محمد علي باشا لم يكتف بالسجن فكان وصم المخالف هو العرف المعتاد

1882 أنشئ أول جهاز للأمن السياسي الحديث

مصر تحولت لدولة بوليسية بعد نكسة 67

الروايات تبرز القبضة الأمنية لـ«ناصر»

حكم السادات يظهر دور البلطجية في الهجوم على المعارضين

يحكي شاب في منتصف الثلاثينات، عاصر فترة الألفينات ونهاية التسعينات التي ارتبطت بـ”الحرب ضد الإرهاب في عهد مبارك”، أن ما حدث في “سبتمبر”، يذكره بمعاناته للوصول لمنزل جدته بوسط البلد في القاهرة، حيث مقر وزارة الداخلية، وكيف أنه يختار الشوارع الجانبية حتى لا يشرح مرة أخرى لضابط الكمين الذي استوقفه مرة للاشتباه به أن العنوان في بطاقته على محافظة أخرى غير القاهرة، ولكنه يعيش هنا مع جدته بجانب ضريح سعد زغلول، وتحول الكمين لهاجس وخوف شخصي له حتى لا يتعرض لمضايقات الاشتباه.

كما يتابع الشاب أن الكمائن على كورنيش النيل المنتشرة ليلاً، كانت تشك دائمًا في أبناء المحافظات فكانت ميكروباصات المباحث، تشتبه بالجميع وأصبح الأمر بالنسبة إليه هاجسًا يوميًا.

الجميع مشتبه به

في 20 سبتمبر 2019 كان الجميع مشتبه به في شوارع القاهرة، بعد أن ظهرت دعوات للتظاهر أطلقها مقاول وفنان مغمور هرب خارج البلاد، مما جعل الدولة تتأهب لأي أعمال من شأنها إحداث بلبلة غير مرغوب بها.

ويحاول علي الرجال، الباحث في علم الاجتماع السياسي، في دراسة تتناول تاريخ قوانين الاشتباه في مصر، والعلاقة بين السياسات الأمنية في بعض الحالات وبين دولة القانون منذ نشأة الدولة الحديثة في عهد محمد علي وحتى مبارك، والصادرة عن المركز المصري للحقوق السياسية والاقتصادية،  تفسير  إن امتلاك شكلاً مغايرًا، ومختلفًا عن العادة المجتمعية يجعل الاشتباه قائم من قبل رجل الأمن في الشارع، وكيف كان تاريخ الاشتباه منذ محمد علي حتى عهد مبارك؟.

الاشتباه قائم على علامات الجسد في عهد محمد علي

لم يختلف أمر الاشتباه في عهد محمد علي، حتى ستينات القرن التاسع عشر، وظل قائمًا  على علامات الجسد التي يحصل عليها المجرم.

لم يكتف الوالي بعقوبة السجن فكان وصم المخالف هو العرف المعتاد فكان  إرسال اللصوص للعمل في الترسانة مقيدين بالسلاسل، كما ظلت عمليات وشم السارقين قائمة لنزع الشرف عنهم، والتفريق بينهم وبين مرتكبي الجرائم السياسية الذين كانوا يلقون نفس العقوبة، فكان يكتب على أذرعهم “حرامي”، أو أول حرف من الكلمة.

وكان لقوات “الضبط والربط” أي الداخلية والجهادية دورًا كبيرًا في هذا، والتي تطورت حتى وصلت إلى مصطلح جهازي “الشرطة والجيش” الآن.

كما شهدت فترة محمد علي، نقلة كبيرة في عمليات اختيار العقاب، استنادًا إلى وجود سجل للسوابق كدليل أقوى من خطورة الجريمة، أو حتى مكانة المجرم الاجتماعية.

المعيار الأخلاقي للدولة البوليسية وظهور عقوبة المثلية الجنسية

أكد الباحث في ورقته بخط  بارز وبنط أكبر من المعتاد على أن الاشتباه للنساء واللواط  “كما كان يطلق عليهم” داخل معسكرات الجيش كان يتم عن طريق المعيار الأخلاقي في عهد محمد على، مؤكدًا على أنه ليس صحيحًا أن عقوبات المثلية الجنسية كانت منذ الاستعمار كما يدعي البعض، بل قديمًا ظهر في جيش محمد علي، وكانت له عقوبات رادعة لحفظ المجتمع من شروره، كما كان معتقدًا دائمًا.

وأضاف أن المثلية الجنسية لم تشكل فقط مشكلة أمنية استدعت وجود قانون رادع لها عام 1834 بل شكلت مشكلة صحية ممثلة في الأمراض التناسلية داخل الجيش المصري في عهد محمد علي، وكانت عقوبته الجلد بـ”الكرباج”، والتجريد من الرتب العسكرية، وتنوعت عدد الضربات حسب الرتب، فصف الضباط 200 جلدة، والضباط 500، والطلبة 200 جلدة، والسجن 15 يومًا.

تسارع وتيرة الاشتباه من خلال بنية تشريعية جديدة

كانت  سنة 1882 مفصلية للغاية في تكوين لإعداد تشريعيات للاشتباه، إذ أنشئ أول جهاز للأمن السياسي الحديث في مصر، والذي عرف بحرس الحدود لمراقبة فلول الثورة العرابية في مصر، والمهدية في السودان.

كما شكل عام 1883 قفزة أخرى في تاريخ الاشتباه عن طريقة تجديد البنية التشريعية المستمدة من القانون الفرنسي، وافتراض أن البراءة إلى أن تثبت الإدانة، وإبطال وسائل التعذيب بإنشاء المحاكم الأهلية والجنايات.

وبعدها بسنة عام 1884، شكلت لجان “قومسينات الأشقياء” في وجه قبلي وبعدها بسنة في وجه بحري للبحث والاشتباه في حالة الأشخاص المتصفين بسوء السلوك، أو احتراف الجرائم أو عديمي الصفة وبلا مأوى، وألغيت بعد 5 سنوات بعد استخدامها أساليب وحشية.

الاستثناء وإطلاق يد الدولة البوليسية

وهنا يثبت الباحث نقطة جدلية ويقف عندها كثيرًا، وهي أن قبل كل هذا بعام وتحديدًا في عام 1882 أعلن الخديو توفيق الأحكام العرفية، نافيًا أن يكون الاستعمار هو من ابتدع  قانون الأحكام العرفية الذي سيستمر منذ هذا التاريخ إلى يومنا هذا، وتطوير مسماه إلى قانون الطوارئ عام 1952.

ويصبح قانون الطوارئ، وسيلة هامة في الاشتباه، وطبق في 30 سنة متفرقة في الفترات الاسثنائية التي تمر بها مصر من ثورات، وعصيان على سياسات الحاكم.

تحول الدولة الناصرية لبوليسية

حملت الصورة النمطية لعهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، شكلاً كبيرًا من الحكم عليه، حتى أصبح فيلم ورواية: “الكرنك” لنجيب محفوظ، هو الدليل الشعبي على استحكام سطوة أجهزته الأمنية وقتها في الاشتباه في أي شخص معارض لناصر وسياساته.

فمثلاً إذا كان “ناصر” نصير الطبقات الاجتماعية المهمشة، فإن الباحث يشير لتساؤل وصفه بـ”المثير للانتباه” في  واقعة كمشيش، وهي الواقعة التي شهدت صراعًا بين الفلاحين وسيطرة الإقطاعيين، كيف نجح رجال البوليس المحليون مع عائلة الفقي الإقطاعية وبعض رجال الاتحاد الاشتراكي في إخفاء الأمر برمته عن كل من عبد الحكيم عامر وعبد الناصر؟، وكان لدى كلا منهم أجهزة أمنية قوية، ومحدثة، وغليظة.

ومن هنا حاول الباحث الرد على هذا، متبنيًا وجهتي نظر، الأولى: أن التخلص من الاستعمار، وبناء شعبية واسعة لعبدالناصر، بسبب سياساته الاجتماعية، والاقتصادية، مهدت لعلاقة جديدة بين الشرطة والجمهور، لا تتسم بالعداء والغلظة كما كان في السابق.

وأما وجهة النظر الأخرى بخصوص دولة ناصر تقول إن قوة أجهزة الدولة الأيديولوجية في مصر وصعود دور الدولة قلص من الاحتياج اليومي للقمع، فناصر كان يريد دمج الأمة في مشروعه الاجتماعي والاقتصادي، ومِن ثَم انتفت شروط العداء المباشر.

وخرج الباحث برؤيته هو عن الاشتباه في عهد “ناصر”، قائلاً “ما يمكننا الوثوق منه بخصوص الدولة الناصرية، هو تحولها للدولة بوليسية بعد هزيمة 67 والدخول في عداء مفتوح مع الطلبة منذ 68، وقد عاد عبد الناصر لعسكرة الداخلية مرة أخرى فأنشئ الأمن المركزيِّ، ومعهد أمناء الشرطة في نفس العام”.

وتابع: “في عام 1970 أصدر ناصر قانون رقم 74 لسنة 1970 والذي أتاح لوزارة الداخلية سلطة وضع الأفراد تحت مراقبة الشرطة بقرار منها لمدة سنتين، تبدأ بعد إنهاء اعتقالهم بموجب قانون الطوارئ الذي كان ساريًا وقتئذ”.

السادات وظهور “البلطجية”

من قبيل الرصد لا الحصر شكل عصر الرئيس الراحل أنور السادات نقلة نوعية في الاشتباه، فتعامله مثلاً في انتفاضة 77 أحدث عداء بين الشعب والداخلية، جعل الدعوات بإحراق أقسام الشرطة والهجوم عليها تنتشر مثل كان في الانتفاضات الأقدم، كما يوضح الباحث وخصوصًا في ثورة 1919 ، وتجددت تلك الدعوات في هجوم الجزارين بعد احتجاز بعضهم في  قسم السيدة زينب، ووصول أخبار تعذيبهم للخارج.

ومن هنا طور السادات جهازه الأمني لتحقيق مشروع الانفتاح الإقتصادي بعد حرب 1973 ، ودعم 3 قطاعات داخل وزارة الداخلية، وهي: الأمن المركزي، وأمن الدولة، والمباحث الجنائية، والذين سيصبحون أبطال المشهد بالكامل في مصر منذ نهاية السبعينيات وحتى نهاية عصر مبارك.

“أمناء الشرطة” أسياد البلد

وهنا تظهر قوى جديدة وعنصر عام في عهد السادات وهم أمناء الشرطة الذين سيحكمون سطوتهم مع تعاظم شعور القطاعات المختلفة في البوليس بأنهم صاروا “أسياد البلد” وأن عليهم حصار المجتمع، وإخضاعه كليًا، ليظهر بوضوح بداية الغلظة، والتعذيب، والإهانة في الأقسام والمراكز التابعة للشرطة لعموم المواطنين.

كما ظهر دور “البلطجية” في 1975 واستخدامهم  في ترويع المعارضة، مثل: الهجوم على نقابة المحامين في 1980، وسيكون لهم قوة كبيرة مع الأمن من خلال توظيفهم في إحكام السيطرة والضبط والقمع أحيانا داخل مناطقهم.

الاشتباه في عهد  مبارك .. أطول عصور الاستثناء في مصر

وهكذا فإن عصر مبارك اتسم بالوحشية في الاشتباه، كما يفسر الباحث، أنه أيضًا أطول فترة للاستثناءات في مصر، فقد خضعت البلاد لقانون الطوارئ لمدة 3 عقود وهي فترة حكمه، وتحولت الأقسام ومراكز الشرطة في عهده إلى ما يعرف شعبيًا بالسلخانات، كما تفشت في عصره ظاهرة البلطجة.

كما شهد عصر مبارك سطوة شديدة لجهازي المباحث العامة الجنائية ومباحث أمن الدولة، وكان الأمن المركزيِّ هو درع النظام وسيفه، أو صقره الحامي كما يظهر في علامةالأمن المركزيِّ أو شعاره المصمم بصريًا.

النتيجة.. كان الاستثناء هو تطبيق الدستور والقانون

في النهاية وصل الباحث إلى نتيجة مخيبة للآمال وهي “أنه لم تنجح القوانين المتعاقبة وتطور الحقوق المدنية في التصدي الجاد للممارسات الخاطئة لأجهزة الأمن، وكان الاستثناء هو تطبيق الدستور والقانون، وكان الأمر يواجهه صمتًا من المنظومة القضائية عن محاولة اىشتباك الجاد معها حتى عندما تتقابل معها في خط واحد، فإنها تحججت بالالتزام بالإجراءات”، موضحًا أن دولة القانون نجحت أن تقف خارج حدود الدولة البوليسية ولكنها تنتمي لها.

ويختتم الباحث، قائلاً “إن القانون والبوليس في مصر، مثل: كثبان الرمال، شديدة الثقل وشديدة الخفة، تأخذها الرياح وتبعثرها حيث تشتهي مرات وحيث تتصادم مع أشياء أخرى فتحدد خطوط التصادم وحدها اتجاهه وما تنتجه حركة هذه الرمال، وبين هذه الكثبان فجوات من الحماية أو الحياة العارية في مواجهة بطش السلطة المجردة”.