“اهتفوا باسم الإلة”، قالها المخرج العالمي يوسف شاهين، بأوبريت في فيلم “إسكندرية كمان وكمان”، في تعبير عن التجربة الناصرية ومُحبيها، وما كان يريد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، أن يتحول إليه الشعب المصري خلال فترة حُكمه، ويستكمل الأوبريت وصف الحقبة الناصرية وما تعرض له معارضيه من السجن والتعسف، ملخصًا الـ18 عامًا التي قضاها بالحكم، لكن الأمر في بداية حكم “ناصر”، كان حالمًا، فأقرت مبادئ الثورة ببناء حياة ديمقراطية، وهذا ما أوهم به العاملين بالمجال الفني ككل، لمعرفته بأهمية السينما في التأثير بحياة الشعب، وإمكانية استخدامها كأداة من أدوات النظام، وساهم في ذلك، ما كان عليه حال السينما في عهد الملك فاروق، من اعتبارها أداة من أدوات اللهو والكسب المادي.
دعم عبد الناصر، السينما وملئ صناعها بالأحلام الوردية لمستقبل مشرق مُفعم بالحرية والاستقلال، وسمح بعرض فيلم “لاشين”، الذي رفض الملك فاروق طرحه بالسينمات لتنبُأه بالثورة، وفيلم “مصطفى كامل”، وإنشاء “مؤسسة دعم السينما” التي تحولت عام ١٩٥٨ إلى “المؤسسة المصرية العامة للسينما”، بالإضافة إلى تأميم شركة “مصر للتمثيل والسينما”، وظهرت بعدها أفلام تؤيد الثورة وتعمل على إظهار إنجازاتها والمبالغة في مدحها، وكان من هذه الأفلام “رد قلبي” و”المماليك” و”يسقط الاستعمار”.
وفي تلك الفترة ظهرت أصوات إخراجية مستقلة ذات فكر مختلف عما يتم تقديمه بالسينما، ترى أنه لابد من تقديم الوجه الآخر للحياة المصرية، وأن سينما الواقع بسيئاته السياسية والاجتماعية يجب أن تظهر للناس للتوعية، وكان من هؤلاء الأصوات رائد مدرسة الواقعية المخرج صلاح أبو سيف وتوفيق صالح وحسين كمال، والذين واجهوا الكثير من الصراعات مع “عبد الناصر” ونظامه، خاصة بعد نكسة 1967.
وفتح الرئيس محمد أنور السادات، بعد رحيل “ناصر” الباب لنقد النظام السابق له، بشكل من الحرية، حتى يتحول إلى الرئيس الديمقراطي الداعي للحرية.
ونرصد في ذلك عدد من المخرجين الذين غيّر جمال عبد الناصر مسارهم الفني بسبب ديكاتوريته، وكيف كانت النكسة بداية فضح النظام الناصري.
توفيق صالح.. “عسّفه نظام عبد الناصر وانهت السياسة حياته الفنية “
بدأ توفيق صالح، حياته المهنية بعد عودته من فرنسا، بفيلم “درب المهابيل”، عام 1955، وهو من تأليف توفيق صالح ونجيب محفوظ، وقد جعلا الاثنين من الفيلم تعبيرًا عن الواقع المصري حينها بامتياز، فتدور أحداث الفيلم حول حارة مصرية فقيرة يتصارع سكانها على الفوز بورقة يا نصيب لكي تنتشلهم من الفقر المدقع والمرض.
الإسقاط في هذا الفيلم، أن الحارة هي البلد التي تحاول الخروج من الفقر التي تعيش به متأملًا بذلك في ثورة يوليو، ليأتي الفيلم التالي وهو “صراع الأبطال”، والذي قاله عنه “صالح” في أحد حواراته الصحفية:” صراع الأبطال ” اتعمل في فترة أنا كنت مقتنع بالنظام في مصر، مقتنع وأحبذ النظام في مصر وسعيد بعبد الناصر شخصيًا”، لتأتي نهاية “صالح”، على أيدي “المتمردون”، هذا الفيلم الذي نال بسببه الضرب في ليلة عرضه الخاص داخل السينما من قوات الأمن.
الفيلم كان يحتوي على إسقاطات أدت إلى غضب سلطة عبد الناصر، وتم سحب الفيلم من السينمات وكان هذا قُبيل نكسة 67، والفيلم انتقاد مباشر للسلطة التي سرعان ما فقد بها “صالح” الأمل بأن تُحسن حال البلاد، لتكون أحد الجمل الحوارية بالفيلم “لا يكفي أن تثور إنما من المهم أن تتمكن من إدارة الثورة بعد ذلك”، ولكن لكي يتم عرضه اشترطت الرقابة إضافة مشهد النهاية، وتم ذلك بالفعل وعُرض عام 1968.
بعدها قدم المخرج توفيق صالح، والذي استمر فيه بمهاجمة ناصر، وسياسة الرجل الواحد، والتي ستطيح بالبلد بأكملها، وواجه مأساة جديدة مع الرقابة بسبب ذلك الفيلم، إلى أن نال مقص الرقيب منه حتى يُجاز عرضه، وتكررت ذات المأساة في آخر أفلامه بمصر وهو “يوميات نائب في الأرياف”، الذي عُرض على لجان رقابية وشاهده السادات بتكليف من ناصر، وتم النيل منه رقابيًا، حتى أجازه عبد الناصر بعدما شاهده، ليخرج بعدها توفيق صالح من مصر، بعدما فقد الأمل.
صلاح أبو سيف.. “الواقعية التي صارحت نظام عبد الناصر”
كانت أولى خطوات المخرج صلاح أبو سيف في عالم السياسة هي فيلم “القاهرة 30″، الذي تم إنتاجه عام 1966، الفيلم احتوي على إسقاط مباشر على المجتمع المصري بكل مكوناته في نهايات الحقبة الملكية، ومع مصارحته للواقع في عهد “ناصر” كان لابد أن يكاشف الرئيس نفسه وكان هذا بخطوته التالية وهي فيلم “الزوجة الثانية”، الذي أشار فيه إلى فساد الحاكم ومعاونيه، وما تعرضت له مصر من تأميم الحكومة لعدد كبير من ممتلكات بعض المواطنين دون سبب واضح وإجبارهم عن التنازل للدولة عنها.
استمر “أبوسيف”، في بعث رسائله إلى دولة يوليو فقدم “القضية 68″، عام 1968، للوقوف على بعض أسباب النكسة، وقد رمز فيه إلى طريقة تعامل الثورة مع أعدائها ولجؤها إلى اجتثاث أعداءها من جذورهم، ليكون رد فعل الدولة واضح تجاه “أبو سيف”، في هذا الفيلم ليتعرض كسابقه توفيق صالح للضرب أثناء العرض الخاص للفيلم، وحدثت اشتباكات مع أسرته، وفقًا لما قاله ابن المخرج الراحل في أحد البرامج التليفزيونية.
بعدها اعتزل “أبو سيف”، الواقعية السياسية حتى نهاية عهد “ناصر” و “السادات”، ليعود إلى الواقعية السياسية في عهد الرئيس الأسبق “حسني مبارك” من خلال فيلم “البداية”.
حسين كمال.. “جواز عتريس من فؤاده باطل”
كان فيلم “شيء من الخوف”، هو أولى صدامات المخرج حسين كمال ونظام ناصر، في عام 1969، بعدما أرسلت جهة مجهولة رسالة إلى الاتحاد الاشتراكي العربي، تتهم مؤسسة السينما بتصوير فيلم يُعادي الرئيس جمال عبد الناصر، وأن “عتريس” هو إشارة للرئيس، حتى استعان نجيب محفوظ “رئيس المؤسسة حينها”، بالمستشار السياسي الخاص به لإيجاد حل والانتهاء من تنفيذ الفيلم، طبقًا لما صرح به الكاتب يوسف القعيد في أحد اللقاءات التليفزيونية، مضيفًا أن “ناصر” طلب مشاهدة الفيلم بنفسه بعدما حدث من صراعات حول إمكانية عرضه، وصرح بعدها “إذا كنتم تشاهدوني مثل عتريس فأعرضوه للجمهور”، وقد كان هذا الفيلم هو وليد “نكسة 67” ووثيقة مشاعر المصريين بعدها، وجاء معبرًا عن الظلم والفساد الذي أدى إلى حدوث النكسة.
استكمل “كمال” أفلامه السياسية في أوائل عهد “السادات”، بفيلم “ثرثرة فوق النيل”، والذي يعد من أفضل أفلام السينما المصرية، والذي كان إسقاطًا واضحًا وصريحًا على نكسة 67، وأثرها على المصريين وكيف كان “أنيس أفندي” معبرًا عن الشعب المصري ذلك الموظف الذي يؤدي روتينه اليومي صباحًا ويهرب مساءًا بالمخدرات للتخلص من هزيمة يوليو، وقد ترك “السادات” الفيلم يظهر للنور في محاولة منه لإحداث صُلح مع المجتمع في بداية عهده.
لم يتوقف “كمال” حتى طرح عام 1979 فيلم “إحنا بتوع الأتوبيس”، وهو أحد أهم 100 فيلم في مصر، والذي تدور أحداثه حول نكسة 67، ليعرض من خلاله ما كان يحدث في سجون “ناصر” من تعذيب وقمع وفساد وظلم أدت أيضًا إلى حدوت الثورة.
يوسف شاهين.. “أحب ناصر وهرب خوفًا من تعسفه”
يعد المخرج العالمي يوسف شاهين أحد أبناء التجربة الناصرية بامتياز، وكان في بدايتها من أهم مؤيديها، ليتنبأ بتحقيق أحلامها بفيلم “الناصر صلاح الدين”، في إشارة إلى الرئيس الراحل، وذلك عام 1963، ومن بعدها فيلم “فجر يوم جديد” عام 1965، ثم طلبت منه الدولة إخراج فيلم “النيل والحياة”، تعبير عن الصورة المشرقة التي تسعى الثورة إلى تحقيقها، ليكون هذا الفيلم هو بداية الخلاف مع الدولة، كما قال “شاهين” بأحد لقاءاته السابقة، والذي بدأ، حين قال له وزير الثقافة أثناء تصوير الفيلم: “أنت عايز تفكر على كيفك”، وهذا ما اعتبره “شاهين”، بداية التعسف من قبل الدولة على أفكاره وطريقته، وحدثت بعدها مشكلة مع الرقابة، فقرر على آثرها ترك البلد، ليقدم عدة أعمال فنية مع الرحبانية، حتى أمر “عبد الناصر”، بإعادته مرة أخري إلى مصر، ولكن لم تكن عودته بمحبة ناصرية كما غادر، لتكن عودة حزينة على الأرض التي ضاعت في النكسة، بالإضافة إلى رغبة في إظهار أسبابها، بشتى الطرق وإعلانه أن ما حدث كان للفساد الذي نهش في جسد الدولة في عهد “ناصر”.
فكان أول فيلم حين عودته هو “الأرض”، والتي ضاعت في نهاية الفيلم بسبب نظر الجميع لمصالحه سواء كانت دولة أو متطلعين أو مشايخ ومن دفع ثمن هذا الضياع هو الشعب، وكان هذا عام 1970، ثم أصبح الانتقاد في نظام ناصر، أسهل في عهد السادات، ليستمر انتقاده بفيلم “الاختيار”، والذي تم عرضه عام 1971، ولكنه مع بداية مرحلة جديد كان الانتقاد بسيط، ليتحول بعد ذلك إلى الضرب في صمام النظام، في فيلم “عصفور”، الذي دارت أحداثه حول فساد النظام بشكل واضح وصريح والجزم بأنهم سبب النكسة، وعبر أيضًا عن هذا الفساد بفيلم “إسكندرية ليه”، و”حدوته مصرية”، وعما تعرض له من تعسف في هذا العهد، ورغبة الرقابة في التضييق عليه.
ازدهار وسيطرة
وفي ذلك قال الكاتب والناقد الفني أسامه صفار: “شهد عهد الرئيس عبد الناصر بالفعل ازدهارًا فنيًا كبيرًا ولكنه كان مصحوبًا بالسيطرة من النظام على السينما والفنانين بتجنيدهم، بالإضافة إلى استخدام كل الطرق التي تروج لنظامه سواء كانت أفلام روائية أو تسجيلية، وامتد هذا إلى أن جريدة مصر السينمائية والتي كانت تنشر أنشطة ناصر.
وأضاف صفار، أن الأفلام الروائية كانت تخضع للمراقبة قبل الكتابة وأثناء التصوير، بالإضافة إلى الرقابة الذاتية التي كان يقوم بها المؤلفين والمخرجين على أنفسهم نتيجة عملهم بهيئة حكومية، وهي “هيئة السينما” التابعة للدولة، كما تعرضت عدد من الأفلام للمنع بعد النكسة مثل “شيء من الخوف”، رغم أنه من إنتاج الدولة، وتم عرضه بإيجاز من عبد الناصر نفسه، وتوالت الأحداث بعدها ليهرب عدد من المخرجين إلى بيروت، إما بحثًا عن منتج بعدما اقتصر الإنتاج على الدولة أو لمشاكل مع الرقابة، مثل يوسف شاهين الذي اصطدم مع مدير مؤسسة السينما، وكان شقيق عبد الحكيم عامر وزير الدفاع حينها.
وعن نظام السادات، قال: إن الرئيس الأسبق كان مُحبًا للسينما بشكل شخصي، ولكنه كأبناء ثورة يوليو أحب استخدامها لصالحه ولصالح نظامه، فأمر بإنتاج أفلام موجهه تنتقد ثورة يوليو ونظام جمال عبد الناصر بشكل خاص، وبالفعل ظهر في عهده الكثير من تلك الأفلام، موهمًا الشعب أنه أطلق الحرية للسينما، ولكنها كانت موجهه لتحقيق أغراضه الشخصية.
وأشار السياسي ياسر الهواري، إلى النظام الذي اتبعه ناصر، بأنه كان جيدًا في بعض جوانب البعد الاجتماعي، ولكنه انتهج سياسة العنف والقمع لأي صوت معارض له، وعلى مستوى السينما فأنه استخدمها كأداة من أدواته تحقيقًا لرغباته السلطوية، ومنع وعارض عدد من الأفلام لانتقادها له، كما قام بضرب بعض المخرجين أثناء عروض أفلامهم الخاصة، وسجن عدد أيضًا من الشعراء وكتّاب الرأي، وأتت نكسة 67، والتي كان القمع والرأي الأوحد أحد أسبابها، بقمع جديد في عالم السينما، وأدى ذلك إلى هروب البعض و تحول المسيرة الفنية بالكامل لآخرين.
وأكد أن السادات لم يكن أفضل من ناصر في شيء، بل كان مدعيًا للحرية والديمقراطية، فكان يُشجع فقط ما يخدم مصالحه الشخصية، إلى أن انتهى به الأمر بزجه بمعارضيه من فنانين وشعراء في السجون وظلوا بها حتى اغتياله.