“عارف أساس الواقعة انا.. وحكاية هروبها واجعانا.. كانت مظلومة وجعانة.. وليه نظلم شفيقة.. شفيقة شفيقة ليه نظلم شفيقة”.
بموال شَجِيٍ آخر، عاد الفنان الشعبي البديع حفني أحمد حسن أو “الريس حفني”، بعد سنوات طوال من روايته الأشهر “شفيقة ومتولي” التي أنشدها في نهاية خمسينيات القرن الماضي، وسجلتها الإذاعة المصرية، ليرددها الملايين في الصعيد والريف والأحياء الشعبية، عاد ليروي وجهًا آخر لحكاية “شفيقة ومتولي”، وجهًا ينتصر لشفيقة، ويتنصل من الاتهامات الأخلاقية التي وجهها لها، من الأُسس والمقدمات التي صاغها ببراعة فنية عالية في حكايته الأولى.
ذكورية مُقدسة
تلك المقدمات والأُسس، التي لم تكن فقط بغرض تبرير جريمة “متولي” الدموية بحق أختِه شفيقة، بل أيضًا لصُنع أسطورة متولي كبطل شعبي يثأر لشرفه وشرف الصعيد بل لشرف مصر كلها، من الهاربة من وصاية أهلها لتعمل “مومسًا” تلك الخاطية التي أذلت رجولة المجتمع وذكورية السلطة.
“متولي ده راجل تقيل وساكين.. وراه بيبان البيت ساكين.. أتى بالغضب وفـ إيده السكين.. وقال دي لو كانت عليلة مين يزورها!.. وجاه سريع تلف منظرها.. وعزل الجتة من زورها”.
الحادثة الدموية، التي نفذها متولي ضد شفيقة بـ”عزل الجتة عن زورها” بعد تشويه ملامحها، أو قطع الجذع الذي مال عن شجرة الذكورية المُقدسة، لاقت مُباركة المجتمع والسلطة بكل مؤسساتها، فها هو البوليس يرضخ لطلب متولي بعد تنفيذ جريمته، بإحضار الطبل والزمر لـ”زفه” شريطة تسليم نفسه.
“وطلع البلكونة بسكينتُه.. يقول جرحي في قلبي سَكنتُه.. يا ناس وسعوا لي سكة انتوا.. لاقى الحكومة تحت البيت.. يقولون له: انزل وتعالىَ.. قال: انتوا حكومة البَر طاب ليكم.. وانا من فوق ما أطُب ليكم.. الله لما جاني طبليكم.. على ما بلغنا في الحادث.. هاودوه وجابوله الطبل ونزل.. بعد ما تَلَف المنزل.. شال العار وكلام العزل.. يا متولي يا جرجاوي”.
لم تكن تلبية طلب متولي، مجرد مهاودة من رجال البوليس، للقبض عليه، بل كان احتفاءً من السلطة بأحد أبطال المجتمع “الذكوريين”، سيظهر هذا جليًا أثناء محاكمة متولي، في التأييد المطلق من السلطة القضائية لذبح شفيقة، فها هو القاضي “حسن” الذي نال من “الريس حفني” نصيبه من المدح المُسبق، يوجه سؤاله لمتولي كإجراء روتيني لا أكثر، فقد استقر الحكم في ضميره الذكوري، ولم يحتاج سوى لبضع كلمات وصفية من متولي ليقضي ببراءَته.
“حكايَة ناس ياما مزعِلة.. الكلام إن وِطي أو علِىَ.. شفيقة دي كانت من عيلة.. وليه نظلم شفيقة”.. الريس حفني
محاكمة متولي
“بسرعة حددوله جلسته.. نده له القاضي.. وقف قدامه.. قال له: بتموت شفيقة ليه يا متولي؟.. قال له يا بيه أنا دمي فار زي العَمَال ومَع الإسودة عَمل الفار عَمل.. وِحِدانا شجرة وفيها فَرع مال.. مفيش غيري لا عم ولا خال لي.. أشرب المرار ده والخل ليه؟.. اقطعو يا بيه ولا اخليه؟.. كان القاضي اسمه حسن راجل عنده فضل وإحسان قال له: صراحة قطعو أحسن.. أصل انت شريف وعملك شيء يعليك.. أبدًا ما في شي عليك.. غير ست شهور أشا عليك”.
ليس معروفًا بالضبط متى غنى “حفني” رواية “ليه نظلم شفيقة”، فهي لم تلقى نصيبها من الشهرة، أو لنقل لم تلقى القبول المجتمعي، فقد ترسخت في أذهان المصريين وتماهت مع أفكارهم أكثر، رواية شفيقة العاهرة، لا الضحية، ومتولي البطل، لا المجرم.
لكن لماذا أقبل “الريس حفني” ، على إعادة حكي قصة “شفيقة ومتولي” بوجه آخر ينتصر للضحية الحقيقية “شفيقة” لا البطل المزعوم “متولي”؟
وليه نظلم شفيقة
“حكايَة ناس ياما مزعِلة.. الكلام إن وِطي أو علِىَ.. شفيقة دي كانت من عيلة.. وليه نظلم شفيقة”.
هكذا يكشف الريس حفني، في روايته الجديدة عن أحد الأسباب التي دعته لإنصاف شفيقة، إنها الناس ذلك الهاجس الذي يشغل الفنان باذلًا المحاولات لإرضائهم ومخاطبة رغباتهم وامتصاص غضبهم، لكن أليسوا هؤلاء الناس هم الذين هللوا وراء “الريس حفني” وهو يصف مشهد ذبح شفيقة وتشويهها على يد “متولي” متواطئون مع “حفني” على التحريض ضدها وتبرير جريمة أخيها؟
“حفني”، كأحد أبناء الصعيد، يعرف جيدًا التناقض الذي يحمله مجتمعه، فالناس سيهللون حتمًا لمشهد استعادة متولي لرجولته والانتقام لشرف عائلته، ولكنهم سوف يستنكرون وإن لاحقًا التشهير بشفيقة، فعارها دفن معها، أو لنقل أن جزءً منهم، وأهلها بالضرورة سوف يرفضون ذلك، وإن كان هذا في الواقع ليس تناقضًا، إنه استكمالًا للمشهد الذكوري، فالتشهير بفتاة صعيدية ولو خاطية، إهانة لرجولة أهلها والذين غسلوا عارهم وطووا هذه الصفحة.
“أنا مظلوم.. أنا مظلوم.. عاتبني ويمكن أنا مظلوم.. حلو ياللي عجبك بعدِنا.. سايبنا ولايف على أعادينا.. تعالى نعاتب بعضينا.. عاتبني ويمكن أنا مظلوم”.. الريس حفني
أنا مظلوم
في عام 1971 استضافت المذيعة أماني ناشد، بطل قصة “شفيقة ومتولي” الحقيقي، ليظهر شيخ عجوز يتملكه الغضب من التغني باسم أخته شفيقة وحكايتهما في الإذاعة وعلى الأسطوانات، لابد وأن اللقاء كان أحد المحركات التي دفعت الريس حفني لإنتاج روايته الجديدة، تلك التي انتصرت لشفيقة، أو على الأقل حاولت ذلك.
الناس، لم يكونوا لدى “حفني”، أهل الصعيد وحسب سواء المتيمين بمواله “شفيقة ومتولي” أم القليلون العاتبون عليه للتشهير بابنتهم، فهناك أُناس آخرون في دنيا “الريس حفني” فهو الذي انتقل إلى الإسكندرية واندمج مع فنانيها ومع ثقافتها ومثقفيها، وتزوج إحدى أشهر فناناتها الشعبيات، الرائعة “روح الفؤاد” صاحبة أغنية “سوق بينا يا اسطي على الكورنيش”، لا شك وأن هذه البيئة المُنفتحة، غيرت الكثير من المفاهيم لدى “حفني”، وكانت أحد الأسباب المحفزة أو الضاغطة على حفني لإنتاج “ليه نظلم شفيقة”.
“أنا مظلوم.. أنا مظلوم.. عاتبني ويمكن أنا مظلوم.. حلو ياللي عجبك بعدِنا.. سايبنا ولايف على أعادينا.. تعالى نعاتب بعضينا.. عاتبني ويمكن أنا مظلوم.. امشي معايا دوغري واسلك.. وانا أشكر معروفك وأصلك.. إذا كان فيه كلام وصلك.. عاتبني ويمكن.. أنا مظلوم”.
هذا المقطع، من أغنية للريس حفني في بداية عهد السادات قالوا إنها موجهة إليه، لتجاهله “حفني”، بعدما كان مقربًا من السلطة، فكان من أكثر الفنانين الشعبيين المقربين لعبد الناصر، بل كان منَفذًا ثقافيًا هامًا لعبد الناصر لربط الصعيد بمشروع الثورة.
هذه المرحلة شهدت تواريًا للريس حفني عن الأضواء، وكما نلمس في كلمات أغنيته، فقد كان الإحساس بالمظلومية والغبن هو المسيطر على تلك الفترة من حياته، ولا شك أنها الفترة التي أنتجت “ليه نظلم شفيقة” وسببًا من أسباب إنتاجها، فقد أراد حفني على ما يبدوا نفض الظلم عن شفيقة، أراد أن ينتصر لشخصه في حكايتها.
هل انتصر الريس حفني لشفيقة؟
في عام 1978، قدمت السينما المصرية حكاية “شفيقة ومتولي” في فيلم من تأليف شوقي عبد الحكيم وسيناريو وحوار صلاح جاهين وإخراج علي بدرخان، الفيلم لم يتناول الحكاية كما قدمتها الرواية الشعبية والتي غناها الريس حفني في موال “شفيقة ومتولي”، فالفيلم لم يصور شفيقة كخاطية على طول الخط، بل كضحية لفترة الإقطاع قبل الثورة، لكنه لم يدين متولي، حيث صوره كضحية أخرى لتلك الفترة، انحاز الفيلم لنفس منطق المجتمع الذكوري، حيث المرأة وإن كانت ضحية فهي “جذع شجرة مال” ويجب قطعه لحماية الشجرة.
في “ليه نظلم شفيقة”، حاول الريس حفني ألا يصدم المجتمع بشكل كامل، وأن يضمن التعاطف مع الوجه الآخر لرواية “شفيقة ومتولي”، فأخذ طريق مختلف لسير الحكاية، حيث شفيقة فتاة تضطهدها زوجة الأب، تضربها وتجوعها، وتدفعها دفعًا للهرب، ثم تقع في شباك عجوز تدير منزلًا للدعارة دون علم شفيقة، تعمل شفيقة في المنزل فـ”تطبخ وتغسل فقط” كما يؤكد حفني مرارًا.
تعشق شفيقة عسكري في الجيش، تدعي العجوز أنه ابنها وتريد تزويجهما، في لعبة لجر رجلها للعمل في الدعارة، تأخذ معه صورة، وربما تقيم معه علاقة جنسية، فلم يفصح حفني هنا عن أبعاد العلاقة، كما تشرب الخمر مرغمة، كما يؤكد حفني، رغم هذه التوازن الذي حاول فعله، بين الحكاية الشعبية ورؤيته الجديدة، فهذه أعمال يراها المجتمع الصعيدي والمصري عمومًا جرائم لو ارتكبتها النساء، لكن “الريس حفني” لم يُخَطأ شفيقة طيلة الرواية مستمرًا في ترديد المذهب “شفيقة شفيقة ليه نظلم شفيقة”.
حاول الريس “حفني”، معاقبة متولي ولو مجازيًا دون أن يصرح إذا كانت العقوبة معنوية أم مادية
إنصاف سفيقة ومعاقبة متولي
في الجزء الأخير من رواية “ليه نظلم شفيقة”، يقدم “حفني” متولي، كرجل شهم، لكن بعدما يرى متولي صورة أخته مع العسكري، ويعزم على قتلها، يهاجمه حفني بلا تردد: “قال ما فيش في قلبي شفيقة.. ولا في أكل العيشة فايدة.. وسأل أبوه على شفيقة.. كصياد والشبكة لما طرحها على صبية لاما جراحها.. وبيسأل وعارف مطرحها.. وليه نظلم شفيقة”.
كان “حفني”، أكثر شجاعة من صلاح جاهين وعلي بدرخان، فأخذ في النهاية جانب شفيقة منحازًا إليها انحيازًا كاملًا، محاولًا إنصافها وتوجيه الاتهام لمتولي: “أنا أحلف بمية ولي.. واليبت اللي كان متوى لي.. شفيقة ظلمها متولي.. وليه نظلم شفيقة”.
كما حاول “حفني”، معاقبة متولي ولو مجازيًا دون أن يصرح إذا كانت العقوبة معنوية أم مادية: “متولي عيونه راقبتها.. والعجوزة للشر جابتها.. قام متولي شال رقبتها.. متولي حداهم جاه بذاته.. حاجة في جسمه جذاته.. قتلها لكن خد جزاته.. وليه نظلم شفيقة”.