أوجاع لبنان كثيرة ومريرة، من بينها الظلام الذي تغرق به بيروت منذ سنوات، حتى أصبح أمر انقطاع الكهرباء لساعات طويلة، أزمة إنسانية تؤرق أهل البلد.
منذ بداية الصيف، في خضم انهيار اقتصادي متسارع، ازدادت بشكلِ كبير ساعات التقنين مع انقطاع الكهرباء في بعض المناطق، لنحو 20 ساعة يوميًا.
” شهيدة الكهرباء”، وصف ضجت به مواقع التواصل الاجتماعي، يوليو الماضي، تنديدًا بتلك الواقعة التي شهدتها بيروت على خلفية استمرار انقطاع التيار الكهربائي، إذ لقيت امرأة تُدعى ميرنا غمراوي، مصرعها خنقًا، لقلة مصادر التهوية بعد انقطاع الكهرباء.
السيدة الثلاثينية كانت حامل فى توأم، وتوقفت أجهزة التكيفات عن العمل، بينما كانت تحتاج إلى تهوية جيدة.
انتهاك للحقوق الأساسية
ووفقا لما نشرتة منظمة هيومن رايتس، فإن أكبر مستشفى حكومي في لبنان، والمركز الرئيسي لعلاج المصابين بفيروس كورونا، اضطرا لإغلاق بعض غرف العمليات، وإطفاء المكيفات في المكاتب والممرات، لضمان تبريد بعض الأقسام ووحدات العناية المركزة.
وتسببت أزمة الكهرباء في انقطاع الاتصالات الهاتفية، الأسبوع الماضي، وحذرت شركة الاتصالات الوطنية “أوجيرو”، من إمكانية انقطاع خدمات الإنترنت في بعض المناطق التي تغرق في ظلام دامس، كما أن لمؤسسات التي لا يمكنها تحمل نفقة الاشتراك في مولد كهربائي خاص أغلقت أبوابها.
وذكرت المنظمة أن اللبنانيون معتادون على التقنين المزمن للكهرباء، الذي يدوم عادةَ من 3 إلى 6 ساعات يوميًا، ويعوّض قطاع المولدات الخاصة النقص في التيار الكهربائي الحكومي.
لكنّ أصحاب المولدات، الذين يعانون الآن لتأمين المازوت لمولداتهم، رفعوا الأسعار إلى درجة لا يمكن للعائلات المتأثرة أصلاَ بالأزمة الاقتصادية تحمّلها.
بعض أصحاب المولدات الآخرين حددوا التغذية لكل بيت، ما أجبر العائلات على الاختيار بين تشغيل البراد أو الغسالة، وأغلق آخرون مولداتهم لعدة ساعات – في الليل عادة – ما يجعل النوم مستحيلاً في الحر الخانق.
وأدى التقنين إلى تدهور مستوى المعيشة. غردت امرأة على “تويتر” أنها اضطرت إلى قيادة سيارتها لساعة تقريبًا كي تشحن هاتفها، لضبط المنبة صباحًا، لاستيقاظ مبكرًا والذهاب إلى العمل.
وأكدت المنظمة في بيانها، أن انقطاع الكهرباء ليس مجرد مصدر إزعاج، بل يُشكل للكثيرين مسألة حياة أو موت، كما اضطر أهل طفل عمره 9 أشهر، ويحصل على علاجه عبر جهاز كهربائي لأخذه إلى شركة للكهرباء في شمال لبنان.
وأشارت المنظمة إلى أن الحصول على الكهرباء ضمن حقوق الإنسان الأساسية، ومنها: الحق بالصحة، والغذاء، والوصول إلى المعلومات، ومستوى معيشي لائق.
بنى تحتية مهترئة
يُعد قطاع الكهرباء الأسوأ بين قطاعات البنى التحتية المهترئة، وتسببت في خسائر لخزينة الدولة أكثر من 40 مليار دولار، منذ انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990).
ويشكل إصلاح هذا القطاع شرطًا رئيسيًا يطالب به المجتمع الدولي، وشكل أبرز مقررات مؤتمر سيدر لدعم لبنان العام 2018، فيما وعد وزير الطاقة منذ أسابيع بتحسن الوضع تدريجيًا لكن دون جدوى.
وتحقق السلطات اللبنانية، في قضية استيراد فيول غير مطابق للمواصفات، لصالح شركة كهرباء لبنان، عبر شركة مملوكة من مجموعة سوناطراك الجزائرية.
وترتبط “سوناطراك”، منذ يناير 2006، باتفاقية مع وزارة الطاقة اللبنانية، لتزويدها بوقود الديزل وزيت الوقود الفيول، إذ تبيع وقود السيارات، والمازوت إلى مؤسسة كهرباء لبنان.
وكان وزير الطاقة اللبناني السابق ريمون غجر، أعلن عن نية العراق تزويد لبنان بالنفط مقابل المواد الغذائية والصناعات والطبابة اللبنانية، الأمر الذي اعتبره عضو مجلس القيادة في الحزب التقدمي الاشتراكي، والمتخصص في ملف الكهرباء محمد بصبوص “شعارات غير قابلة للتنفيذ لا سيّما أنّ لبنان، وفي حال استمرار الوضع على ما هو عليه ذاهب نحو شح في المواد الغذائية في وقت تتجه فيه المصانع اللبنانية إلى الإقفال، بسبب الأوضاع الاقتصادية”.
ضيق تنفس
انشترت فيديوهات عبر مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأسابيع الماضية، لأزمات تنفسية نتيجة لانقطاع الكهرباء لساعات طويلة في لبنان، ويؤكد الطبيب المتخصص بأمراض الرئة والجهاز التنفسي في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور أحمد حصري، أنه يستقبل بشكل مستمر في الفترة الأخيرة مرضى يُعانون ضيقاً في النفس، وهم على شفير الاختناق بسبب انخفاض معدلات الأكسيجين إلى أدنى المستويات.
كما أشار نقيب المستشفيات الخاصة الدكتور سليمان هارون في تصريحات صحفية، إلى أن الأخطار كبيرة، في حال عدم تأمين الكهرباء في المستشفى، على حياة المرضى عموماً، وبشكل خاص على من هم على جهاز التنفس ومن يخضعون إلى جلسات غسل الكُلى، فحياة هؤلاء مهددة مباشرة، تُضاف إلى ذلك الخطورة في غرف العمليات التي تحتوي عادة على أجهزة مساعدة لتأمين الكهرباء بشكل احتياطي نحو ساعة لا أكثر، أما انقطاعها لوقت أطول فيُعرِّض حياة المريض للخطر.
ووفق ما أوضح هارون، كثرت الوعود في الفترة الأخيرة من دون أن يتضح سبب المشكلة الحقيقي، فكُلٌّ يُلقي بالمسؤولية على الآخر بين وزارة الطاقة وموزعي المازوت في وقت يبقى الواقع فيه مظلماً ولا يحتمل التهاون”.
ظلام لبنان في إحصاءات
يقدّر المتوسط السنوي للطلب على الطاقة بحوالى 2350 ميجاوات، فيما يبلغ إجمالي كمية الكهرباء المنتجة والمشتراه 2300 ميجاوات ينزّل منها هدر فني ما نسبته 13 في المئة عند النقل والتوزيع، فيما يذهب جزء كبير إلى المقيمين في لبنان (بمن فيهم النازحون واللاجئون الفلسطينيون).
وتقدّر حاجة لبنان من الطاقة خلال ساعات الذروة في شهر أغسطس بـحوالى 3500 ميجاوات، أي أن لبنان يحتاج إلى إنتاج أكثر من 1600 ميجاوات إضافية، قبل تنزيل الهدر الفني لتغطية حاجة السوق.
ويرى خبراء أن بناء معامل إنتاج كهربائية إضافية قادرة على تغطية هذه الكمية، يستغرق ما لا يقل عن 3 سنوات، وخلال هذه الفترة، يكون الحلُ الأوحد لتغطية العجز، شراءَ الطاقة الكهربائية من أيِّ مصدرٍ بأفضل الأسعار وبأسرع وقت.
وأظهرت الإحصاءات الأخيرة، الصادرة عن وزارة المالية، زيادة في حصة التحويلات إلى مؤسسة كهرباء لبنان إلى حوالى 12 في المئة من النفقات الأوّلية الاجمالية للحكومة في الأشهُر الستة الأولى من عام 2018.
وكان الخبير الاقتصادي والمالي غازي وزني قد ذكر في تصريحات صحفية، أن “ملف الكهرباء يجب أن يكون في أولوية إنجازات لبنان بناء على توصيات البنك الدولي وصندوق النقد والدول المانحة والتقارير المالية ذات الصلة”.