“أن تكوني امرأة محترمة” جملة نضع تحتها الكثير من الخطوط الحمراء، كما أنها تشكل مسار جدل بين الكثيرين، فما بين آراء ومعتقدات متباينة تتوه فكرة “الاحترام” وتنسلخ عن معناها الحقيقي، فالأمر لم يقتصر فقط على نظرة المجتمع للمرأة، بل مدى تأثير سلوكياتها وتصرفاتها في حكم الآخرين عليها.
يخرج البعض ليصنف هذه المرأة بـ”المحترمة” وتلك بـ”غير المحترمة”، فهل هناك أسس أو قواعد لأحكامهم؟، أم كُتب على النساء أن يعشن كـ”مصنفات في الأرض” مدى الحياة؟.
النظرة للمرأة تاريخيًا
وعبر التاريخ، اختلفت النظرة إلى المرأة، فهناك من اعتبرها “حيوان نجس”، وآخرون نزلوا بها إلى منزلة أدنى من الرجل، غافلين بأن تقدم أي مجتمع إنما يقاس بمكانة المرأة فيه، وليس العكس.
“وهذا ما يؤكده مثل فرنسي، حيث يقول “إذ أردت أن تقيس درجة تقدم مجتمع ما، فما عليك سوى معرفة مكانة المرأة في هذا المجتمع”.
هذا المثال يكشف جانبًا آخر من قضية “احترام المرأة”، بأن المجتمعات باتت تقاس ﺑﺪرﺟﺔ اﻟتطور الثقافي واﻻﺟﺘماعي واﻻﻗﺘﺼادي ﻟﻠﻤﺮأة، وﻣﺴـﺎﻫﻤﺘﻬﺎ اﻟﻔﻌﺎﻟـﺔ في البناء اﻟﺤضاري للمجتمع، وأن التراجع عن ذلك، يصنفك من المتخلفين عن الركب.
ولا شك أن المرأة نصف المجتمع والإنسانية بأكملها، ولكن هل كانت نظرة الرجل للمرأة على هذا النحو في مختلف الحضارات أو العصور المتعاقبة، حيث اعتبر الرجال المرأة كائناً منحطًا وشيطانًا رجيمًا، وقد أُهينت كثيرًا في عصور “الظلام”، حيث إنها كانت تُشترى وتباع في الأسواق كالسلع، وتورّث ولا ترث، وشبهها سقراط بـ”الشجرة المسمومة”، إلى أن أنصفها الإسلام وكرمها، ثم تراجعت بعد ذلك للخلف بسبب الأفكار المتشددة والتطرف الديني والفكري.
لكن مع ظهور الحركات الاحتجاجية والمدافعين عن حقوق المرأة، حدث تطور كبير في وضعها خلال السنوات الماضية، خاصة بالوطن العربي، حيث نالت في بعض البلدان حقوقًا ومميزات كانت إلى وقت قريب من قبيل المحرمات، ولكن النظرة تجاه المرأة نفسها مازالت تتسم بالتجني.
ويُرجع المتخصصون وعلماء الاجتماع، نظرة الرجال إلى المرأة إلى أسباب عدة، منها اختلاف طبائعهم ووقع تجاربهم وانفتاح البيئة الاجتماعية والدينية التي ينتمون إليها، أو انغلاقها، كما أن للمنظومة الاجتماعية في ظاهرها، والأبوية في باطنها دور أساسي في تعزيز النزعة الفوقية لدى بعض الرجال تجاه النساء.
تأثير التربية والبيئة
وبجولة سريعة بين شرائح وطبقات أي مجتمع، يتضح أن التربية والبيئة يؤثران بشكل واضح في آرائنا على الآخرين، لاسيما حكمنا على المرأة بشكل عام، حيث إنها لا تزال على مر العصور مادة جذابة للصراع وإبداء الآراء .
وهناك من وصف جميع النساء بالاحترام، وهناك من تطرف إلى حد بعيد ونفى عنهن هذه الصفة، بينما ربطها آخرون بأسلوبها في التعامل وتصرفاتها، وأقر البعض الآخر بأهمية الملبس كأساس لتصنيف الاحترام من عدمه.
وبين هذا وذاك، يبقى السؤال “ماذا تعني امرأة محترمة؟”، وهو ما عبر عنه “م.ك”، البالغ من العمر 35 عامًا، بقوله إن “جميع النساء محترمات، حيث لا يستطع تصنيف أي إنسان، فكل منا له ظروفه وأسبابه”.
“لبسها طويل وصوتها واطي”، في الطرف الآخر يؤكد “م.ق” الذي يعمل في مجال الإعلام، بأن الملبس وطريقة الحديث، هما ما يقيس بهما احترام المرأة من عدمه، وهو ما تنفيه “نور” (اسم مستعار)، حيث ترى أن الأمر لا يتعلق بالمظاهر، أكثر منه بمعرفة الأنثى “ما لها وما عليها”، وكيفية الدفاع عن نفسها.
الهيمنة الذكورية
في المقابل، ترى بعض المقاربات التي دخلت عمق التحليل السوسيولوجي، أن الأمر يتعلق بالهيمنة الذكورية التي تسيطر على الحياة الاجتماعية وتتخذ القرارات، ولا تختلف بين الشرق والغرب، ويساعد في تسيدها إجماع وتكيف بعض النساء معها.
ويُرجع حسن الخولي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، الأمر إلى الطبيعة الفكرية للمجتمعات، سواء غربية أم شرقية، موضحًا أن أساس المجتمعات في العالم ذكوري بحت، عائد في الأصل إلى المرأة التي تزرع أفكارًا في عقول أبنائها، ثم عندما يكبرون يُحكم عليها، ذلك بجانب الفهم الخاطئ للدين والحرية في أغلب المجتمعات.
وتابع أستاذ علم الاجتماع، “أنه بالنسبة لنظرة المجتمعات العربية السلبية للمرأة، وإنزالها في موضع المحكوم عليه طوال الوقت، لها أبعاد عديدة، اجتماعية واقتصادية وسياسية أيضًا، فبعيدًا عن التربية الذكورية، يقف ضعف الرجل وسلبيته في إحداث تُغيّر سواء اجتماعيًا أم سياسيًا أمام تصوره تجاه المرأة، لافتًا إلى أن الأخطاء حتى الأخلاقية منها حكر على الرجال فقط، ففي النهاية الانسان ابن بيئته”.
تفسيرات دينية واجتماعية
وفي مصر وأغلبية المجتمعات التي توصف بـ”المحافظة”، يدرك قطاع كبير من النساء أن احترامهن في الشارع بات مرتبطاً بتفسيرات دينية واجتماعية بعينها، فإن لم تنصع إليها صارت غير أهل للاحترام، حيث وصل الأمر إلى تفهم ارتكاب جريمة “التحرش” ضمنيًا بناء على شكل ملابس المتحرش بها.
ورغم الجهود التي تُبذل من قبل الدولة وعدد من الجمعيات الأهلية وغير الحكومية لتوعية القواعد الشعبية بمكانة المرأة، ووجوب احترمها والنظر إليها كواحد صحيح، تبقي الجهود حبر على ورق.
ويشير أستاذ علم الاجتماع، إلى أن معالجة الأمر تكمن منذ البداية، حيث ينبغي غرس فكرة احترام المرأة وتعاملها ككائن عاقل حر في نفوس الأطفال منذ الصغر، حيث يتعلم الأطفال وتكون شخصياتهم من بيئتهم المباشرة، ذلك بجانب دور المجتمعات في تمكين المرأة بشكل مهني وليس بهدف كسب سياسي أو تربح.
عبودية متحضرة
ورغم أننا في القرن الحادي والعشرين، إلا أن المرأة لا تزال تناضل لكي يُنظر إليها كإنسان وليس كأداة، حتى في الغرب (بلاد الحرية)، مازالت تعاني النساء من النظرة السيئة وعدم التقدير، ما دفع الحركات النسائية والحقوقية للتنديد بالتمييز ضد المرأة ووصفه بـ”العبودية المتحضرة”.
ففي أواخر عام 2019، أثار إعلان تجاري لشركة سيارات فولكسفاجن الألمانية، جدلًا في فرنسا، حيث ظهرت به صورة لسيارة دفع رباعي مع شعار إعلاني “افعل ما بوسعك ليكون عشيق زوجتك هو أنت”، ورغم أن هذا الإعلان موجه للرجال باعتبار أن محبي السيارات الكبيرة هم الرجال، ولكنه مع ذلك يستخدم المرأة أداة للترويج من دون أن يلجأ لفتاة إعلانات .
ولا يعتبر الإعلان السابق هو الوحيد الذي يستخدم المرأة أداة لترويج المنتجات بصورة مسيئة أو إثارية، فمن المواد الغذائية إلى ملابس الرجال وحتى حفاضات الأطفال عندما يتعلق الأمر بمنتجات تستهلكها المرأة، فهي تظهر فيها بصورة المرأة التي تغوي الرجل ويكون التعري جزء أساسي من الأمر، دون الاهتمام بمضمون الإعلان، وهو ما يكشف عن أن الكثير من الإعلانات التجارية، تواصل تكريس صورة نمطية تعكس فكرًا مجتمعيًا ما زال لا يرى في المرأة كائنًا مساويًا للرجل في الحقوق والواجبات وإنما “كأداة للإغراء”.
ويعقب “الخولي” بأن احترام المرأة في الغرب في باطنه ليس كما يصور ويروج له، ولكنه إهانة باسم الحرية والكرامة، مدفوع بأسباب عدة، كتوغل الرأسمالية وإكراهات سوق العمل وسعيها الدؤوب إلى إثبات الذات، ما جعل في النهاية صورة، سواء على لوحة إعلانية أو في المجالس السياسية، لذا تحقيق الاحترام يلزمه النظر إلى المرأة ليس كجسد، ولكن كقوة عقلية وإنتاجية كالرجل.