في خطوة مفاجأة للجميع، قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في مطلع يوليو الماضي، تمديد ولاية رئيس جهاز الموساد يوسي كوهين، لمدة ستة أشهر، جاء القرار في يوليو، بينما تنتهي ولاية كوهين في يناير المقبل، فكان السؤال ما وجه الاستعجال؟ وما هي المبررات التي تجعل نتنياهو يتمسك بكوهين إلى هذه الدرجة، خصوصا أن الأخير يتولى منصبه منذ يناير 2016، وعادة ما يتولى رئيس الموساد منصبه لخمس سنوات على الأكثر ولا يتم التمديد له؟

الإجابة لم تتأخر على كل حال، فما بات يرشح على السطح من أدوار كوهين في هندسة العلاقات الإسرائيلية العربية في ثوبها الجديد، تبدو إحدى الأسباب الحقيقية لتمسك نتنياهو برجل الموساد الذي بات اسمه يتردد بكثافة في عدة عواصم عربية، فالمهام التي يضطلع بها كوهين لم تنته بعد، وجني ثمار ما زرع يحتاج إلى عدة شهور أخرى.

وجه نتنياهو الشكر علنا إلى رئيس الموساد على دوره المهم في تحقيق ما وصفه بـ “الإنجاز التاريخي” في إشارة إلى تطبيع العلاقات مع الإمارات العربية المتحدة الأسبوع الماضي. إشارة نتنياهو كانت واضحة على الدور المحوري الذي يلعبه رجله القوي في علاقات تل أبيب مع محيطها العربي، بصورة فاقت دور وزارة الخارجية الإسرائيلية التي تقاتل بحثا عن ضوء تحت ظل رئيس الموساد.

 عراب العلاقات الإسرائيلية الخليجية ومهندس قطار التطبيع السريع الذي انطلق من أبوظبي

ينظر إلى يوسى كوهين، الذي يتقن العربية، كعراب العلاقات الإسرائيلية الخليجية، ومهندس قطار التطبيع السريع الذي انطلق من أبوظبي، ويبدو أنه لن يعرف التوقف إلا بعد أن يضم العديد من العواصم العربية إلى نادي التطبيع المجاني مع تل أبيب، إذ دشن إدارة في الموساد يوليو 2019، مهمتها رصد فرص تحقيق السلام مع دول عربية، وفعليا تولت هذه الإدارة ملف التطبيع مع دول المنطقة.

في 13 أغسطس الجاري، استيقظ العالم على إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب من البيت الأبيض، عن التطبيع الإماراتي الإسرائيلي، بعد اتصال جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد، لتدور عجلة التطبيع سريعا، فخلف أضواء الكاميرات كان يوسي كوهين انتهى من إعداد كل شيء، اتفاقية سلام من منطلق قوة تقوم على مبدأ “السلام مقابل السلام”، وتبادل سريع للسفراء، مع وعد هلامي بتأجيل ضم أجزاء من الضفة الغربية إلى الكيان الصهيوني.

نموذج اتفاقية السلام الذي يضع كوهين الرتوش الأخيرة عليه خلال زيارة مرتقبة إلى الإمارات  سيكون النموذج الذي يعمم فيما بعد

نموذج اتفاقية السلام الذي يضع كوهين الرتوش الأخيرة عليه خلال زيارة مرتقبة إلى الإمارات، سيكون النموذج الذي يعمم فيما بعد، فمن الواضح أن الإمارات ليست وحدها في التطبيع، فبات في حكم المؤكد أن تدخل مملكة البحرين في الصف، وبعدها سلطنة عمان، وربما المملكة العربية السعودية وقطر، وسيضم نموذج الاتفاقية بنود التعاون الاقتصادي والسياسي والتكنولوجي والأمن.

نجح كوهين في المهمة التي أوكله بها نتنياهو إذن، استطاع رئيس الموساد تحقيق اختراق عظيم للأمن الإسرائيلي وخطط التوسع والهيمنة، إذ يبدو أن العرب بعد سنوات من التواصل مع الموساد ورئيسه، قد فرطوا في مبدأ “الأرض مقابل السلم”، ولم يعد هناك أي مكان لمطالب فلسطينية على طاولة التطبيع، وضع كوهين أسس الاتفاق مع الإمارات في سلسلة من الزيارات السرية إلى أبوظبي.

رتب لقاء نتنياهو مع رئيس المجلس السيادي في السودان في أوغندا فبراير الماضي.. وقبلها تولى إعداد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى سلطنة عمان

ما حققه كوهين جاء بعد سلسلة من الاختراقات في ذلك الملف، إذ رتب لقاء نتنياهو مع رئيس المجلس السيادي في السودان، الفريق عبد الفتاح البرهان، في أوغندا فبراير الماضي، وقبلها تولى إعداد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى سلطنة عمان، حيث التقى الأخير بالسلطان قابوس في أكتوبر 2018، كما سبق لكوهين أن زار العاصمة القطرية الدوحة، وهو على اتصال دائم بالقطريين.

كوهين قال في مؤتمر عقد بمدينة هرتسيليا الإسرائيلية يوليو 2019، إن بلاده أنشأت مكتبا تمثيليا لوزارة الخارجية الإسرائيلية في مسقط، وأن استعادة العلاقات بين البلدين “هي الجزء المرئي من جهد أوسع بكثير لا يزال سريًا”، تصريحات تزامنت مع مؤتمر عقد البحرين وعرف إعلاميا باسم “ورشة البحرين”، والتي اعتبرت ترويجا لخطة سلام أميركية لتسوية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، لكن الشعب الفلسطيني وقياداته رأوا فيها محاولة لتصفية القضية.

تحدث رئيس الموساد الإسرائيلي من خلال إدراكه لما تحقق على الأرض، فقال إن الأجواء الحالية تشجع على “فرصة غير مسبوقة، وربما الأولى على الإطلاق في تاريخ الشرق الأوسط، للتوصل إلى تفاهم إقليمي يمكن أن يؤدي إلى اتفاق سلام شامل”، تصريحات قيلت في يوليو 2019، وبدأت في التحقق أغسطس 2020.

يحق لكوهين أن يتفاخر بما وصل إليه، فقد حقق العديد من الانتصارات المدوية دون أن يطلق رصاصة، يعرف أن التاريخ سيذكره جيدا بصفته الرجل الذي وضع مفاهيم جديدة للأوضاع الاستراتيجية والسياسية في المنطقة محل التنفيذ، فهو الرجل الذي دشن تحالفا يجمع بين العرب وإسرائيل على أشلاء فلسطين، في مواجهة المحور الإيراني، لذا لم تتأخر “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية في يونيو الماضي، عن كيل المديح لكوهين باعتباره مسؤول تطوير العلاقات الهادئة مع دول الخليج.

لكن ما يقرب بين كوهين وأنظمة عربية في الخليج لا يتوقف عند السلام وتطبيع العلاقات، بل يجمع بينهم أيضا العداء لمشروع إيران في المنطقة، إذ تتفاخر الصحف الإسرائيلية بإنجاز كوهين الأبرز، والمتمثل في الحصول على الأرشيف النووي الإيراني (نحو نصف طن من الوثائق) من قلب طهران، يناير 2018، في واحدة من أكبر عمليات التجسس في تاريخ الكيان الصهيوني، والتي رفعت من أسهم كوهين داخل أروقة صناعة القرار بتل أبيب.

انتصارات كوهين (مواليد العام 1961)، عربيا وإيرانيا، جعلت نتنياهو يفكر في أن يكون رجله الأمني الأول خليفته السياسي، خاصة أن كوهين معروف بمواقفه المتشددة إزاء القضية الفلسطينية، وهو لا يعترف بأي حقوق للفلسطينيين في إقامة دولة من الأساس.

وكوهين من الإسرائيليين الذين ولدوا على الأرض العربية المحتلة، وأدى الخدمة العسكرية العام 1979، نفس العام الذي شهد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، لكنه سرعان ما انضم إلى جهاز الاستخبارات الإسرائيلية “الموساد”، ليتدرج في أروقة الجهاز حتى تولى رئاسة وحدة “تسومت” المسؤولة عن تجنيد عملاء لإسرائيل، في العام 2006.

وأصبح كوهين نائبا لرئيس جهاز الموساد بين عامي 2011 و2013، إذ غادره ليتولى منصب مستشار الأمن القومي لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وضمنت له علاقته المميزة بنتنياهو رئاسة الموساد بداية من يناير 2016.

نجح كوهين، الذي يعرف إعلاميا بلقب “عارض الأزياء” لأناقته، في تنفيذ المهام التي أعطاها له نتنياهو، ومع أفول نجم الأخير السياسي وتقدمه في السن (70 عاما)، يبدو أن اسم يوسي كوهين يتردد بقوة، باعتباره الزعامة السياسية القادمة في إسرائيل، تدعمه في ذلك سيرة ذاتية قوامها الحصول على اعتراف عربي واسع بالوجود الإسرائيلي، فعلى ما يبدو أن اسم كوهين سيكون متداولا في نشرات الأخبار العربية في الفترة المقبلة.