قبل تسعة أشهر، أعلنت شركة “سيكو مصر”، المصنعة للهواتف المحمولة والحواسب اللوحية، عن بدء تصدير أجهزتها إلى فرنسا وألمانيا، قبل أن تظهر جائحة “كورونا”، وتصبح أزمة الشركة ليس في التصدير، ولكن في عجزها عن توفير مستلزمات التصنيع الأساسية من الصين التي تمدها لغالبية مكونات منتجاتها.
لم تعلن الشركة، التي تمتلك الحكومة 20% من أسهمها والأخرى لعائلة استثمارية معروفة في القطاع التكنولوجي “سالم” التي تتولى مجلس إدارتها، عن حجم مبيعاتها في السوق المحلية خلال عام 2019 والأشهر التي مضت من 2020 وتغطي الأمر بسرية شديدة.
وتؤكد آخر الإحصائيات الصادرة عن الِشركة لعام 2018 بيع 600 ألف هاتف ما بين ذكي وتقليدي، من إجمالي مبيعات سنوية لأجهزة المحمول في السوق المصرية تتراوح بين 14 و18 مليون هاتف، منها 6.3 مليون هاتف تقليدي، وأجهزة ذكية متطورة .
تكشف جولة سريعة في شارع عبدالعزيز بوسط القاهرة، عن عدم وضع الهاتف المصري على أجندة البيع إلا في الهواتف التقليدية فقط التي لا تنتجها “سيكو” وتعتمد على استيرادها من الصين منذ 17 عامًا توزعها كعلامة تجارية بالاسم ذاته، ومن النادر ــ وفقا للباعة ــ أن يسأل الزبائن عن هواتف سيكو الذكية التي تباع بأسعار لا تقل كثيرًا عن الفئة ذاتها لهواتف أخرى شهيرة مثل “هواوي” و”شاومي” و”سامسونج” و”الكاتيل“.
يقول المهندس محمد أبو قريش، رئيس الجمعية العلمية لمهندسي الاتصالات، إن الإشكالية التي تواجه تجارب مصر في صناعة المحمول، هي عدم تحديد مزايا بعينها تجذب العملاء وتعطيهم ميزة إضافية عن المنتجات الأخرى، كما لم يستقر في عامل الجمهور مزايا تتعلق بالتسعير الذي يأتي قريبًا مع المنتجات العالمية المشابهة.
ووضعت “سيكو” منذ انطلاقها خطة بالاستحواذ على 10% من مبيعات السوق المحلية سنويًا بما يتراوح بين 1.4 و1.8 مليون هاتف بجانب فتح أسواق جديدة في الأسواق العربية والإفريقية والأوروبية.
وتسعى “سيكو”، التي أعلنت أن المكون المحلي في هواتفها 58% قبل أن تعود وتؤكد أنه 45%، إلى رفع نسبة المكون المحلي إلى 70%، لكن أزمة “كورونا” كشفت عن مشكلات تتعلق بمستلزمات الإنتاج الأساسية، وفي مقدمتها البطارية، فظلت الشركة في الفترة من ديسمبر 2019 وحتى أبريل 2020 تقلص الإنتاج بسبب توقف خطوط الإمداد الواردة من الصين.
وأضاعت الشركة العديد من الفرص من بينها توريد “تابلت” الثانوية العامة الذي كان يفترض أن يمثل رافدًا أساسيًا لأرباحها رغم إنتاجها جهاز حاسب لوحى “سيكو تاب 3″، وذهبت الصفقة إلى شركة سامسونج الكورية التي وردت مليون “تابلت” بسعر 240 دولارًا للجهاز الواحد، بقيمة إجمالية قدرها 240 مليون دولار (ما يزيد على 4 مليارات جنيه بسعر الصرف).
وتمثل تجربة “سيكو” مجالاً للأسئلة: لماذا نجاح صناعة الإلكترونيات بمصر لا يرافقه النجاح ذاته في الهواتف المحمولة، رغم امتلاكها الخبرات الكافية والمواد الخام اللازمة للصناعة، خاصة على مستوى السيلكون النقي، الذي يتم تصديره كمواد خام ويعاد استيراده مصنعًا؟.
يقول “أبو قريش” إن مشكلات التصنيع في مصر، تتعلق باتفاقيات التجميع التي لا تركز كثيرًا على فكرة نقل تكنولوجيا التصنيع إليها، على عكس الصين التي كانت عام 1980 غير معروفة في صناعة التكنولوجيا وأصبحت بفضل اشتراطات التصنيع داخلها المصنع الأول للتكنولوجيا عالميًا حاليًا بعدما نقلت “سر الصنعة” إليها، والذي يتيح في المستقبل تقليل تكلفة الصناعة وابتكار مزايا إضافية تمنح المنتج قدرات تسويقية أعلى.
وقبل سنوات، أعلنت وزارة الاتصالات المصرية، عن إنتاج أول حاسب لوحي بصناعة مصرية من إنتاج شركة بنها للصناعات التكنولوجية تحت اسم “إينار” وأنتجت 10 آلاف حاسب، وكشفت حينها عن خطة لتصنيع 3 ملايين حاسب لوحي خلال عامي 2013 و2014 بهدف توزيع 20 مليون هاتف لوحي على طلاب الجامعات والمدارس لكنه اختفى في ظروف مفاجئة.
اندثر “إينار” بسبب غياب التسويق حينها، رغم انخفاض سعره الذي لم يتجاوز ألف جنيه وامتلاكه مساحة تخزين 8 جيجا يمكن رفعها إلى 32 (وهي جيدة بمقاييس وقت إنتاجه في 2013) وتخلت الدولة حينها عن الفكرة على اعتبار أن إنتاج 20 مليون حاسب لوحي سيكلف نحو 20 مليار جنيه.
تمتلك مصر الكفاءات البشرية القادرة على التصنيع لكن المشكلة الأساسية في غياب قاعدة البيانات القومية حول أعداد العمالة المتخصصة العاملة في إنتاج البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات، وفضلاً عن عدم حصر الشركات الصغيرة العاملة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والتي يحول دون استقطابها وتطوير أدائها.
يدلل الخبراء على امتلاك الكوادر البشرية بنمو صناعة التعهيد في مصر، والتي تقوم على تصدير الخدمات التكنولوجية عبر إسناد شركات عالمية بعض أعمالها لشركات محلية متخصصة في مجال المعلومات، لتقوم بالنيابة عنها بتنفيذها وتتضمن صيانة أجهزة ومعدات وبرمجيات وإعداد قواعد بيانات ومعلومات.
كما يتوافر لديها البنية الأساسية لتصنيع “السليكون” فالرمال والزجاج تمتلئ بهما الصحراء، ومصانع تنقية الرمال العاملة، حيث تصدر كمواد خام بقيمة متدنية ويعاد استيراد رقائق السيليكون مرة أخرى، والتي تُصنع منها رقائق الإلكترونيات، وإلكترونيات النانو بمبالغ خيالية، على عكس دول أخرى مثل سنغافورة والتي نمت اقتصادها بقيمة تصل إلى 20%، عبر السليكون المعتمد على الرمال المستوردة.
لكن على مستوى صناعة البرمجيات، تأتي مصر في مرحلة متأخرة، رغم أنها بدأت النظر إلى تلك الصناعة مع الهند التي أصبحت حاليًا ثاني أكبر مصدر للبرمجيات بعد الولايات المتحدة الأمريكية، ويتم فيها تطوير حوالي 40% من البرمجيات المستخدمة في الهواتف المحمولة.
وتعتبر الشركات العالمية، الهند المورد الرئيسي للمبرمجين، ويعمل بوادي سليكون الأمريكي وحده 3 آلاف مهندس من أصل هندي، ما أغرى شركتا “فيس بوك” و”جوجل” الأمريكيتين إلى ضخ 5.7 مليار دولار و4.5 مليار دولار، على التوالي في الهند خلال العام الحالي.
لا تختلف الحال كثيرًا بالنسبة لإسرائيل التي باتت لاعبًا كبيًرا في صناعة الرقائق حتى أن شركة “إنتل” الأمريكية للتكنولوجيا ضخت استثمارات بـ 11 مليار دولار، في شركات الابتكارات التكنولوجية وصناعة “السايبر” الإسرائيلية خلال العام الماضي وحده.
ويشير محمد سعيد، خبير البرمجيات، إلى انخفاض جودة المنتج المصري في قطاع تكنولوجيا المعلومات وعدم قدرته على المنافسة ومضاهاته للمنتجات العالمية والخروج للأسواق العالمية، رغم أن فرص نمو القطاع كبيرة في ظل التطور السريع الذي يشهده العالم وتنامي الذكاء الصناعي وإنترنت الأشياء (استقبال ومعالجة ودفع المعلومات بشكل آلي دون تدخل بشري)، والتي تفتح فرصًا استثمارية جديدة أما شركات تكنولوجيا المعلومات.
تتضمن روجتة انطلاق مصر في صناعة المحمول بمصر في البحث عن ميزة إضافية لمنتجاتها المطروحة وتحديد الأسواق التي يمكن المنافسة فيها بقوة، فمن الصعوبة المنافسة في أسواق ذات دخل مرتفع يمكن لأصحابها شراء أفضل الماركات العالمية، واستحداث إدارات للابتكار داخلها تمكنها من البحث عن قيم مستحدثة للمنتجات المطروحة.