يرن الهاتف في منتصف الليل، يرد أحمد سلامة، عامل مصري بأحد متاجر قرية تطون، التابعة لمركز إطسا، محافظة الفيوم، تنتهي المكالمة بفرحة عارمة، تستيقظ عليها الأسرة كاملة.

الحلم تحقق، تم التنسيق بين أحمد وابن عمه، لسفره للعمل في إيطاليا، بعدما حاول كثيرًا أن يسافر لإيطاليا للحاق بأبناء عمومته، فهو يسعى لتلك الخطوة منذ 3 سنوات، لتحسين مستوى معيشته.

 ميلانو المصرية

عدد كبير من أهالي قرية تطون، يهاجر بحثًا عن فرصة عمل في الخارج هربًا من الفقر وضيق ذات اليد، يتجه معظمهم إلى إيطاليا، حتى أطلق على القرية نفسها مؤخراً “القرية الإيطالية”.

نحو 14 ألف من أهل القرية، البالغ عددهم 60 ألف نسمة، يعملون في إيطاليا، وفقًا لأخر إحصاء للهجرة.

سعيد مبروك، البالغ من العمر 45 سنة، متزوج ويعول أسرة مكونة من 6 أفراد، يقول إنه يعمل في إيطاليا منذ أن كان عمره 14 عام، وبرغم كبر سنه مقارنة بباقي الشباب المقبل على الهجرة، فهو مستمر في العمل هناك، ولا يرغب في الرجوع بشكل نهائي والاستقرار في مصر، يسافر ويأتي لقضاء عطلاته فقط مع الأهل.

قرية تطون
قرية تطون

“سعيد” يقول إن ما دفعه للسفر في البداية كان مرض والده الذي كان يعاني من أمراض عديدة، وتوفي قبل أن يتمكن من مساعدته بسبب ضيق اليد، كان درسا قاسيا، فقرر الهجرة حتى يتمكن من الحصول على المال حتى لا يفقد أحد أحبائه بسبب ضيق ذات اليد وعدم قدرته على العلاج، فبدأ حياته في مجال البيع والشراء بأحد المتاجر، حتى تمكن من عمل متجر خاص له بمشاركة أحد اصدقائه المصريين هناك، موضحاً أنه سعيد بتجربته، وغير نادم، ويحث أبنائه على فكرة السفر من أجل بناء مستقبلهم.

حالة “سعيد” متكررة في أكثر من نموذج داخل قرية تطون، وأغلبهم يتجهون لإيطاليا، حتى أنه أصبح مؤخراً أهم ما يميز القرية هو ربطها بالطراز الإيطالي، خاصة في مجال المعمار، وهو ما ظهر جلياً في انتشار الأبراج السكنية متعددة الطوابق والفلل، التي تتلون بألوان زاهية حديثة من الخارج، وكلها على الطراز الإيطالي، هذا بالإضافة للأثاث المنزلي داخل تلك البنايات، فهو أيضاً مصنوع على الطراز الإيطالي.

رغم توتر العلاقات المصرية القطرية إلا أن هذا لم يقضي على الإطلاق على ظاهرة هجرة العمالة المصرية إلى الدوحة وغيرها من مدن دولة قطر،

 الطريق إلى الدوحة

رغم توتر العلاقات المصرية القطرية إلا أن هذا لم يقضي على الإطلاق على ظاهرة هجرة العمالة المصرية إلى الدوحة وغيرها من مدن دولة قطر، فيقصدها عدد كبير من الشباب بغرض العمل، خاصة من أبناء محافظة بني سويف.

يقول محمد سلامة، مهندس في مجال الاتصالات، أنه سافر إلى قطر عام 2015، قبل الخلافات والمقاطعات السياسية، رغم إنه كان يعمل في إحدى شركات الاتصالات داخل مصر، إلا أن الراتب كان له القرار الحاسم في تحفيز “محمد” على السفر، وبالفعل سافر وهو مستقر في حياته إلى الآن، واستطاع أن يحصل على الإقامة له ولزوجته وأبنهما، يأتي إلى مصر مرة واحدة في العام لمدة لا تتجاوز شهر واحد، يجلس خلالها مع أهله، لكنه يضطر خلال هذه الزيارة أن يلجأ إلى “الترانزيت” فيأتي إلى مصر أو يخرج منها من خلال المرور أولاً على الكويت أو الأردن، بضع ساعات في صورة استراحة حيث أن هذه الدول غير مقاطعة لدولة قطر، ومنها يعود إلى القاهرة، وبعد انتهاء اجازته يعود مرة أخرى للدوحة بنفس الطريقة عبر مروره على دول مجاورة.

“لا نية لي لترك العمل في الدوحة والرجوع النهائي للقاهرة” قالها منير مصطفى، عامل بإحدى شركات ريادة الاعمال بدولة قطر، وهو مصري الجنسية من قرية ميدوم التابعة لمحافظة بني سويف، موضح أنه بعد قطع العلاقات بين الدولتين حاول التفكير في الرجوع إلا أنه وجد الأمر سيخسره الكثير، فهو يعمل هناك منذ 7 سنوات، ولا يريد أن يخسر المكانة التي حققها، خاصة وأن سوق العمل في مصر غير مشجع بالنسبة له للإقبال على هذه الخطوة، كما أنه اعتاد على نمط حياة بعينه لا يريد أن يخسره مهما حدث.

محافظة المنيا اشتهرت بتصدير الهجرة هربًا من الفقر

 أحلام الجنوب

الهجرة غير الشرعية
الهجرة غير الشرعية

منذ عدة أشهر وتحديدًا في بداية شهر مارس الماضي، ضبطت السلطات المصرية 33 طفلًا من أبناء المنيا لم يتعدى عمر أكبرهم 16 عامًا، وذلك خلال محاولاتهم تسلل الحدود المصرية الليبية، ومنها في طريقهم لهجرة غير شرعية إلى أوروبا، يتبع هؤلاء الأطفال 6 مراكز متفرقة بمحافظة المنيا، الحادثة كانت شهيرة، وذاع صيتها وقتها، ونددت المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام بما حدث، إلا أن أهالي الصعيد، خاصة أهل محافظة المنيا اعتادوا السفر لأوروبا عبر ليبيا، من أجل العمل كما يقول “سيد رشدي” وهو شاب يعمل بإحدى صيدليات محافظة المنيا.

يقول” سعيد”، إن محافظته اشتهرت بتصدير الهجرة هربًا من الفقر، خاصة بعد تقليص مساحة الرقعة الزراعية هناك وانتشار المناطق الصناعية، فهدد هذا كثيراً من الأيدي العاملة غير المتعلمة، والمتعلمة أيضاً التي لم يكن لها مصدر آخر للرزق غير الزراعة، التي لم تصبح موجودة حالياً.

وبحسب بيان سابق صادر عن ديوان محافظة المنيا، مطلع العام الجاري لرصد أكثر القرى المصدرة للهجرة الخارجية من محافظة المنيا، هناك 9 قرى بمركز يتصدر المشهد هناك، من حيث كثرة عدد المهاجرين به، 5 قرى بمركز مغاغا و7 قرى بمركز بني مزار، و5 قرى بمركز ديرمواس، و5 قرى بمركز مطاي، ومركز ملوي 4 قرى و9 قرى بمركز سمالوط، و8 قرى بمركز المنيا، و8 قرى بمركز أبوقرقاص.

بصفة دورية وبشكل شهري تقريبًا تسمع قرية ميت الكرمة عن فقدان عدد من أبنائها خلال محاولاته للهجرة غير الشرعية

 سبوبة السماسرة

من المنيا إلى محافظة الدقهلية، وعلى بعد أميال بسيطة من بوابات دخولها تجد نفسك أمام 3 قرى اشتهرت بهجرة أبنائها للخارج بحثاً عن فرصة عمل، لكن الوضع هنا كان يعتمد على مكاتب العمالة، بعكس باقي المحافظات التي تنتشر بها الهجرة اعتماداً على علاقات الأقارب، والواسطة، حيث تقوم مكاتب العمالة بتوصيل الشباب إلى حلمهم مقابل مبلغ من المال.

كان أولها قرية ميت الكرمة التابعة لمركز طلخا التي تعد من أكثر قرى محافظة الدقهلية التي يقبل شبابها على السفر للخارج من أجل العمل، ولكن للأسف معظمهم يلجأ للطرق غير الشرعية كما قال عمار شرف، سائق تاكسي بالقرية، موضحاً أنه بصفة دورية وبشكل شهري تقريبًا تسمع القرية عن فقدان عدد من أبنائها خلال محاولاته للهجرة غير الشرعية، عبر البحر المتوسط كان من بينهم طفل لم يكمل عامه الـ 16 بعد ترك التعليم وحاول السفر من أجل العمل مساعدة أسرته، إلا أنه لم يصل، كان يقصد إيطاليا لكنه لقى حتفه غرقاً قبل الوصول إليها.

“السمسار بيمص دمنا” جملة قالها “عمار” وسط حديثه معبرًا عن جشع السماسرة في تحديد التسعيرة التي يقدم من خلالها الفرصة للشباب، ففي قريتي نوسا وميت مسعود التابعين لمحافظة الدقهلية، يضارب السماسرة بعضهم البعض من حيث الأسعار، لتقديم الفرصة، تبدأ من 35 ألف وتصل إلى 60 ألف يتوقف ذلك على المؤهل والأوراق المتاحة التي يوفرها كل شاب لنفسه، فكلما كان المؤهل مرتفع كان السعر أعلى هو الآخر أملاً في أن يحصل الشاب على فرصة عمل كبيرة في الخارج.

 هجرة العقول

على صعيد متصل لابد من عدم إغفال جانب هام وهو كيف تغير الهجرة أفكار المواطنون الأصليون داخل كل قرية، فبعد سفر عدد كبير من الشباب للخارج، كان من الطبيعي أن تتبدل أفكار المواطن من الفكر التقليدي، إلى الفكر الأجنبي بعض الشيء، ظهر هذا التغيير في التمسك ببعض رفاهيات الحياة وترك بعضها.

ورغم الفطر الطبيعية لأبناء القرى في الزراعة واستثمار الأموال في شراء الأراضي منذ قديم الأزل، إلا أنه مع ارتفاع نسب المهاجرين المصريين، والعاملين بالخارج، تراجعت نسب الاستثمارات في الأراضي الزراعية، وهو ما أوضحه ناجي عبد الفتاح، أحد كبار مستثمري محافظة الشرقية، موضحاً أن الشباب الآن الذي يعمل بالخارج أصبح يفضل الاستثمار في التجارة والصناعة، وليس الزراعة، فعندما يرسل الشباب الأموال التي يعملون بها في الخارج، يطلب منهم استثمارها له في متجر، أو مطعم، أو مصنع صغير، أصبح هناك تطبع بالتفكير الغربي أكثر مما كان المستثمرين أنفسهم يتوقعون، ورغم المكاسب الكبيرة التي يجنيها الشباب وذويهم من الاتجاه للصناعة والتجارة، إلا أن هذا له مخاطره على المدى البعيد، لأنه سوف يتسبب في انحدار الرقع الزراعية، وهو ما سيؤثر بدوره أيضاً على الصناعة والتجارة ولكن مستقبلاً، بعد مرور وقت طويل، فلن يجد المستثمرين الكبار أو حتى الصغار ما يقوموا بتصنيعه أو توريده، مضيفاً إلى أن تركيبة السوق لابد أن لا تختل وتحافظ على توازنها من أجل نهضة سليمة بنسب متكافئة بين الزراعة والصناعة والتجارة .

بعد تفشي ظاهرة الهجرة من قرية تطون بالفيوم وميل أهلها السفر إلى إيطاليا، جاءت مبادرة الرئيس عبد الفتاح السيسي لتحاول إنقاذ هؤلاء الشباب

وزيرة الهجرة
وزيرة الهجرة

 مراكب نجاة وصمود

حاولت الدولة كثيرًا أن تضع حدًا لظاهرة الهجرة خاصة غير الشرعية منها، حدث هذا في بعض القرى والنجوع، حيث تكثر نسب الهجرة لديهم، وحدث بطرق مختلفة جاري سرد بعضها، ولكن في بعض الأماكن لم تصل جهود الدولة بعد إليها.

فعلى سبيل المثال بعد تفشي ظاهرة الهجرة من قرية تطون بالفيوم، وميل أهلها السفر إلى إيطاليا، جاءت مبادرة الرئيس عبد الفتاح السيسي لتحاول إنقاذ هؤلاء الشباب، وكان ذلك تحت لواء مبادرة أطلق عليها “مراكب النجاة”، خاصة أن البعض يلجأ إلى الهجرة بشكل غير شرعي، وهو ما يعرض حياتهم للخطر كما حدث منذ 3 أعوام في الحادث الشهير “مركب رشيد” عندما غرق نحو ٣٠٠ من أبناء القرية، خلال محاولة منهم للهجرة غير الشرعية لإيطاليا.

كانت مبادرة “مراكب نجاة” بمثابة طوق نجاة حقيقي، حيث اهتمت بتوفير تدريبات وفق احتياجات سوق العمل الخارجي، بخلاف الاستعانة بجهاز تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، لتوفير مشروعات لشباب القرية، تحفيزا لهم على عدم الهجرة بطرق غير الشرعية، وفي هذا الصدد حرص الصندوق والقائمين عليه على توفير بعض التيسيرات للشباب من خلال توفير القروض التي تساعدهم في بدء مشروعات صغيرة، تغنيهم عن اللجوء للهجرة غير الشرعية.

أما في محافظات الصعيد وغيرها كانت محاولات المساعدة تتسم بشكل توعوي أكثر منه عملي، فاهتمت الدولة بتفعيل دور التوعية والتثقيف بمخاطر الهجرة غير الشرعية، فتم تشكيل فريق لعمل بحث ميداني لعدد من الأطفال تم ضبطهم في عمليات هجرة غير شرعية، لتحديد أسباب اللجوء لهذه الطريقة غير الآمنة للخروج من مصر، واظهرت النتائج أن الأمر يعود بنسبة كبيرة لإجبار الأهل والظروف المحيطة لهؤلاء الأطفال على مما يدفع الأطفال لتركهم للتعليم في الصغر، والرغبة في الاقتداء بأبناء العمومة أو وكبار العائلات من سفرهم للخارج، خاصة للدول الاوروبية وعملهم هناك، فعلى الرغم من اتخاذهم ليبيا أو الكويت طريقا للخروج إلا أنها ليست مقصدهم، هم فقد يمروا من خلالها للوصول لألمانيا أو إيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية.