“إن الشاب الصفيق من هؤلاء يتعمد الوقوف على رصيف محطة الترام، بالقرب من المكان المخصص لركوب السيدات، وعندما يجد سيدة تقف بمفردها، يقترب منها بمنتهى البجاحة، ويقول لها دون سابق إنذار: “بنسوار يا هانم”.. في الخلفية يأتي صوت رائعة محمد عبد الوهاب (جفنه، علم الغزل..) فتنظر له السيدة شزراً، لتتحرك خطوتين في اتجاه معاكس له مع تتميمها ببعض الكلمات الغاضبة من فعلته.
مشهد في ثلاثينيات القرن الماضي يجسد كيف كان التحرش قديماً، فهو فعل ليس وليد الألفية الحديثة، بل موجود وتتعايش معه المجتمعات من قديم الأزل، إلا أن سمة اختلاف طرأ في الأمر، فكان التحرش قديماً عبارة عن ألفاظ تخرج من الرجل، في صورة عبارات بسيطة تمدح الأنثى، ولا تخرج عن الأدب إلا نادراً.
أخذت الأمر في التطور مع مرور الأيام ليتحول إلى تحرش جنسي وإيذاء باللفظ أو اللمس باليد أو التعليق على حجم ومظهر جسم الفتاة أو التحسس والوقوف بالقرب منها، إلى أن وصل الآن لصراع سادي، ليس هدفه مدح الأنثى بقدر ما يهدف إلى إشباع رغبات غير سوية للرجل.
تطور التحرش في مصر
كان قديماً يُسمى “معاكسات” وكان يتنوع ما بين الكلام اللطيف وإطلاق الصافرات، فما أن تخرج الفتاة من شارعها في الستينيات حتى تنهال عليها الجمل التعبيرية عن الإعجاب والخواطر الخاصة بالشخص، فلا يستطيع أحد أن يوجه إليه لوما مثل “أنا ممنون للصدفة المدهشة.. صدقيني مش بعاكسك يا هانم، مع القليل من محاولات القرب الجسدي كما ظهرت في فيلم “بين السما والأرض” للمخرج الكبير صلاح أبو سيف الذي أظهر الفنان سعيد أبو بكر في شخصية “المتحرش”، وهذا الفيلم من أوائل الأعمال التي وضعت المتحرش في المجتمع تحت المنظار السينمائي، وفى الفيلم شخصية متحرش آخر لعبها ببراعة الفنان الكوميدي عبد المنعم إبراهيم، من خلال مضايقات بدرت منهما تجاه النجمة هند رستم داخل المصعد، الذي تدور بداخله أحداث الفيلم كله.
مع بداية السبعينيات، ظهر نوع جديد من التحرش يتميز بكونه استفهامي مثل “الجميل رايح فين.. الساعة كام مع القمر؟، كلها عبارات استفهامية الغرض منها فتح الحوار مع الأنثى محل الاهتمام، ثم جاءت الثمانينات والتسعينات ليتنوع خلالها التحرش بين الكلام المعسول والوصف البسيط لجسد المرأة في عبارات مادحة له وتطورت لتحسس الجسد وقت الازدحام، والسير خلف الفتاة بالسيارة أو سيرًا على الأقدام.
ومؤخراً ظهر التحرش عبر شبكة الإنترنت، سواء بإرسال نصوص كتابية أو الصور الإباحية أو إجراء مكالمات تليفونية تحمل اقتراحا جنسيا أو تهديدا، مع الإلحاح في التعارف وإعطاء الهدايا، والممازحة بإلقاء النكات الجنسية، وتحول الأمر من غزل إلى جريمة، ومنه ما يتحول إلى تعذيب نفسي وتهديد بالاغتصاب والاعتداء الجنسي الكامل في بعض الأوقات.
ماذا حدث؟
بين ليلة وضحاها تنتشر أخبار متنوعة عن التحرش، أبطالها رجال ذوي مناصب عليا، وبعضهم الآخر فئات متوسطة وآخرين من طبقات أقل من متوسطة مع مختلف أنواع التعليم والثقافات، انتشر التحرش على كافة الأصعدة، لكنه تشرس، واختلف في طريقته.
منتصف العام الجاري انتشرت الأخبار عن تحرش أحد أعضاء هيئة التدريس بجامعة مصرية عريقة بطالبة، بعد مقايضة تمت بينهما على الصمت وتقبل الوضع مقابل تسريب أسئلة إحدى مواد الامتحان، قبلها بيومين تعج شاشات وسائل التواصل الاجتماعي تنديداً بأحد الشخصيات العامة الذي استغل متدربات في العمل لديه للتحرش بهم نظير مساعدته لهم في التثبيت بالوظيفة أو غيرها، على جانب آخر تتردد آلاف الفتيات يومياً على مراكز التأهيل النفسي تطلب المساعدة لتخلص من كرب ما بعد الصدمة الناجم عن تحرش جنسي حدث لها.
عنف وسادية
معظم الحوادث التي ذاع صيتها مؤخراً اتسمت بالعنف والسادية أكثر من مجرد تحرش، وأصبح مصطلح السادية في حد ذاته مستساغ على الآذان، فيتم استخدامه في الحياة اليومية، ولكن عادة ما يستخدم لوصف الأشخاص الذين يفرطون في إظهار العدوانية في تعاملاتهم اليومية مع الآخرين، وأصبحت الآن هناك إسقاط على بعض المتحرشين في استخدامهم للسادية خلال تحرشهم، فالشخص السادي لا يجد اللذة إلَّا في تعذيب الآخرين أو إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي أو كليهما بالطرف الآخر، سواء كان هذا خلال التحرش أو خلال الممارسات الجنسية الطبيعية بين الأزواج.
تقول منال سعيد، أستاذ علم النفس الجنسي، أن السادية هي اضطراب نفسي، تجعل الشخص المصاب بها، هدفه الوحيد هو إذلال وإيلام شريكه الجنسي، سواء هذا الشريك زوج أو زوجة أو شخص موضع التحرش، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك إناث تتسم بالسادية، وهو مرض غير مرتبط بالذكور فقط، من الممكن أن المرأة هي التي تكون مصابة بالسادية، وسواء كان الشخص السادي هو الذكر أو الأنثى ففي كلتا الحالتين يشكل الإذلال الكامل والأذى للشريك الآخر هو محور الشهوة والنشوة لدى الشخص السادي، وبالتالي سيكون الشريك السوي الذي يرفض التعرض للتعذيب والإذلال أكثر إثارة.
تضيف “منال” أن السادية أنواع أقلها ضرراً ما يتم معه إحداث شتائم وضرب خفيف للطرف الثاني، وتتدرج لتصل إلى الربط والتقييد والضرب العنيف واحداث جروح والاغتصاب وغيرها من الأفعال السادية، والتي أصبحت منتشرة في المجتمع بصورة كبيرة.
نظرتنا للجنس
رغم إرجاع البعض لسبب انتشار وتطور التحرش الجنسي في مصر إلى الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي يمر بها الجميع، إلا أن واقع الأمر هناك عوامل أخرى تساعد على تطوره وتغير ملامحه في المجتمع، وفقاً لما يقوله محمد سعد، أستاذ علم نفس الاجتماعي، جامعة القاهرة، الذي أوضح أن ثقافة العيب والعار والتربية الذكورية وجميع المصطلحات التي من شأنها أن تحرم مجرد الحديث في الجنس، وتنظر لمن يتحدث عنه بصورة مسيئة دائماً لها دور كبير فيما آلت له الظروف حالياً، موضحاً أن غياب التربية الجنسية وتجاهل الأهل للموضوع، أدى بدوره إلى ظهور ممارسات جنسية مغلوطة تصور الرجل كفاعل والمرأة كمفعول بها، وهو بمثابة الشعرة التي تفرق بين ممارسة الجنس بشكله الطبيعي والجائز، وبين التحرش والاغتصاب، وهو أيضاً ما يزيد احتمالية ممارسة الجنس بطرق سادية، وفي حال عدم وجود زواج يلجأ الشباب لممارسة نفس السلوك السادي مع الإناث في صورة تحرش عنيف يصل للاغتصاب أحياناً.
لوم الضحية
أضاف “سعد” أن من أكثر الأسباب التي طورت شكل التحرش وجعلته أكثر غلظة في المجتمعات العربية بصفة عامة والمجتمع المصري بوجه خاص، هو قناعة الفاعل والقائم بالفعل أنه في مأمن من العقاب، فدائماً أو إن صح القول في أغلب الأوقات تخاف الضحايا أن تتقدم ببلاغات رسمية ضد الفاعل الحقيقي، كما تخاف أن تعلن عن نفسها بشكل واضح ومباشر، وربما تخاف أن تخبر حتى أهلها أو أقرب المقربين لها، وذلك لأنه جرت العادة أن تتحول الشاكية إلى جانية ومتهمة، ويلومها المجتمع، تارة على ملابسها التي تسببت في التحرش بها، وتارة أخرة على شعرها غير المستتر، وإذا كانت الفتاة محجبة، يلومها المجتمع على وضعها مساحيق التجميل، وإن لم تكن مستخدمة إياها يبتكر المجتمع أي سبب يحول بين الجاني الحقيقي وبين تقديميه للعدالة، ويجعل من الفتاة مذنبة رغم أنفها، ولو بالفعل تم تقديم بلاغ لتأخذ العدالة مجراها، فيتم الضغط على الفتاة للتنازل مقابل عدم التشهير، وغالباً ما يطلب منها ذلك أهلها قبل أن يطلبها الجاني نفسه أو جهات التحقيق خوفاً على الفتاة من إلحاق التشهير بها.
نتيجة مدمرة
من الطبيعي أن تتحول كل الكوارث سالفة إلى الذكر إلى قنبلة موقوتة تهدد المجتمع بالانفجار في أي لحظة، وهو ما يعاني منه المجتمع الآن من سلوك جنسي سادي قهري، يترتب عليه عدد من المشاعر المتناقضة داخل الفرد منها الإحساس بالذنب والعار وانخفاض مستوى الثقة بالنفس، وانتشار الاكتئاب والتفكير في الانتحار والحزن، والتفكك الأسري وفقد التركيز أو الانخراط في نشاط جنسي مع أي شخص غريب لتعويض الجزء الذي فقده الأنسان من أدميتها، وغيرها من الاضطرابات والانحرافات الأخرى.
طاقة نور
رغم كل ذلك والتوحش الذي تبدو عليه الأمور، هناك طاقة نور يشير إليها “سعد” خلال حديثه تتلخص في تفعيل الدور الحيوي لوسائل التواصل الاجتماعي لتكون المساحة الآمنة للناجيات للإفصاح عن مشاكلهن وما يلحق بهن من تحرش أو اغتصاب بصورة آمنة وفي سرية تامة، دون أن تتعرض للوصم أو غيره، ليس هذا فحسب بل تتطوع فتيات وربما رجال أيضاً في التضامن من الناجيات وتفعيل الهاشتاجات المؤيدة لضمان حقوقهن، والمشجعة لهن على البوح والحديث عما يتعرضن له، وهو في حد ذاته أولى طرق التعافى .