اتجهت العديد من دول العالم إلى تطوير التعليم الفني أو المهني، وإدخال التطور التكنولوجي عليه والاستفادة منه في تطوير المجتمع والنهوض به، الأمر الذي تطلب عددا من الإجراءات منها التشريعية والتنظيمية.
وفي مصر وخلال السنوات الأخيرة، التفتت الإدارة السياسية إلى هذا النوع من التعليم الذي يتنوع ما بين (الصناعي-التجاري-الزراعي-الفندقي)، ضمن خطة التنمية المستدامة لمصر، واتخذت عددا من الإجراءات للنهوض بالتعليم الفني، لكن رغم ذلك لاتزال هناك بعض العراقيل التي تقف أمام هذا النوع من التعليم، منها النظرة المجتمعية الدونية له، رغم احتياج السوق المصري للخبرات الحرفية والصناعية.
يذكر أن الدستور المصري حرص على تشجيع التعليم الفني والالتحاق به، حيث نصت المادة (20) من الدستور المصري، على أنه “تلتزم الدولة بتشجيع التعليم الفني والتقني والتدريب المهني وتطويره، والتوسع في أنواع التعليم الفني كافة، وفقًا لمعاير الجودة العالمية، وبما يتناسب مع احتياجات سوق العمل”.
كما نصت المادة (22)، على أن “المعلمين، وأعضاء هيئة التدريس ومعاونيهم، الركيزة الأساسية للتعليم تكفل الدولة تنمية كفاءاتهم العلمية، ومهاراتهم المهنية، ورعاية حقوقهم المادية، والأدبية، وبما يضمن جودة التعليم وتحقيق أهدافه”.
التعليم الفني في مصر
التعليم الفني ذلك التعليم الذي يكسب الفرد قدرا من المعلومات الفنية والمهارات العملية التي تمكنه من التحاقه بسوق العمل. وهذا النوع من التعليم تتضمن خطته الدراسية مواد نظرية عامة ومواد فنية ومهنية وتطبيقات وتدريب عملي، ومدة التعليم 3 سنوات وأخر يمتد إلى الــ 5 سنوات بعد انتهاء فترة التعليم الأساسي.
عرفت مصر التعليم الفني منذ القدم، لكنه لقى اهتمام كبير في عهد محمد علي، الذي آمن بأن التقدم لن يحدث إلا بتقدم الصناعة والزراعة، ومن هنا بادر بإنشاء المدارس الفنية في مصر، وشهد عام 1829 افتتاح مدرسة “الدرسخانة الملكية” بوسط القاهرة لتعليم الطلاب “أصول الزراعة” لتكون بذلك أول مدرسة مصرية للتعليم الفني.
يوجد في مصر 2.5 مليون طالب بالتعليم والتدريب الفني والمهني، تتراوح عدد مدارس التعليم الصناعي في مصر بين 700 إلى 800 مدرسة على مستوى الجمهورية، فيما لا يتجاوز عدد مدارس التعليم الفندقي 50 مدرسة، وفقا لتصريحات محمد مجاهد، نائب وزير التربية والتعليم لشئون التعليم الفني.
ويلتحق 50%من الطلاب بالتعليم الصناعي، و%37 في التعليم التجاري، و13% موزعين ما بين الزراعي والفندقي، ويصل عدد طلاب التعليم الفندقي إلى 50 ألف طالب، ويعد التعليم الفندقي الأكثر تطورا بين أنواع التعليم الفني كما يعد الأكثر إقبالا غير أنه يعاني نقص عدد المدارس.
وتنقسم أنواع مدارس التعليم الفني إلى نوعين الأولى مدارس كاملة وعددها 1300 مدرسة على مستوى الجمهورية، وهناك نوع آخر عبارة عن مدارس بنظام الفصول الملحقة سواء بمدارس أخرى أو فترات مسائية وعددهم 1200 مدرسة.
مرحلة بديلة
رغم الإرادة السياسية التي ظهرت مؤخرا للاهتمام وتطوير التعليم الفني، إلا أن هناك توجه مجتمعي يجعل التعليم الفني مرحلة ثانية يمر عليها الطالب حال فشله في الالتحاق بالثانوية العامة نتيجة للمجموع الذي حصل عليه في الشهادة الإعدادية، أو الحالة المادية لبعض الأسر التي تمنعها من إلحاق أبنائها بالثانوية العامة نظرا لكثرة متطلباتها.
الأمر الذي ساهم في الإقبال الكثيف على الثانوية العامة ومن ثم الالتحاق بالكليات والمعاهد الحكومية منها والخاص، ما أدى إلى تكدس في أعداد الخريجين، والذين فاقت أعدادهم فرص العمل المتاحة والمتوفرة لهم، ما ساهم في تزايد معدل البطالة الذي وصل إلى7.9 في عام 2019 وارتفع إلى 9.6 في الربع الثاني من عام2020، نظرا للظرف التي مرت بها البلاد بسبب جائحة كورونا، وفقا لإحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، في المقابل وصل معدل التشغيل السنوي 42.2% فقط، وانخفضت بسبب العوامل المذكورة إلى 38% في الربع الثاني من العام الجاري.
الدراسة النظرية والتطبيق العملي
ويعاني التعليم الفني من عدم وجود الربط الكافي بين الدراسة النظرية والتطبيق العملي، ولا تتاح للطلاب الفرصة للتدرب داخل المصانع والمزارع والمؤسسات الإنتاجية والخدمية المختلفة، وحتى بالنسبة للتدريب داخل المدارس نفسها، فيظل غير كافٍ نتيجة كثرة عدد الطلاب من جهة وقلة الوقت المخصص من جهة أخرى، ومن ناحية أخري وجود نقص في الآلات والأجهزة أو تقادمها وعدم تحديثها، وكذلك في المواد والخامات المطلوبة، وعدم توافر الخبراء اللازمين لتدريب الطلاب عمليا، ما يؤدي إلى أن ضعف مستوي الخريج، ومن ثم غير قادر على المنافسة في سوق العمل داخليا أو خارجيا.
وأخيرًا اتجهت بعض المصانع والشركات، إلى إنشاء مدارس ومعاهد خاصة بها، ومعتمدة من وزارة التربية والتعليم، يتم خلالها تدريب الطلاب داخل المصانع.
المشكلات والحلول
بحسب بعض الدراسات والأبحاث التي أجريت في الآونة الأخيرة حول المشكلات التي تعاني منها أنظمة التعليم في الدول العربية، قد تبين عدة أسباب أدت إلى عزوف الطلاب عن الالتحاق بالتعليم التقني والمهني منها:” النظرة المجتمعية الدونية لهذا النوع من التعليم، ويرجع هذا إلى الفصل القسري بين التعليم العام (الأكاديمي) والتعليم المهني أو الفني اعتمادًا على درجات الشهادة الإعدادية”.
بالإضافة إلى جهل الكثير بأهمية التعليم الفني ودوره في بناء المجتمع، بسبب غياب الوعي والإرشاد بأهميته، وعدم ارتباط المناهج الدراسية للتعليم المهني بسوق العمل، علاوةً على عدم ملائمة البرامج التعليمية المختلفة لمتطلبات سوق العمل الملحة، وبالتالي يتخرج الطالب من التعليم المهني غير قادر على مواكبة سوق العمل الحر.
هذا ما أكده الخبير التعليمي، محمد عبد العزيز، الذي يرى أن مصر أصبحت في حاجة شديدة للاهتمام بالتعليم الفني خلال السنوات المقبلة، ويرى أن هناك عدة خطوات لابد من اتخاذها لتطوير التعليم الفني أو المهني في مصر منها:” زيادة عدد المدارس في كافة المحافظات وكافة المجالات “الزراعة، الصناعة، التجارة، الفندقية ” لتقليل تكدس الطلاب في المدرسة الواحدة، بالإضافة إلى إيجاد منح دراسية للخارجين الأوائل بالخارج مما يشجعهم، ويزيد من الاقبال على التعليم الفني كما سيزيد التنافس بين الطلاب لتحقيق التفوق”.
كما يؤكد الخبير التعليمي ضرورة عقد بروتوكولات تعاون بين القطاعات الحكومية والقطاعات الخاصة لتوفير الوظائف لخريجي المدارس الفنية، الإشراف الدائم على المدارس المزدوج للتأكد من احترامها لقانون الطفل، وعدم صدور أية انتهاكات او استغلال للطلاب أثناء فترة دراسته”.
كما أشار إلى ضرورة:” تطوير الخطط الدراسية والمناهج وربطها باحتياجات سوق العمل، الدعم الإعلامي بواسطة وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني لتحسين النظرة المجتمعية إلى التعليم الفني، إلى جانب ضرورة تدريب وتأهيل المعملين بمدارس التعليم الفني”.
العمل الحرفي… وخطر الاندثار
كانت مصر تحتل المركز الأول في كثير من الحرف التراثية التي تأثرت كثيرا مع مرور الزمن، وكذاك كانت تتميز بالكثير من الصناعات المصرية المختلفة، وكان الإنتاج المصري من الحرف والصناعات يلبي احتياجات أهل البلاد من الملبس والمعمار وفنون الزخارف الحجرية والخشبية وغيرها من الصناعات والحرف، بالإضافة إلى المنتجات التي كان يتم تصديرها إلى البلدان الأخرى.
وشهدت السنوات الأخيرة اندثار العديد من الحرف اليدوية والصناعات التاريخية في مصر، مثل الحدادة والحياكة (الخياطة)، وصناعة الأحذية، والنجارة العربية الأرابيسك، والمشغولات الذهبية والنحاسية، وغيرهم. كما شهدت مصر أيضا تراجع كبير في صناعة الغزل عموما، بالإضافة إلى التراجع في صناعة المصنوعات الصوفية الصغيرة والكليم.
ومن بين تلك الصناعات المهددة بالانقراض صناعة الأثاث اليدوي، وفي ظل إنشاء أول مدينة لصناعة الأثاث في مصر نجد أصحاب الورش والمصانع الصغيرة مهددين بالغياب عن خريطة صناعة الأثاث، خاصة أنهم يمثلون نحو 60% من حجم الصناعة، إذ يعانون العديد من الأزمات.
ويرى محمد يوسف، وزير التعليم الفني والتدريب المهني السابق، أن التعليم الفني في مصر غير مؤهل لتخريج شباب قادر على التعامل مع سوق العمل بحرفية شديدة كمهني، وأصبح الطالب المصري يتخرج من مدارس التعليم الفني لا يرتقي سوى أنه مشرف على الإنتاج وغير مهني، وهذا بسبب قلة التدريب أثناء فترة الدراسة، بالإضافة إلى انفصال المواد الدراسية عن الواقع العملي وسوق العمل، وبالتالي يتخرج الطالب غير مؤهل جيدا لسوق العمل.
وأضاف: “مصر في احتياج لتطوير هيكل العمل الحرفي بأكمله بداية من العامل والمساعد نهاية بالمشرف والتكنولوجي، ولابد من تطوير هذا الهيكل سواء في التعليم الفني أو مراكز التدريب المهني والجامعات أيضا، بالإضافة إلى ضرورة تأهيل معلمي التعليم الفني، وتطوير المدارس والمعدات حتى يتوفر لهم بيئة خصبة للتأهيل والتدريب”.
وتابع وزير التعليم الفني سابقًا: “مصر تحتاج إلى التخصص المهني وضرورة الاهتمام به من قبل الدولة، حتى نستطيع الحفاظ على المهن الحرفية في مصر، فهناك ضرورة ملحة بالاهتمام بالتعليم المهني والفني معًا، فمصر في أشد الاحتياج إلى الصنايعي والحرفي”.
وأكد الوزير السابق، أن التعليم الفني المصري يلقى الاهتمام أكثر على الوظائف الإشراقية بدلا من المنتجة الحرفية، وبالتالي هناك بعض المهن في مصر مهددة بالاندثار بسبب عدم وجود حرفيين حقيقيين في مصر، فالطالب يتخرج عنده معلومات جيدة عن التنفيذ، لكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك “.
وطرح الوزير السابق، مجموعة من الحلول التي من الممكن أن تساهم في حل أزمة الحرفيين في مصر ومنها:” إجراء دراسات بحثية عن أوضاع الحرف والعاملين فيها، واحتياجات السوق المصري وكيفية ربطهم بالمواد التعليمية التي يتلاقها الطلاب خلال فترة دراستهم، بالإضافة إلى ضرورة رفع كفاءة الطلاب من خلال التدريب والتأهيل والتطوير أثناء فترة دراستهم، إلى جانب ضرورة تشجيع استمرار مشاركة الحرفيين بصورة سنوية في المهرجانات الوطنية السنوية وغير السنوية للتراث والثقافة”.
وأنهى حديثة بضرورة التنسيق مع البنوك والمؤسسات المالية المتخصصة والداعمة في مجال الإقراض لتمويل الصناعات الحرفية بشروط ميسرة وأن يتضمن التمويل حوافز مشجعة تجعل الحرفي يقبل على استخدامه والاستفادة منه، ويمكن تقديمه بصيغ مختلفة حسب ظروف كل حاله، إلى جانب الاهتمام بتفعيل التعاون المشترك مع الجهات ذات العلاقة بالصناعات الحرفية في الدول على المستوى الإقليمي والدولي، والاستفادة من تجارب هذه الدول بالتنسيق مع الجهات المهتمة بالصناعات الحرفية في تلك الدول.