محاكمة سقراط

كان أفلاطون يكره الديموقراطية، ويراها طريقة حكم زائفة، فعبر الديموقراطية تم الحكم على أستاذه بالإعدام، ولم يكن الحكم منصفا أو اعتياديا، حكم عليه بأن يتجرع السم بيديه، ورغما عنه، ولكن في الوقت عينه بمحض إرادته، وكانت التهمة _كما أصبح معتادا فيما بعد_ إفساد الشباب، والهرطقة، إذ أكد متهمو “سقراط” بأنه يقول بآلهة جديدة، ويدعي بأنها تسر إليه ببعض الأفكار، بينما كانت تهمة “سقراط” في الواقع هي سعيه لنشر الوعي بين “عموم الناس” لأنه يؤمن بأن كل فرد قادر على الوصول إلى العلم والمعرفة، إذا ما أعمل عقله، وبدأ يفكر بمعزل عن البديهيات المشتركة، والأفكار والتقاليد الموروثة، وهو الأمر الذي يخشاه الحكام في كل مكان وزمان، فكان سقراط (هذا المواطن البسيط الذي يعمل نحاتا) عقب أن ينهي ساعات عمله ينزل السوق، يتناقش مع الناس ( وهو أمر كان معتادا آنذاك) يطرح عليهم الأسئلة، ويتلقى إجابات يفندها، حتى يصل إلى أفكار مشتركة معهم، وهو الأمر الذي توجس منه بعض القائمين على الحكم ريبة، فقرروا إزاحته بعيدا، من خلال اتهامه أمام الشعب من خلال الإكليزيا أو الجمعية، وهي تمثل “مجلس الشعب” في الديموقراطية الحديثة، ولكنها تختلف عنه في أنها مكونة من كل مواطن حر في “أثينا”.

كان كل ناخب يعد بهذا الوصف عضواً في الهيئة الحاكمة الأساسية وهي الإكليزيا أو الجمعية. وعند هذا الحد من الحكم لم تكن هناك حكومة نيابية. وإذ كان الانتقال فوق تلال أتكا من أشق الأمور فلم يكن يحضر أي اجتماع من اجتماعاتها إلا عدد قليل من أعضائها، قلما كان يزيد على ألفين أو ثلاثة آلاف، وكان المواطنون الذين يعيشون في أثينا أو في ثغرها بيرية يحضرون وكأنهم مصممون على أن يكون موطنهم هو المسيطر على الجمعية، وكان الديموقراطيون بهذه الطريقة يتفوقون على المحافظين لأن كثرة هؤلاء كانت مشتتة في مزارع أتكا وضياعها.

وكانت الجمعية تعقد جلساتها أربع مرات في الشهر، تعقدها في المناسبات الهامة في السوق العامة، أو في ملهى ديونيسس، أو في ثغر بيرية. أما الجلسات العادية فكانت تعقد في مكان نصف دائري يدعى البنيكس (Pnyx )على منحدر تل غرب الأريوبجوس؛ وكان الأعضاء في هذه الحالات كلها يجلسون على مقاعد مكشوفة للسماء وتبدأ الجلسات عند مطلع الفجر، ويفتتح كل دور اجتماع بالتضحية بخنزير إلى “زيوس” كبير الآلهة عند اليونان.

وكانت هناك هيئة أعظم من الجمعية منزلة ولكنها أقل منها سلطاناً، وهي هيئة المجلس المعروف باسم البول ( Boul ) وكان في أصله مجلساً أعلى شبيهاً بمجالس الشيوخ في الديموقراطيات الحديثة، وكان أعضاؤه يُختارون بالقرعة وبالدور من سجل المواطنين، على أن يختار خمسون منهم عن كل قبيلة من القبائل العشر، وألا تطول مدة خدمتهم أكثر من عام واحد، وكان العضو يتقاضى خمس “أبولات” في كل يوم من أيام انعقاد المجلس. وكان من المقرر ألا يعاد انتخاب أي عضو إلا بعد أن تتاح لكل عضو آخر صالح للانتخاب (مواطن حر) فرصة العمل في المجلس، فإن كل مواطن في الظروف العادية، كان يجلس في البول دورة على الأقل في أثناء حياته. وكان يعقد جلساته في قاعة المجلس البولتريون Bouleuterion ) ) في الجهة الجنوبية من ساحة المدينة، وكانت جلساته العادية علنية واختصاصاته تشريعية، وتنفيذية، واستشارية: فكان يفحص مشروعات القوانين المعروضة على الجمعية ويعدل في صياغتها، ويشرف على أعمال موظفي المدينة الدينيين والإداريين، ويراقب حساباتهم، ويشرف على الأموال والمشروعات والمباني العامة، ويصدر المراسيم التنفيذية التي يتطلب العمل إصدارها، وتكون الجمعية غير منعقدة، ويسيطر على شئون الدولة الخارجية، على أن تُراجع الجمعية أعماله من هذه الناحية فيما بعد.

ولكي يؤدي المجلس هذه الواجبات المختلفة كان يقسم نفسه إلى عشر لجان تتألف كل منها من خمسين عضواً، وترأس كل لجنة المجلس والجمعية شهراً طوله ستة وثلاثون يوماً. وكانت هذه اللجنة صاحبة الرياسة تختار في كل صباح عضواً من أعضائها ليكون رئيساً لها وللمجلس في ذلك اليوم، ومن ثم كان هذا المنصب وهو أعلى منصب في الدولة مفتوحاً أمام كل مواطن حين يأتي دوره في القرعة، وكان لأثينا ثلاثمائة من هؤلاء الرؤساء في العام. وكانت القرعة هي التي تحدد في آخر لحظة أية لجنة ترأس المجلس في أثناء الشهر، وأي عضو في اللجنة يرأسه في أثناء اليوم. وكان الأثينيون يرجون من وراء ذلك أن يستطيعوا بهذه الطريقة أن يقللوا تطرق الفساد إلى نظام العدالة إلى أقل حد تستطيع الأخلاق البشرية أن تصل إليه. وكانت اللجنة ذات الرياسة تعد جدول الأعمال، وتدعو المجلس إلى الانعقاد، وتصوغ القرارات التي يصدرها المجلس في أثناء اليوم.

هذا النظام الشعبي المغالي في الديموقراطية، أو ما يطلق عليه الخبراء (الديموقراطية المباشر) والذي يبدو مثاليا في كل جوانبه، كان يشوبه عيبا بسيطا ولكنه جوهريا كما يزعم أفلاطون، أن جل أعضاء المجلسين تحركهما المشاعر، ومثلما يؤكد “دريدا” في مواطن كثيرة على ما يطلق عليه (سلطة الكلام) التي تجعل المنصت ينساق وراء مشاعره، يؤكد أفلاطون على المفهوم ذاته، فيما يتعلق بتلقي أعضاء المجلسين لخطب الساسة والمتمرسين. وأمام هؤلاء وقف “سقراط ” يدافع عن نفسه، في مواجهة من يتهمونه بالهرطقة وإفساد الشباب، ولكنه يفشل في إقناعهم برؤيته، فيحكمون عليه بأغلبية بسيطة بالإعدام، فيعيد سقراط خطبته مستخدما أسلوبه الساخر والمتهكم، فيستشيطون منه غيظا وغضبا، فيحمكون عليه بأغلبية كاسحة حكما قاسيا بالإعدام، ولكنها قسوة مشوبة بسخرية أيضا، من خلال أسلوب الإعدام (بأن يجرع سقراط السم).

يرفض أفلاطون التلميذ الأول والنجيب لسقراط الحكم ويحاول إنقاذ أستاذه والإيعاز إليه بالهرب بمساعدة منه ومن بقية تلاميذه، ولكنه يرفض بشدة مخالفة القوانين ويتقبل الحكم بل وينفذه، وهو ما يوغر صدر أفلاطون (الشاب) ضد نظام الحكم الديموقراطي فيشرع في كتابة مشروعه الأول (الجمهورية).

إلى أن يصبح الملوك فلاسفة أو يصبح الفلاسفة ملوكا لن يبرأ هذا العالم من الشرور، رؤية طرحها “أفلاطون” في مقتبل عمره، بينما كان يعد كتابه حول المدينة الفاضلة “الجمهورية”، وبينما كان يضطلع بإعداد هذا الكتاب بدأ في وضع أسس نظام التربية والتعليم “الموجه” لكي يتمكن من الوصول إلى غايته المثلى “تنشئة الأطفال ليصبحوا فلاسفة ثم ليصبحوا ملوكا” فالقضية -كما ظن-  تكمن في “العقل”، وكلما تمكن المجتمع من تنمية الوعي كلما كان الطريق ممهدا نحو إرساء أسس المدينة الفاضلة، يسعى لاستعادة حلم أستاذه (سقراط) الذي حكم عليه بالإعدام.

وعندما واتته الفرصة لتطبيق نظريته وافق على الفور ، حيث تم استدعائه لتربية ولي عهد إحدى الممالك في عصره، وراح يعلم الفتى الصغير أسس الفلسفة، يحدثه عن الخير والحق والجمال، ويدربه على القتال وركوب الخيل، ويمنحه ساعات من الصفاء لسماع الموسيقى والاستمتاع بالفنون، أخلص أفلاطون لما يعتقده صوابا، ورأى في الفتى برهانا عمليا على صدق نظريته، التي تعلي من شأن الفكرة، وتمنح العقل الميزة الأساسية في جوهر الإنسان وماهيته، فهو الحيوان العاقل، وبدون العقل لا يمكن تفرقته عن الكائنات الحية الأخرى، صنع الرجل نموذجا حيا لأفكاره أو هكذا ظن، وعندما حان الوقت ليجلس الفتى على كرسي العرش، كانت سعادته غامرة، فها هي فكرته تنمو وتأتيها الفرصة لتصبح حقيقة، نموذجا عمليا يحتذى.

ما حدث بالفعل كان صادما لمفكرنا، لم يختلف الملك الجديد كثيرا عن سابقيه من الملوك، بل كان أشد دموية وشراسة وقسوة، وراح يرغم الناس على اتباع أفكاره بالقوة، ويبرهن بالعقل على صدق ما يقول، ويؤكد للقاصي والداني أن الحق والخير فيما يقوم به من أفعال وإجراءات، ولم يسلم معلمه “أفلاطون” نفسه من وطأة سلطويته، فقبض عليه وباعه عبدا لأحد المواطنين، ولولا أن رآه أحد تلاميذه وافتداه لظل هكذا حتى مماته.

ارتبك الرجل واختلط الأمر عليه، بدأ يسأل نفسه في أي مرحلة أخطأ؟! ما الذي علمه للفتى أوصله لهذا الحد من التسلط ؟! أين تكمن المعضلة؟! لم يكن الجواب سريعا، لقد احتاج أفلاطون إلى سنوات طويلة ليكتشف الجواب، ويبدأ في الاضطلاع بكتابه -غير المشهور- الذي صاغه ليكون الجواب.

في هذا الكتاب “القوانين” طرح أفلاطون رؤية مغايرة لرؤيته في كتابه السابق “الجمهورية” وإن ظل علة موقفه المعادي للديموقراطية، حيث أعلى من شأن النظم، وأسس مدينته الفاضلة على مبادئ وقواعد القوانين، فالقواعد والقوانين تأتي في المقام الأول، ومن ثم بدأ في طرح الركائز التي ينبغي أن تؤسس لقوانين عادلة ونموذجية من شأنها أن تطور الاجتماع الإنساني، وتوضح الأسس السياسية لاتخاذ القرارات السليمة.

لقد تطور العلم الإنساني كثيرا منذ أفلاطون وحتى اللحظة الراهنة، وتطورت معه الرؤى والأفكار السياسية تطورا ملحوظا، ولكن ظل هناك مسألة واحدة مازالت محط اهتمام وتساؤل الكثير … أيهما أهم الملوك أم القوانين… ما الذي ينبغي أن نضعه في الصدارة ملكا عادلا أم قانونا عادلا!