في زمن غير الزمن، أطلق الزعيم الليبي معمر القذافي، دعوة مثيرة للجدل أمام الحكام العرب في قمتهم المنعقدة في عمان بتاريخ مارس 2001، دعا القذافي صراحة للاعتراف العربي الجماعي بإسرائيل وقبولها عضوًا في جامعة الدول العربية، في حال قبولها بعدة شروط، أهمها عود الفلسطينيين إلى أراضيهم.
جرت مياه كثيرة في مجرى أحداث الشرق الأوسط منذ أطلق القذافي دعوته، التي يبدو أنها ستكون واقعًا خلال سنوات، وهذه المرة دون الشروط التي طالب بها الزعيم الليبي الراحل.
ضحك العرب على القذافي عندما خرج بـ “الكتاب الأبيض” مقترحًا تأسيس دولة “إسراطين”، العام 2000، وطرح فيه فكرة التخلي عن حل الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، والعمل على دمجهم في دولة واحدة ديمقراطية تقوم على التعايش بين العرب واليهود، تحمل اسم “إسراطين”. لكن يبدو أن الأنظمة العربية اليوم تتقبل بكل أريحية بنات أفكار القذافي، وتعمل على تحقيقها على قدم وساق.
حملت ريح شهر أغسطس الحارة، موجات متلاحقة من التطبيع العربي المجاني مع الكيان الصهيوني، أعلنت الإمارات التطبيع الكامل مع إسرائيل، خلال اتصال هاتفي جمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، 13 أغسطس الجاري.
لم يكد العرب يستوعبون الصدمة، حتى أعلن السودان عن إجراء اتصالات مع إسرائيل لتطبيع العلاقات، وهي تصريحات سرعان ما تراجع عنها وزير الخارجية السوداني، في محاولة لحفظ ماء الوجه على ما يبدو، خاصة أن الجميع يعلم أن هناك اتصالات غير معلنة بين الخرطوم وتل أبيب تكللت بلقاء نتنياهو مع رئيس المجلس السيادي في السودان، الفريق عبد الفتاح البرهان، في أوغندا، فبراير الماضي.
قطار التطبيع لن يتوقف عند محطتي أبوظبي والخرطوم، إذ من المتوقع أن تنضم إلى نادي الدول المُطبعة، كل من: البحرين، وسلطنة عمان، والسعودية، والمغرب تباعًا، فضلاً عن مصر والأردن أول دولتين عربيتين وقعتا اتفاقيتي سلام مع الكيان الصهيوني في 1979 و1994 على التوالي، كما تقيم موريتانيا علاقات مع إسرائيل منذ العام 1999، أما قطر فتقيم علاقات تجارية مع تل أبيب منذ العام 1996، ومن المتوقع أن تتحول إلى علاقات سياسية كاملة قبل تنظيم الدوحة لكأس العالم لكرة القدم 2022.
هكذا تحول الحديث الهامس عن التطبيع إلى هرولة جماعية من الأنظمة العربية، في موسم الحج إلى تل أبيب، والمؤسف أن موجة التطبيع الحالية بلا أي أنياب، فلا حديث عن حقوق الفلسطينيين إلا تلميحًا، ولا نية لممارسة أي ضغوط حتى ولو كانت شكلية، من أجل إقناع الاحتلال بالتنازل عن بعض مكاسبه للشعب المهدرة حقوقه، لذا من الواضح أن مسار التطبيع الحالي في إطار حالة التشرذم العربية، سيؤدي لا محالة إلى تصفية القضية الفلسطينية، هنا يبدو أن نية الأنظمة العربية تتفق مع قادة إسرائيل في ضم الأجزاء الباقية من الضفة وقطاع غزة إلى الكيان الصهيوني الذي لحظتها سيكون قد ابتلع كامل الأرض الفلسطينية.
عندما تنتهي إسرائيل من ابتلاع كامل فلسطين بمباركة عربية، سيطرح السؤال نفسه، ماذا بعد حصول إسرائيل على اعتراف عربي شبه كامل بها كدولة ذات سيادة؟.. وما مصير الفلسطينيين بعدما أصبحت أراضيهم وأراضي أجدادهم في يد المحتل المدجج بالسلاح والشرعية العربية؟.. يبدو هنا أن اقتراحات القذافي السابقة ستكون حاضرة بعد تقليمها لكي تتناسب مع ضعف القرار العربي الحالي.
سيتم استقبال إسرائيل إذن ضمن منظومة العمل العربي، بل ستسارع دول عربية للدعوة لتأسيس التحالف الاستراتيجي الجديد بين العرب وإسرائيل، ضد تدخلات دول الجوار في شؤون المنطقة، في إشارة إلى إيران أساسًا ثم إلى تركيا.
يبدو أن ضم إسرائيل لجامعة العرب لم يعد مشروعًا خياليًا، بل أن دعاته يطلون برؤوسهم علنًا دون حياء أو خجل، فهذا نائب رئيس شرطة دبي السابق، ضاحي خلفان، أطل مؤخرًا ليدعو الشعوب العربية إلى التطبيع مع إسرائيل، وضم الأخيرة إلى جامعة الدول العربية، التي اقترح لها اسمًا جديدًا هو “جامعة دول الشرق الأوسط”، وهي تصريحات سبق وأن أدلى بها خلفان في العام 2016، وبرر وقتها دعوته بأنه بعد 70 عامًا ستكون الدولة الإسرائيلية ذات أغلبية عربية.
ميثاق جامعة الدول العربية، يبدو أنه لن يقف عائقًا أمام تصاعد الرغبة العربية في ضم إسرائيل في المستقبل القريب، فبحسب المادة الأولى من ميثاق الجامعة يحق “لكل دولة عربية مستقلة الحق في أن تنضم إلى الجامعة، فإذا رغبت في الانضمام، قدمت طلبًا بذلك يودع لدى الأمانة العامة الدائمة، ويعرض على المجلس في أول اجتماع يعقد بعد تقديم الطلب”.
مادة قد يرى فيه البعض السد المنيع أمام دمج إسرائيل في الجامعة العربية، لكن من السهل تخطي هذا العائق إذا ما أعلنت تل أبيب الاعتراف بالعربية لغة رسمية بجوار العبرية، أو ربما يتم حل الأمر من خلال الكرم العربي المعتاد، فوفقا للمادة (20) من ميثاق الجامعة “يجوز بموافقة ثلثي دول الجامعة تعديل هذا الميثاق، وعلى الخصوص لجعل الروابط بينها أمتن وأوثق”.
لن تجد الأنظمة العربية المتلهفة لتمتين العلاقات وتوثيقها مع إسرائيل أي غضاضة في تعديل ميثاق الجامعة العربية، من أجل عيون الصهاينة، فالجامعة الميتة أصلاً والباقية كدليل على فشل العرب السياسي وهوانهم الاستراتيجي، يبدو أنها ستتحول إلى جائزة جديدة في دولاب الجوائز الإسرائيلية، والأشد قسوة أنها ستكون جائزة مجانية بلا أي مقابل.
من جهتها، تعيش الجامعة العربية كمنظمة إقليمية رائدة تعود إلى العام 1945، أسوأ أيامها، فالجميع تجاوز واقع هذه المنظمة المترهلة، التي تعكس الانهيار العربي، فهناك أربع دول على الأقل من الأعضاء حصلت على لقب دولة فاشلة.
لا تستطيع المنظمة المقيدة بالضعف العربي الشامل أن تصد أي عدوان أو تدخلات من دول إقليمية تستبيح المجال العربي، لذا يبدو مفهومًا أن تتجاهل الجامعة العديد من الأحداث المصيرية في المنطقة، وتبدو كمومياء فقدت القدرة على الحركة والفعل أو على حتى إلقاء بعض كلمات الشجب والاعتراض.
لن يكون غريبًا أن تعود جامعة الدول العربية إلى بؤرة الضوء لا لاتخاذها قرارات تحمي الشعوب العربية، بل ستكون عودتها للأضواء في لحظة فتح أبواب مقرها الرسمي في القاهرة، لاستقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي لقبول عضوية بلاده، سيكون المشهد قاسيًا لكنه يبدو معتادًا في مثل هكذا عصر.