“العديد من الدول العربية تحسد تونس” تصريح قاله الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي منتصف عام 2018، خلال حديثه حول ما حقته تونس من تقدم في عدد من المجالات في السنوات الأخيرة، ومظاهر تقبلها للطرف الآخر واحترام المرأة وغيرها، ورغم أن تصريح “السبسي” لم تتعدى كلماته سطراً واحداً لكنه مُلهم، ويستحق التمعن والبحث كثيراً حول العوامل التي ساعدت تونس على تحقيق أحلامها مع الحفاظ على هويتها.

كان في مقدمة تلك العوامل التعليم، فالتقدم الملحوظ لم يكن نابع من أمور طارئة بقدر ما هو ينبع من جذور ثابتة تم تأسيسها بجهد على مر سنوات ماضية.

فمع بداية توقيع اتفاقية تونس وفرنسا عام 1955،  تم تطوير جزء كبير من التعليم وفق هذه الاتفاقية، حيث كان يتبع وقتها النظام المتعدد الذي يتسم بالتنوع  في جميع مراحله، وكانت مؤسسات التعليم الابتدائي وقتها مقسمة لأربعة أنواع ( مدارس فرنسية للذّكور أو للبنات أو مختلطة، ومدارس فرنسية – عربية للذّكور أو للبنات، ومدارس قرآنية عصرية وكتاتيب تقليدية)، وكان لكل منها تعليم ثانوي ومعاهد متنوعة، جاء هذا وفقاً لما ورد عدد من تدوينات الكاتب التونسي مصطفى بن تمسك منتصف عام 2015، الذي أوضح خلال كتاباته المرتبطة بالمجتمع التونسي أن تركيبة التعليم في تونس تعود إلى أصلين مختلفين، هما نظام التعليم التقليدي أو (الزيتوني) كما يطلق عليه ونظام التعليم الأوروبي وتحديداً الفرنسي.

التعليم الزيتوني

وبرغم هذا التقسيم إلا أنه كان هناك حرص على النهوض بالعلوم واللغة معاً، في كلا النوعين، من خلال إدخال مفاهيم تعليم العلوم الرياضية والطبيعية واللغات الأجنبية إلى جانب العربية والفقه والعلوم الدينية، فقبل أكثر من 100 عام من الآن، انبثقت أصناف تعليمية جديدة كان أقدمها التعليم العربي التقليدي بداية من الكتاتيب ووصولاً للجامع الأعظم مرورا بالمساجد والزوايا، التي كانت تقام فيها حلقات العلم، مع الأخذ في الاعتبار أن جامع الزيتونة يمثّل قمة هذا النوع من التعليم التونسي، فيعد أحد أقدم وأشهر المساجد في العالم ، والذي أسس من قبل عبيد الله بن الحجاب عام (734م) كأقدم جامعة عربية إسلامية استمرت تؤدي دورها قرابة ثلاثة عشر قرنا متتالية دون انقطاع يذكر، ولم يكن الأمر مقتصر به على التعبد فقط، فيعد من أسبق المعاهد التعليمية .

اعتمد التعليم الزيتوني في قوامه على القرآن والسنة، وما يلحق بهما من علوم النحو والفقه والبلاغة، ويعد هذا النوع من التعليم حافظ على قوامه ولم يتغير، بل طرأت عليه تعديلات طفيفة فيما يتعلق بالبلاغة والنحو، أمر بها كل من المشير أحمد باشا والصادق باي في القرن التاسع عشر.

أما التعليم الفرنسي، فدخل تونس عن طريق البعثات التبشيرية المسيحية بعدما توافدت على تونس في العصر الحديث جاليات أوروبية متزايدة شكلت في القرن التاسع عشر مجموعات كبيرة ذات وزن اقتصادي واجتماعي وسياسي كبير، ومن هنا بدأ التشجيع على إنشاء المدارس التي تعلّم اللغة الفرنسية وتنشر فكرها تيسيرا لوضع اليد على تونس وثرواتها.

 التعليم المزدوج

لم يكن أحداً يتوقع التطور السريع الذي حدث لنظام التعليم الفرنسي في تونس آنذاك الأمر الذي دفع سلطات الحماية الفرنسية وقتها هناك إلى تشكيل إدارة التعليم العمومي عام 1883 للإشراف على مختلف المــدارس الفرنسية، وقد بلغ عددها وقتها 24 مدرسة بمرحلتيها الابتدائية والثانوية، وكانت متاحة أمام الأطفال الفرنسيين، وعدد من أطفال التونسيين وتحديداً من الطبقة الغنية.

حدث في هذا التوقيت طفرة أخرى لنظام التعليم في تونس من حيث تشكيل المدارس الفرنسية – العربية، ليدخل بذلك نظام التعليم المزدوج إلى قلب تونس وهو قائم على الدراسة باللغتين العربية والفرنسية، وتعد تونس من أوائل الدول التي اختلطت بمراحل تعليمها الأساسي لغتين، واتجه إلى هذا النمط من التعليم أبناء التونسيين أكثر من غيرهم، على عكس النظام الذي يسبقه

وبوجه عام تميز التعليم التونسي الخاص باحتواء كل الأنماط التعليمية منذ زمن بعيد، مع وجود قدرة مجتمعية على التعامل مع كل الأنواع في آن واحد، وقد ذكرت مجلدات الحياة التاريخية للعصر الفرنسي في تونس أنه تم العثور على فسيفساء من المدارس الابتدائية خاصة تحمل جنسية مؤسسيها وديانتهم، بعضها مدارس إسلامية وبعضها يهودية ومسيحية، وكل منها يخاطب جمهور بعينه دون وجود أي مشكلات بين كل فئة والأخرى، وهو ما رسخ لطبيعة التنوع وتقبل الآخر داخل المجتمع التونسي.

رغم ملامح النهضة ورغبة الشعب التونسي في تحقيق النهوض مبكراً إلا أن المستعمر هو المستعمر، وبرز هذا في كتابات عدد كبير من المؤرخين لفترة احتلال فرنسا لتونس، حيث حرص الاحتلال على التمييز بين طبقات المجتمع بالسماح لبعض الأهالي الموالين لهم بإدخال أبنائهم مدارس التعليم الفرنسي بسهولة، أكثر من غير الموالين لهم، بغرض تعميق التفاوت بينهم وهو ما يؤثر على المناصب التي يتقلدها كل منهم.

 من التعدد إلى توحيد التعليم

عام 1956 ذاع صيت التعليم القرآني العصري سالف الذكر، كأحد أنماط التّعليم الحكومي، عندما قررت إدارة الاستعمار تدعيم المدارس القرآنية العصرية ماليّا ووضعها تحت الإشراف الإداري، ثم تقرر بعد ذلك انفصال المدارس ذات النظام الفرنسي عن التعليم العمومي التونسي والتحاقها بالبعثة الثقافية الفرنسية، ومنه إلى تأميم المدارس القرآنية العصرية، ومن هنا بدأ عهد توحيد التّعليم الابتدائي في صنف وحيد تدوم مدة الدراسة به ست سنوات ومنه إلى التعليم الاعدادي ثم الثّانوي.

 قوانين التعليم التونسية

عدة قوانين تونسية شهدتها نهضة التعليم في تونس بدأت عام 1985 بسن القانون رقم 118، والذي عرف وقتها بقانون إصلاح محمد السعدي، والذي اهتم بوضع أساس تربوي قائم على تعريب التعليم  بشكل تدريجي، كان هذا في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة، أما عام 1991، فتم سن القانون رقم 63 تحت قيادة وزير التربية والتعليم العالي والبحث العلمي التونسي محمد الشرفي، واهتم هذا القانون بتدريس المواد العلمية خلال المرحلتين الابتدائية والاعدادية، وفي عام 2002، فتم إصدار القانون رقم (80) أو القانون التوجيهي، والذي حرص على مواكبة التطور بالمناهج والنظام التعليمي ككل، بما في ذلك مرحلة التعليم الجامعي.

كل هذه الأنظمة والقوانين التونسية كان لها الفضل في تشكيل العقلية التونسية، والتي هي الآن تصنف كأكثر العقليات تقدماً في الوطن العربي، جعلته يتسم بقدر عالي من المرونة، واحترام الرأي والرأي الآخر، والحفاظ على حقوق المرأة بداخله، وسن وتشريع القوانين التي تحفظ لها حقوقها المجتمعية، وغيرها من الأمور التي ساعدت في نهضته.