تلعب السينما دورًا هامًا في حياه المجتمعات، إذ تعتبر المرآه التي تعكس حال الشعوب ما يجعل المشاهد والمتابع لها قادرًا على تحديد المستوى الفكري والثقافي والاجتماعي ومدى النهضة لتلك الدولة، بمجر بعض أفلامها.

دخلت أول آلة تصوير في إيران في العهد البهلوي على يد الشاه مظفر الدين

الفنان الإيطالي ريتشيوتوكامود، ألمح إلى أن السينما تعد أعم وأشمل الفنون، وهو ما تجلى ظهور قوة تأثيرها في شعوب العالم، وتعلقهم وشغفهم الحاد بها، حتى صارت النافذة التي يمكن أن تطل منها على عالم معرفة حضارات وثقافات وعادات وتقاليد الشعوب الأخرى بل تطورت حد جعلها أداة تكوين فكر ووعي وثقافة المواطنين، وانعكاسًا لأوضاعهم السياسية والاقتصادية وهو ما سنتابعه في تحليل لتطور السينما الإيرانية التي صارت إحدى أهم السينمات عالميًا.

قبل الثورة

دخلت أول آلة تصوير في إيران في العهد البهلوي على يد الشاه مظفر الدين عام 1900، وبعد 4 سنوات أقيمت أول قاعة سينما في البلاد، إلا أن باكورة الإنتاج الإيراني للأفلام جاءت عام 1930 بفيلم صامت حامل اسم “أبي وربي” الذي أخرجه “أفانيس” قبل أن ينتج أول فيلم ناطق باللغة الفارسية عام 1940 وحمل اسم “الفتاة اللير”.

لتبدأ السينما الإيرانية باحتلال مكانة مميزة في قلوب الإيرانيين وتصبح جزءًا أصيلاً من جذروه المتأصلة بالمجتمع الذي كان مقاربًا للمجتمعات الأوربية المتحررة متأثرًا بثقافتها، وانعكس ذلك على أعماله حتى جاءت الحرب العالمية الثانية، لتكون بمثابة الردة على الانفتاح الفني.

راجعت وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي كافة الأفلام التي عرضت في إيران منذ بدأ صناعة السينما

بعد انشغال الشاه محمد رضا بهلوي، بتجهيز ودعم قواته العسكرية عقب ولعه بالسينما، ولتكون تلك الفترة نقطة التحول الحقيقي في الصناعة إذ افتقرت لتقديم موضوعات قوية تناسب المجتمع وفضلت سينما الجنس والعنف عن السينما المستنيرة التي أحبها الإيرانيون فوضعت النساء في دور العاهرات بصور مختلفة تزامنًا مع تراجع القوة الإنتاجية، ما أسفر عن نفور المواطنين منها وعزف عنها المفكرون واعتبروها أحد أدوات تجهيل وتضليل الشعب، وأنّها “تجارة غير مشروعة”.

تراجع اهتمام الشاة بالسينما والسينمائيين دفعهم لدعم الثورة الإسلامية، أملاً في التخلص من الحكم البهلوي ودعمًا للتغيرات السياسية التي ربما تخلق مساحة جديدة من الإبداع والحريات والمرونة في تقديم سينما هادفة تنال إعجاب الجمهور.

السينما الإيرانية

سينما الموت

اشتبك داعمي الحراك الإسلامي في إيران مع الحكم البهلوي لـ4 سنوات سعوا خلالها لإنجاح تحركاتهم وتحقيق أهداف ثورتهم المأمولة، وهو ما انعكس على واقعة تسببت في مقتل 400 شخص خلال مشاهدة لأحد الأعمال السينمائية المعروضة، إذ أحرق مجهولون سينما “ريكس” بطهران إبان عرض فيلم “ذا دير”، والذي تدور أحداثه حول الثورة المضادة للنظام، ذاع صيته وجذب الجماهير من جديد.

الثورة أجازت 252 فيلمًا من بين 2208 فيلمًا

سعت كل الأطراف لتبرئه نفسها من تلك الواقعة، فأكد رئيس هيئة الشئون الثقافية بالحكومة الإيرانية المؤقتة حينها “برفيز فرجافند” في تصريحات صحفية للوكالات الرسمية، أن من يظن محتوى السينما قاصرًا على الجنس والعنف وينظر إليها بسطحية، هم نفس الأشخاص الذين تصدوا للثورة وتواطئوا من نظام الشاه لحرق دور السينما والعديد من الأماكن العامة للدولة.

سينما الثورة

عقب نجاح الثورة الإيرانية الإسلامية وتمكنها من تغلغل داخل كافة مؤسسات الدولة، راجعت وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي كافة الأفلام التي عرضت في إيران منذ بدأ صناعة السينما فيها، لتشمل محصلة المراجعات أكثر من 2208 فيلمًا أجازت منهم عرض 252 فيلمًا فقط، دون أي معيار للانتقاء سواء عبارة وحيدة سجلت على هذه الأفلام “متوافقة وملتزمة بالمعايير الإسلامية”.

لتعود من جديد محاولة إحياء السينما مرة أخري تحت لواء القيادة الثورية، إذ قامت المؤسسات الحكومية التي صادرت المعدات السينمائية المستخدمة في إنتاج أفلام التجربة الأولى التي كانت عام 1941، بتقديم أعمال فنية تتماشى مع الرؤية الإسلامية الواعظة للجمهور والداعمة للنظام والمؤيدة لكافة قرارته ليستمر عزوف الجمهور، ولتتحول السينمات لساحات مهجورة.

أمام الوصاية الحكومية على الأعمال الفنية هاجر العديد من صناع السينما خارج البلاد

وهنا أدركت الحكومة الإيرانية أن ما آلت إليه الصناعة بات مذريًا ويجب أن تسلك طرقًا أخرى إن أردت إنعاش السينما بعدما أوشكت على الإفلاس فلجئت للتعاون مع  المنتجين السينمائيين، بشرط أن تتوافق أعمالهم مع القيم الأخلاقية والشريعة الإسلامية، فأنتجت 40 فلمًا بين عامي 1979 و 1985.

أمام الوصاية الحكومية على الأعمال الفنية هاجر العديد من صناع السينما خارج البلاد احتجاجا علي الأوضاع التي وصلت إليها السينما، رافضين عملهم الموجهة، وانتحر واعتزل آخرون، بينما رضخت قلة منهم للمعاير الجديدة.

https://www.youtube.com/watch?v=yvSpZQIrMfM

بداية العالمية

بالرغم من القيود المفروضة على السينما وتضاءل الإنتاج استطاع صناعها الوصول إلى العالمية ليحصل فيلم ” طعم الكرز” للمخرج عباس كياروستامي عام 1997، على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي، ليصبح “طعم الكرز” نافذة يطل من خلالها الغرب لاكتشاف السينما الإيرانية.

وتتوالى بعدها الجوائز  ويصل عددًا كبيرًا من الفنانين بأفلاهمهم إلى العالمية، فاستطاعت  الأفلام الإيرانية الـ4:” الانفصال”، و”عن قرب”، و”طعم الكرز”، و”وأين دار الصديق؟”، الحصول على مكان في  قائمة أفضل مئة فيلم في استطلاع أجراه موقع “بي بي كالتشر؟”.

عباس

ليأتي “فيلم فارسي” للمخرج إحسان كوشباخت”، و”النساء حسب نظر الرجال” للمخرج سعيد نوري، ليشاركا في مهرجان “روتردام” في دورته الـ49، ليكشفا في تجربة سينمائية ملهمة تاريخ السينما الإيرانية القديمة، منذ بدايتها.

رفض بعض صناع السينما الإيرانية الرقابة الموضوعة على الإبداع الفني

فالفيلم الأول لـ”كوشباخت” تعرض لتاريخ صناعة السينما الصامتة وكل والأفلام التي عرضت بلاد فارس حتى الأفلام التي أعدمتها رقابة الثورة الإسلامية، أوضح مفهوم السينما الشعبية في إيران وأهميتها ومدى تعلق الجماهير بها، وكذلك أهمية الموضوعات التي طرحت حينها، وأكثر أفلام تاثيرًا والتي خلقت مفهوم “سينما الإنسان”، كما تناول حالة الفصام التي عانى منها الفن في أواخر عهد الشاه البهلوي، ما بين الحداثة والحرية الغربية التي اتسم بها المجتمع الإيراني وبين الأفلام المعروضة التي أظهرت المجتمع ريفيًا وبدائيًا.

الفيلم الثاني رصد كافة الأفلام التجارية التي انتجت في فترة الخمسينات والستينات، بوصفها أفلام مبتذلة تتناول قضايا المخدرات، والعنف، وتجارة السلاح، والعنف الأسري والإجهاض، وتظهر المرأة الإيرانية بالمغلوب على أمرها، والمظلومة، والأم الضحية، واستعان صناع العمل بإحصائيات توضح أن أكثر من 70 عملًا تحدث عن المرأة.

https://www.youtube.com/watch?v=gfjidwlqTsI

اللافت للنظر أن هذين العملين جاءا بموافقة السلطات الإيرانية بل وبإنتاجها ما أثبت أن رغم القيود الرقابية الموضوعة على الفن والفنانين، إلا النظام الملالي نجح في دفع السينما الإيرانية لمكانة عالمية، عكس الحقبة البهلوية التي شهدت حريات في طرح الموضوعات ودون رقابة إلا أنها لم ترتق حتى لمستوى العرض الداخلي ، ونفرت منها الجماهير لسطحيتها وعدم موضوعتيها وتكرار أفكارها.

مشهد من فيلم فارسي

الهاربين من الجحيم

رفض بعض صناع السينما الإيرانية الرقابة الموضوعة على الإبداع الفني فقرروا الفرار من تحت مقصة الرقيب، واعتبروا أن هذه القيود بداية نهاية الفن الفارسي، لإيمانهم بأن أعمالهم لا بد أن تحلق في سماء الإبداع بلا قيود أو ضوابط مجتمعية، فانقسم بعضهم وقرر الفرار إلى الغرب لاستكمال مسيرته الفنية، بينما قرر فريق آخر المقاومة من الداخل، بإنتاج محتوى فني وتصديره للخارج هربًا من رفض عرض تلك الأفلام المعتمدة على الجرأة في اختيار موضوعات المحرمة بأمر لعدم مطابقتها للشريعة الإسلامية.

أصبحت السينما الفارسية بين مصاف الدول السينمائية الكبرى

ومن أبزر تلك الأفلام  المصدرة للخارج فيلم “القصص” للمخرجة رخشان بني اعتماد، وفيلم “هذا ليس فيلمًا” للمخرج جعفر بناهي الذي حصل على أفضل سيناريو في مهرجان كان، و جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين، الذي يتناول فيه الظلم الذي تعرض له من قبل النظام الملالي، والإقامة الجبرية التي وضع تحتها، لمواقفه السياسية المعارضة.

السعي المشترك

كافة الكواليس السابقة لعالم صناعة الأفلام الإيرانية يمكننا الآن من خلق صورة مقربة عن الوضع الفني الذي عمد فيه النظام لوضع معايير دينية تزامنًا مع النهضة الكبيرة الفنية ودعمًا للسينما العنصر الأبرز في التأثير على الشعوب حتى وضعت السينما الفارسية بين مصاف الدول السينمائية الكبرى، وكذلك الرافضين للقيود الصناعين الباحثين عن الحرية الذين أعلوا الشأن السينمائي ودفعوه دفعًا لمنصات التتويج، وكأن الطرفان اتفقا ضمنيًا حتى وإن لم يكن ذلك عمدًا على إنجاح التجربة الإيرانية لتكون إحدى القبلات السينمائية المتميزة في الشرق الأوسط والعالم.