“أن تُعاني في صمت”، تحمل هذه الكلمات في طياتها الكثير من القصص المسكوت عنها، فعندما تتألم وتواجه مشاكل نفسية تسلب منك الإحساس بالأمان والاستقرار، يكون اللجوء للطبيب النفسي فرض عين وليس سُنة، والأصعب إذا كان طفلك هو من يُعاني، لكن تبقي الوصمة الاجتماعية ونُدرة الأطباء الحجر العثر أمام المُعاناة.

بحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية، فإن شخصًا من كل 4 أشخاص يعانون من أعراض لها علاقة بالصحة النفسية، وفي حاجة للمتابعة أو العلاج النفسي.

لا تقتصر الاضطرابات النفسية، على الكبار أو البالغين، فالأطفال أيضًا بحاجة للرعاية، إذ تنص المادة (39) من اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة، بأنه يحق للأطفال الحصول على مساعدة إذا تعرضوا لضرر أو إهمال أو معاملة سيئة وإذا تأثروا نتيجة للحروب، لاستعادة صحتهم وكرامتهم.

ندرة الأطباء

يعتبر الطب النفسي للأطفال والمراهقين، تخصص دقيق ونادر في معظم الدول، فمن المفترض أن يدرس الطبيب في البداية الطب العام ثم يتخصص في الطب النفسي، ثم يتابع اختصاصًا محددًا مرتبطًا بالمشكلات النفسية التي تواجه الأطفال والمراهقين، فهو الوحيد المخوّل بوصف دواء للطفل أو المراهق الذي يُعاني اضطرابًا نفسيًا حادًا، قد يكون سببه اضطرابات فيزيولوجية.

ورغم الحاجة المُلحة للاستشارات النفسية للأطفال، إلا أنه قلما نسمع بـ”أخصائي طب نفس أطفال” في ظل الأعداد المتواضعة للأطباء في هذا المجال، والتي تتراوح ما بين الفئة العمرية من سنتين وحتى الـ17، يقول أحمد حسين، عضو مجلس النقابة العامة للأطباء، والطبيب بمستشفي العباسية للصحة النفسية، إن هناك ندرة في تخصص طب نفسي أطفال بمصر، بالإضافة لذلك فإن الوصمة الاجتماعية والخوف من نظرة الآخرين يساهمان بشكلِ أو بأخر في عزوف الكثير من الأسر عن الطب النفسي .

يضيف “حسين”، أن التعدي على مهنة الطب النفسي للأطفال والمراهقين من خارج المهنة وداخلها، وعدم معرفة الكثيرين طريق أطباء هذا التخصص، من أهم أسباب تراجع الأسر عن الذهاب للأطباء نفسيين .

وتابع “حسين”: أنه من ضمن أسباب عزوف المواطنين عن أطباء نفس الأطفال، عدم وعي المواطنين بالطب النفسي للأطفال، وعدم قدرة الصغار، لاسيما في أعمار صغيرة، عن التعبير عن مشاكلهم، بجانب عدم إدراك الأهالي بمعاناة أطفالهم.

علامات تنذر بالخطر

يشير المختصين، إلى أن هناك علامات أولية تظهر على الأطفال والمراهقين يتوجب معها الذهاب إلى مختص نفسي، كفرط الحركة أو والتحصيل العلمي المتدني للأطفال في سنّ الدراسة، والتغير المفاجئ في سلوك الطفل، مثل: حزن عميق لا سبب ظاهر له، أو تغير في محيط الطفل الاجتماعي.

وتؤكد نهى النجار، الأخصائية النفسية، أن هناك عوائق عدة تقف وراء عزوف بعض الأسر عن الذهاب إلى طبيب نفسي، أهمها الطفل نفسه، الذي يرفض في الغالب الذهاب إلى طبيب نفسي، متأثرًا بالأعمال الدرامية أو الصورة النمطية للأطباء النفسيين، بالإضافة إلى عائق المجتمع، إلا أنه شهد حالة من التراجع في الآونة الأخيرة، بسبب انشغال الناس بحياتهم وهمومهم أكثر من قبل.

توضح أخطائي الطب النفسي، أن عيادات طب نفس أطفال وجلسات العلاج تختلف عن الطب النفسي العام، إذ تبدأ الجلسات مع الأهل والمقربين لفهم المشكلة الحقيقية، ثم تأتي مرحلة كسب ثقة الطفل، فلا تعتمد الجلسات على الحكي فقط بل هناك أنشطة تفاعلية كاللعب، والرسم الحر، والأداء الحركي، وتمتد رحلة العلاج لـ 6 أشهر أو أقل، تظهر خلالها نتائج ملموسة.

تضيف النجار، أن التوحد والاكتئاب والقلق والوسواس القهري، جميعها اضطرابات نفسية يتوجب علاجها في عيادات الطب النفسي، وهو ما يجعل من مجال طب نفس الأطفال أمرًا في غاية الأهمية، لاسيما إذا أردنا مجتمعًا سويًا وعلى قدر من الاتزان.

أنا وحش

تروي “النجار”، حالة أحد الأطفال، الذي عاني من اكتئاب وزيادة في الوزن بشكل مبالغ فيه، بسبب مشاكل وخلافات أسرية بين والديه، وصلت إلى حد الطلاق، إذ شهد الطفل خلافات والديه باستمرار، وهو ما دفعه للانعزال وشراهة في الأكل، حتى زاد وزنه بمعدل 10 كيلوجرامات، كما  امتنع عن ممارسة أي أنشطة أو ألعاب، ما دفع عائلته للذهاب به إلى طبيب نفسي.

وتابعت، أن حالة الطفل ساءت كثيرًا بعد وقوع الانفصال بين والديه، فكان الطفل يعنف نفسه بدنيًا، ويردد: “أنا آسف .. أنا وحش”، محملاً نفسه ذنب ما حدث مع أسرته، وعند معاينته وإخضاعه لبعض الاختبارات، تبينّ أنه دخل في مرحلة اكتئاب حاد، زادت بسبب طلاق والديه.

وأضافت أنه بعد عدة جلسات ومشاركة الأهل ووعيهم بتأثير مشاكلهم الخاصة على ابنه، بدأ الطفل في التحسن والشفاء.

العلاج بالقرآن

تسرد عصمت عبد التواب، تجربة نجلها إبراهيم عطالله، مع الطب النفسي، إذ لاحظت عليه وهو في عمر الـ 8 سنوات سرقته لبعض الأشياء الخاصة بأخوته والاحتفاظ بها، ومع تكرار الأمر بدأت الأسرة تعي بوجود مشكلة ما، ولكن لخوفهم من نظر الآخرين، لاسيما أنهم في منطقة ريفية وعدم اقتناعهم بفكرة الطب النفسي، ساروا في اتجاه المشايخ وجلسات الذكر، إذ أوهم بعض المدعين بأن نجلهم “ممسوس” ويجب علاجه بالقرآن.

وأردفت “عصمت”، أنه بعد عدة جلسات لقراءة القرآن عليه لم يتحسن، مما دفع بأخته الكبرى للذهاب به سرًا إلى طبيب نفسي بأحد المستشفيات المعروفة والمتخصصة في بلدتهم، ومع متابعة الجلسات بدأ الطفل في التحسن والكف عن أفعاله السابقة.

الوضع في مصر

على جانب آخر، أجرى باحثين بأقسام طوارئ مستشفى نيشن وايد تشيلدرن، بإحدى الولايات الأمريكية، في يونيو الماضي، دراسة بحثية لرصد زيادة معدلات دخول الأطفال للمستشفيات وأسبابها، إذ زادت نسب الدخول إلى أكثر من الضعف.

تطرقت الدراسة، إلى وضع الطب النفسي للأطفال في مصر، موضحة أنه لا يختلف الأمر كثيرًا عن البلدان الأخرى، إذ ارتفعت مستويات زيارات الأطفال المصريين لوحدات الرعاية الصحية النفسية والعقلية، رغم عدم وجود احصائيات دقيقة عن الأمر،  وهو ما يتعلق بزيادة الوعي و للمتغيرات ثقافية في المجتمع، بحسب الدراسة.

وعددت الدارسة الأسباب التي قد تقف وراء ذلك الارتفاع في المعدلات كثيرة، علي عكس ما يتم تداوله، منها عوامل تخص التربية، بخلاف الضغوط المختلفة التى يمر بها المجتمع المصري مؤخرًا، وكذلك تأثير ما تصدره وسائل الإعلام من نماذج سلبية في أحيان كثيرة، وانعكاسه علي الأطفال .

لكنها شددت علي ضرورة توافر الخدمات الصحية في الأماكن غير الحضرية بمصر، والحاجة الشديدة إلى توفير عدد أكبر من أطباء الطب النفسي، وبخاصة في هذه المناطق، فعدد أطباء الطب النفسي في مصر أقل بكثير عن مثيله في باقي الدول.

وخلصت الدراسة، إلى أن “الثقافة النفسية” لدى الناس في معظم البلدان في ادني درجات الاهتمامات العامة، على العكس من الثقافة الصحية الجسدية، والتي تصل إلى مرحلة وصف الإنسان الدواء ومعالجته نفسه بنفسه..

إحصاءات

وبحسب وزارة الصحة والسكان، تم تقديم خدمات الصحة النفسية لـ675 ألف مريض بالعيادات النفسية وعيادات الإدمان بالمستشفيات التابعة للأمانة العامة بمختلف محافظات الجمهورية، إذا استقبلت عيادات الأطفال والمراهقين 39 ألف حالة للأطفال و22 ألفا للمراهقين، وذلك خلال عام 2017.

بينما ذكرت الإدارة العامة للصحة النفسية بمصر، تراوحت نسبة انتشار الأمراض النفسية بين البالغين من سن 18 إلى 64 سنة من 10 إلى 12% بمتوسط عدد السكان البالغ 100 مليون نسمة، أي نحو 8 ملايين شخص يعانون مرضاً نفسياً، في عام 2018 .

وتدير الإدارة العامة للصحة النفسية في مصر 18 مستشفى ومركز صحة نفسية في أرجاء البلاد، لكن المراهقون والمراهقات لهم أقسام في العباسية وحلوان فقط، وتقدم هذه المستشفيات خدماتها للمرضى بالمجان مع وجود قسم العلاج الاقتصادي لمن يرغب.

ويشير عضو مجلس النقابة العامة للأطباء، إلى أن “نسبّ وأعداد المرضى النفسيين ربما لا تكون دقيقة؛ بسبب عدم تبليغ الكثيرين عن أمراضهم النفسية، وخوفهم من وصمة العار من المجتمع”.

وأوضح أن الأمانة العامة للصحة النفسية تقوم بمجهودات في هذا المجال، حيث تقام ندوات وتدريبات للأطباء لتحسين هذه المهارات، والإلمام بالمعلومات الطبية الصحيحة، فهناك وحدة “بيت الشمس” بالعباسية، لكن للأسف لم يسلط الضوء عليه بشكل كافٍ، وبالتالي لم تصل للمواطنين .

وهو ما أكدته “النجار”، إذ ذكرت بأن الإدارة العامة للصحة النفسية بمصر تقوم بمجهودات جبارة ولكن لم تسوق إعلاميًا بشكل المطلوب، لاسيما مستشفى العباسية، ولكن الوصمة الاجتماعية والإعلامية للعباسية أو “الخانكة”، كما يطلقون عليها وراء عزوف الكثيرين للذهاب إليها، لاسيما الأطفال والمراهقين،  إذ يتواجد أقسام ووحدات علاجية خارجية لهم.