما نحن إلا قطع شطرنج تحركها الأقدار حيثما تريد، وما يحدث لنا أومعنا ليس سوى مقدرات حتمية لا يمكن الفكاك من حبائلها.

الوضع الذي أصفه ـــ واقعي الذي أعيشه بشكل يومي ــــ يجعل مفهومي للحرية بوصفه حقي في فعل ما أريد يتراجع، فأنا في واقع الأمر تحكمني أشياء أجهل معظمها، تجعل سلوكي لا ينتمي كثيرا لمفهوم الحرية الذي يصفه أو يدعو إليه البعض، فاكتشاف كل هذه المسارات الضرورية التي تحكمني يجعلني أعيد النظر في هذه المقولة، وتدفعني لتفكيك هذا المفهوم المراوغ الذي يمكنني في لحظة أن أدفع حياتي ثمنا للدفاع عنه الحرية.

هل يمكن لنا أن نمارس قدرًا من الحرية في هذه اللحظة هنا/الآن تجعلنا نعبر بطريقة ما، ونحن على ثقة، عن حريتنا بوصفها قدرتنا على الاختيار دون أن تمارس الحياة علينا ألاعيبها، أو تفرض علينا مساراتها الإجبارية؟!

هل نحن مخيرون؟! نمتلك القدرة على اتخاذ قرارات على الأقل فيما يتعلق بحياتنا ومصيرنا. أم نحن مجبرون؟! تسيرنا أقدارنا حيث شاءت لا حيث شئنا.

تبدو الحرية وكأنها عبء ثقيل، فكل اختيار أقوم به يعبر عن ملمح من ملامح ذاتي، فأنا لست ما أقول، لست ما أطنطن به من كلمات عن ذاتي أو عن العالم، بل ما أقوم به من فعل، عبر اختيار شائك، عادة ما يكون بالغ الصعوبة والتعقيد، وعلى حد قول “سارتر”: “الإنسان مشروع يسعى للاكتمال”. فهويتي الشخصية ليست كوني ولدت إنسانا، بل ما سأفعله بإنسانيتي، فوجودي ليس من صنعي، بل هويتي هي صناعتي التي أعبر فيها عن وجودي وعن حريتي، وحريتي هي قدرتي على مقاومة الضرورة، فوعيي بشروط وجودي الخاص، والعام، في إطار ظروف موضوعية، وظروف ذاتية بعينها، هي التي تجعلني أقدم على اختيار بعينه بين بدائل عادة ما يكون أحلاهم مر، هذه المعاناة التي تواجهني عند كل اختيار هي التي تمنح لوجودي معنى، ولحريتي قيمة، وتجعلني قادرا على ممارسة إنسانيتي، وبناء مشروعي هويتي.

أصطدم في كل لحظة أعيشها بظروف تحد من قدرتي على الفعل ومن ثم الاختيار، طبيعتي الجسدية تمنعني من إتيان أفعال أتمنى القيام بها مثل الطيران، تصوراتي عن نفسي تمنعني من القيام بأفعال لا تمثلني مثل السرقة، أو قتل مديري في العمل، حتى في حال عدم وجود رجل الشرطة، تصورات الآخرين عني والتي أساهم في تصديرها تمنعني من من فعل مثل هذه الأفعال، وهكذا أنا محاط بشروط تجعل فعل الاختيار الحرية فعل شاق.

في واقع الأمر أستطيع في لحظة ما أن أباغت رجل الشرطة وأسرق شيئا ما أريده، أو أنتقم من مديري بصدمه بسيارة والهروب بعيدا، ولكن هذه الأفعال لا تعني أني حر على أي نحو، بل تعني أني سارق أو قاتل.
تتضح معالم الفوارق الأساسية بين ما أقوم به من أفعال، وبين الأفعال التي يمكن أن أطلق عليها باطمئنان فعل حر، فممارساتي الغريزية، مثل بحثي عن الغذاء، أو إزاحة أحدهم لأجد لنفسي مكانا في أوتوبيس مزدحم، أو غيرها من الممارسات التلقائية التي تحفظ بقائي، لا تعبر في واقع الأمر عن شخص حر، بينما يمكن أن يصبح رفضي للرشوة من أجل الحصول على غذاء، رغم ظروفي المعيشية الصعبة قد يعبر عن فعل حر بامتياز، رغم معاناتي اليومية في توفير سبل الحياة والبقاء.

اختياراتي تعبر في هذا السياق عن إرادتي الحرة، وعن وعيي بظروفي، ومن ثم أتحمل مسئوليتها بنفس القدر من الحرية، فلا حرية دون مسئولية، ففي إطار الحرية لا يوجد مساحات للغفران، ولا توجد مساحات للتبرير والأعذار، وهنا تتبلور الصورة في صياغتها شبه النهائية، فإحساسي بأني شخص حر يستتبع مني أن أقوم في كل لحظة باختيارات صعبة ومصيرية، وأنا أعلم تمام العلم مسئوليتي عن عواقب هذه الأفعال والاختيارات، كما أعلم أنه لا مساحات للمغفرة والمسامحة، دون أن أدفع ثمن هذه الاختيارات، هذه الأفعال لا تحدث بمعزل عن الفضاء الاجتماعي، والإطار الفيزيقي الذي أحيا فيه، وهذا الفضاء وتفاعلي معه هو ما يشكل هويتي بوصفي حرا، وعلى حد قول أحدهم: تظن الطيور بينما تمارس فعل الطيران أن الهواء يشكل عائقا أو تحديا يمنعها من ممارسة هذا الفعل بسهولة ويسر، ولا تعلم في الواقع أن الهواء هو الذي يساعدها على الطيران. هكذا فعل الحرية، لا يمكن لنا اكتشاف حريتنا بمعزل عن المعوقات الطبيعية، والاجتماعية، وظروفنا الذاتية، ووعينا بهذه الملابسات يمنحنا حريتنا ويشكل هويتنا، ويمنحنا القدرة على بناء مشروعنا الوجودي الفردي، والذي يدفعنا لممارسة فعل الحرية عبر اختيار يومي أعظم بل وأصعب، وهو اختيار أن أكون كائنا بشرياعاقلا، ومفكرا، أو أكون كائنا حيوانيا غريزيا.. في هذه اللحظة يصلح للمرء أن يسائل ذاته، أن يشحذ فكره، وأن يطرح سؤاله الوجودي على إدراكه/وعيه حول مدى ما يمارسه من مساحات من الحرية. 

كل شيء في العالم يخضع لقوانين حتمية لا يمكن معارضتها، فإذا ما أمسكت بحجر وألقيته من شرفة غرفتك سيكون مصيره السقوط بفعل الجاذبية، وهو ما يحدث أيضا إذا ما ألقيت بشخص من نفس الشرفة، فقانون الجاذبية يسري على الجميع، ولكن هل يمكن لنا أن نتساءل حول مقاومة كل من الحجر والفرد لي قبيل قيامي بتنفيذ القرار الذي اتخذته لا بإلقاء كل منهما من شرفة غرفتي. لا يمكن لحجر أن يتدخل لمنعي من إلقائه، بينما سيقاومني الشخص قدر جهده.

ومن هنا يأتي الفارق، لا يمكنك التعامل مع ذاتك بوصفك شيء تحكمه قوانين الطبيعة فحسب، كما لا يمكنك التعامل مع ذاتك بوصفك المسيطر على الطبيعة والمتحكم في مجريات أمورك، ومن هذه المعضلة تأتي إنسانية الإنسان، من هذه الدوافع الكامنة التي تجعلك تقاوم الموت، ترفض الاستسلام، تمتلك حلما.

تأتي حريتك إذن من قدرتك على مقاومة هذه الحتمية التي تحيط بك، تأتي الحرية من رغبتك في التمرد على موروثاتك الجينية التي تقودك إلى الاستماع لصوت الغريزة الكامن في أعماقك، والذي يلح عليك أن تتبع الضرورة، فاحساسك بالاستثارة عندما تجد إمرأة تخطر أمامك في الشارع لا يستلزم متابعتك للغريزة لتنقض عليها لتقضي منها وترا، إذ يرغمك شعورك الحاضر بالحرية أن تسلك مسالك إنسانية أخرى تجعلك قادرًا على إشباع احتياجاتك الضرورية التي تلح عليك من آن للآخر، لأنك تؤمن بأن حريتك التي تجعل منك إنسان تقتضي بأن الآخر يمتلك نفس المزية، فتقاوم غريزتك الأولية لأنك في لحظة وعي اتخذت قرارا واخترت أن تكون إنسان بأن تقاوم الضرورة.

تكمن الحرية، إذن في أن يعبر المرء عن حتميته الخاصة، وليس عن حتمية شخص آخر، فإذا كانت الحرية هي ما نفضله، فسيكون من الأفضل إذن أن نلتحم بقوى تنبع من ذواتنا، وليس من الآخرين، لأن كل فرد منا يمتلك طبيعة فريدة ومختلفة تنمو من الباطن، إنها “الذات”.