عندما تصبح الأوضاع ضبابية، يلجأ الكثيرون إلى التاريخ بحثًا عن الأمل في حكاية تجدد دماء الوطنية في العروق، ويبدأ دومًا التساؤل حول الهوية المصرية وجذورها، هل هي فرعونية بحكم الأصل المتجذر في التاريخ، أم عربية بحكم اللسان، أم إسلامية بحكم الدين، أم هي إفريقية بحكم الموقع والجغرافيا.

الهوية وإدراك الذات

“الهوية” كلمة مطاطة بطبعها، فيبدو بالنطق بها التساؤل حول الانتماء، لكن الحقيقة تبدو أكثر تعقيد، وهنا تساءل الدكتور عمار على حسن في مقال له بصحيفة “الشرق الأوسط” عن معنى كلمة الهوية، وأجاب على السؤال أنها في معناها البسيط تُعني إدراك الفرد نفسيًا لذاته، ثم يمتد ليشمل الهوية الاجتماعية والثقافية والعرقية، وهو ما يعني الهوية انطلاقا من الذات إلى الجماعة التي يجب أن يتملكها إدراك ذاتي مشترك لهويتها بكل مكوناتها.

“مصر هي طبقات حضارية متتابعة لا يمكن أن تتحدث عن هوية واحدة جديدة لها أو معاصرة دون إلمام بكل تاريخها لإن القديم في مصر ما زال حيا، لم يمت، ولذلك هي أشبه بوثيقة من جلد رقيق الإنجيل مكتوب فوق هيرودوت وتحت ذلك القرآن وفوق الجميع لا تزال الكتابة الفرعونية والأديان المصرية القديمة موجودة ونراها”، هكذا وصف الكاتب والباحث في العلوم السياسية عمار علي حسن.

وأضاف: “مصر هوية مركبة يمكن أن تقول هوية مصر، فمصر في حد ذاتها هوية، لأن (مصر أمة) ففي خريطة العالم هناك دول وهناك أمم، لا يمكن أن تقول مصر عربية أو إفريقية ونصمت لكن مصر لها خصوصية في كل هذا، فكل الثقافات التي دخلت على مصر وتفاعلت معها أصبحت أجزاء ممتزجة أو متفاعلة مع هويتها الأم لكنها لا تمنحها هوية بمفردها”.

الهوية الفرعونية

المُفكر المصري الراحل جمال حمدان، حاول العثور على مفاتيح الشخصية المصرية، التي فندها تاريخيًا وثقافيًا واجتماعيًا عبر صفحات كتابه “شخصية مصر”، فوصف المحروسة بأنها ملكة الحد الأوسط، حيث يمتلك شعبها قدرة عجيبة على الامتصاص، فرغم كل المحتلين الذين عبروا في تاريخها وكل الثقافات التي وردت عليها، إلا أن الشعب المصري بموهبته الفريدة صهر كل ما قابله من ثقافات ولغات وخرج بها في نسيج جديد يحمل طابعه هو الخاص.

وتابع حمدان: “هذا ما مكن الشخصية المصرية من الاستمرار عبر العصور دون أن تتأثر بثقافة معينة، أو عقيدة فكرية ما، صمدت الشخصية المصرية منذ عهد مصر القديمة وطابعها الفرعوني، ثم البطلمي والقبطي فالعربي الإسلامي، فضلا عن انتمائها الإفريقي بحكم الجغرافيا، ليتغير الشكل لكن المضمون يظل ثابتا في جوهره”.

تاريخ من الجدل

وإذا عدنا 100 عام إلى الوراء، سنجد أن جدل الهوية أثير في تلك الفترة أيضًا كما هو الحال الآن، مع بدء دخول مصر عهد سياسي واجتماعي وثقافي جديد، ففي عهد محمد علي، جاءت البعثات بثقافات جديدة، إلا أن الشخصية المصرية أخذت خُلاصة تجربتهم، ومع ازداد وعيه من ازدياد نسبة التعليم وانتشار الصحف، بدأ الشعب يبحث عن ذاته، وكانت الإمبراطورية العثمانية انتهت بنهاية الحرب العالمية الأولى، وبدأ المفكرون المصريون في التساؤل إلى أي هوية ننتمي: “الإفريقية أم العربية أم الإسلامية أم الفرعونية”.

في تلك الفترة كان لإعلان بريطانيا، أن مصر دولة مُستقلة ذات سيادة عام 1922، وكتابة دستور مصري، ثم اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون على يد البريطاني هوارد كارتر عام 1923، وقعًا كبيرًا على نفوس المصريين الذين شعروا بالفخر أولًا لكونهم أصبحوا أمة مستقلة، وثانيًا لإدراكهم بامتلاك حضارة كبيرة قادرة على خلق كل هذا الجمال والجلال، وهو ما جعل الجميع يتجه صوب اختيار الفرعونية كهوية مصرية.

تزعم هذا التيار المفكر أحمد لطفي السيد، وسعد زغلول، الذي بعد حصول حزب الوفد بقيادته على أغلبية البرلمان عام 1924، قام بتقييد امتيازات منقبي الآثار، والتأكيد على ملكية الدولة المصرية لما يتم اكتشافه من آثار داخل أراضيها، عكس ما كان موجود سابقًا.

بدأت الأيقونات الفرعونية، تُعبر عن المصريين في شعارات المجلات والصحف، وطوابع البريد، وامتدت إلى غيرها من مظاهر الحياة في مصر، وكأن هذه الأيقونات رمزًا للسيادة المصرية في وقت يحكم فيه الأجانب البلاد فعليًا.

الهوية العربية

أطفأت اليقظة الإسلامية، فكرة العودة إلى الهوية الفرعونية بحلول نهاية عقد العشرينيات، إذ نشأت مخاوف لدى المصريين بسبب محو الهوية العربية في الجزائر وتونس من قبل الاستعمار الفرنسي، وبداية هجرة اليهود إلى فلسطين، وكذلك انتشار دعوة جماعة الإخوان المسلمين التي سعت لإيقاظ الروح الإسلامية على الوطنية، وبدى وكأن الدعوة إلى الفرعونية هي دعوة لعزل مصر عن محيطها الإقليمي العربي والإسلامي.

واشتعلت في الثلاثينيات معركة فكرية بين طه حسين ومفكري عصره، حين اعتبر فيه دخول العرب إلى مصر احتلالًا وعدواًنا مساويًا في ذلك بين الفرس واليونان والرومان، وكان أبرز معارضيه عبد الرحمن عزام الذي أصبح أول رئيس لجامعة الدول العربية، واتخذ طه جريدة “الشرق” منبرًا لدعوته، وفي المقابل جاءت الدعوى المضادة من جريدة “البلاغ”.

بحلول الخمسينيات، وقيام ثورة يوليو 1952، أصبحت القومية العربية هي الشعار، وبدأت حركات التحرر العربي من الاستعمار، وظهور زعماء عرب تحولوا إلى أيقونات لحركات التحرر الوطني، كل هذا قُدم للبسطاء في صورة أغنيات رددوها، وأعمال فنية وأفلام اقبلوا عليها حتى طغت على عقولهم وقلوبهم فكرة “الوطن الأكبر”، كما يقول الأوربت الشهير.

واتهم بعض المفكرين محاولات كل دولة عربية للانتماء إلى قومية منفصلة كالفرعونية والفينيقية والآشورية على حساب هوية جامعة مثل الهوية العربية، بأنها أحد أدوات الاحتلال الأجنبي لتفتيت الوحدة العربية وتشتيت قواها.

مبارك

“الانتماء الإفريقي”

البُعد الجغرافي لمصر في إفريقيا، عزز من فكرة انتماء مصر للقارة السمراء، ففي عصر ما قبل الأسر الفرعونية عام 3200 ق م، كان الاتصال المصري بالقارة متوغلًا في القدم، وفي عهد الدولة القديمة كانت هناك مجموعة كبيرة من البعثات الاستكشافية على ظهور الدواب، عبر طريق “درب الأربعين” وصولاً إلى وسط إفريقيا، وكانوا يجلبون معهم الكثير من الحيوانات، ويعقدون العديد من المعاهدات، واستمرت الرحلات في عهد الدولة الوسطى والحديثة، ومن أهمها بعثة الملكة حتشبسوت لبلاد بونت “الصومال حاليًا”.

ونشط الدور المصري في إفريقيا بعد الفتح الإسلامي لمصر، مع نشر الإسلام من مصر إلى عموم القارة، لكنه توارى منذ القرن السادس عشر الميلادي، ولم يعد التواصل سوى في عهد محمد علي باشا، الذي سيّر حملات متتابعة حتى بسط نفوذه على السودان، ثم تبعه الخديوي إسماعيل 1863م – 1879م.

ويرى الدكتور وسام أحمد، بمعهد البحوث والدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة، أن دور مصر في إفريقيا انكمش مع الاحتلال البريطاني عام 1882، وحتى عام 1952، إلى أن بدأ ناصر التواصل مع دول القارة كأحد عناصر المشروع الذي حاولت مصر تأسيسه على أرضها، لخدمة أهداف التحرر والاستقلال والتنمية على مستوى شعوب العالم الثالث، لكن لم يكن هناك على المستوى الرسمي أو الشعبي شعور بالانتماء لشعوب إفريقيا، أو لأي حركة إفريقية شاملة، كما لم تكن هناك صلة تُذكر بين الحركة الوطنية في مصر وبين الحركات الوطنية الإفريقية.

مبارك هو الآخر ابتعد عن إفريقيا، سعيًا إلى إعادة العلاقات مع الدول العربية بعد معاهدة كامب ديفيد، وزاد الأمر بعد محاولة اغتياله في إثيوبيا عام 1996، ولكن بعد ثورة 25 يناير تغيرت الأمور كثيرًا، وحاول الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي الالتفات إلى البعد الإفريقي في علاقات مصر، توجت برئاسة مصر للاتحاد الإفريقي لأول مرة في تاريخها.

“اهمال للأصل”

عمار علي حسن، شدد على أن مصر لم تستفد من الهوية الفرعونية بشكل كبير، باستثناء مسائل تخص السياحة ولكن بشكل ضعيف، متابعا: “في الوقت الذي علم المصريات يدرس في كل الجامعات باعتبار أن المصريين هم أساس العلوم، وحتى يتم فهم التطور العلمي يجب أن تبدأ بمصر القديمة، ولكن مدارسنا لا تهتم بهذه المسائل”.

وأشار إلى أن مصر لم تستطع تسويق عظمة الحضارة المصرية بعد كشف اللغة الهيروغليفية والقدرة على قراءة ما تركه الفراعنة حتى الآن، فلم نؤلف أو نكتب بالقدر الكافي للعالم حول حضارتنا القديمة، منوها بأن ذلك أضعف الانتماء الشعب إلى الحضارة الفرعونية، وجعل التعامل معها على أنها مصدر للثراء لدى بعض تجار الآثار، متغلبة على عظمة تلك الحضارة، والاستفادة منها على المدى الطويل للأمة المصرية كلها وليس قلة.

“فشل إفريقي”

“مصر تنتمي إلى إفريقيا قبل أن تنتمي إلى الإسلام أو العرب، فنحن أفارقة أكثر مما نظن، ومرتبطين بالقارة السمراء أكثر من العرب”، هكذا ميز أستاذ العلوم السياسية بمعهد الدراسات الإفريقية في جامعة القاهرة أيمن شبانة، انتماء مصر لإفريقيا قبل العرب، مشيرا إلى أن مصر كان لها دور كبير في إفريقيا سواء بنقل الديانات الإسلامية والمسيحية، ومساندة الأفارقة في الاستقلال، ودعمتها إفريقيا بإنشاء منظمة الوحدة الإفريقية، وفي العديد من المواقف خصوصا في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

الرئيس السادات

وذكر أن مصر أهملت علاقاتها مع إفريقيا منذ فترة الرئيس الراحل محمد أنور السادات وبعد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، لانشغالها في تحرير الأرض، والصراع العربي الإسرائيلي، فضلا عن تراجع الاستثمارات المصرية في عهد مبارك، إلا أنها بدأت في استعادته مؤخرا، وتحديدا مع تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي.

وأوضح أن اتجاه مصر للاستثمار في إفريقيا “محمود” وسيمكنها من زيادة ترابطها مع دول القارة السمراء، لافتا إلى أن مصر ستواجه منافسة شرسة مع إسرائيل في القارة خصوصا مع هرولة الدول العربية نحو التطبيع، منبها إلى ضرورة خلق مصالح مع الدول الإفريقية لمواجهة التواجد الإسرائيلي في إفريقيا، والعودة من جديد إلى جذورها الإفريقية.

“خسائر العروبة”

ويرى الباحث في العلوم السياسية، أن ارتباط مصر بالعرب كان مرتبطا بفكرة القومية العربية في فترة من الفترات، وسميت جمهورية مصر العربية، أو الجمهورية العربية المتحدة، لأن مصر كانت ترى أن العالم العربي يشكل مجالها الحيوي وعليها أن تقوده، والعالم العربي نفسه يدرك خصوصية مصر الشديدة، فلا يمكن ثقافتها القديمة، مكملا: “اعتبار أننا نتحدث اللغة العربية فهذا يجب كل الهويات السابقة لمصر (خطأ شديد)، فاللغة ليست هوية”.

وأكد أن مصر استفادة من انتمائها للعرب، والعرب استفادوا أيضا، لكن المشاكل التي خلقتها القضايا العربية لمصر كثيرة ومعقدة ودفعت مصر أثمان كبيرة فيها، فربما لو كانت مصر تدرك منذ فترة طويلة فكرة تعدد هويتها، وانصهارها في مصريتها فقط وتتعامل مع العرب من هذا الجانب فقط ربما كانت استفادة أكثر، فنحن تأثرنا سلبا بالهجرة إلى النفط، ما حرم مصر من كوادر بشرية كان يمكن أن تفيد بشكل أكبر في التنمية، فضلا عن نقل قيم أثرت سلبا على ثقافة المصريين، واستخدام النفط في دعم التيارات المتطرفة.

وأردف: “السعودية استخدمت أموال النفط في إفشال مشروع مصر الحديث خلال حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وشنت حربا باردة على مصر لإفشال، والآن تتكشف وسائل هذه المحاولات، فربما لو لدينا حالة عزلة عن هذه البلدان لاستفدنا أكثر، ولم ندفع أثمانا باهظة”.