أزمة التمهن، أو ما يشبه “مرض المهنة”، وهي أزمة يعاني منها كل من يمتهن مهنة معينة، فيتأثر بها في حياته الخاصة، وهو ما يسمى علميًا باسم “متلازمة الاحتراق النفسي المهني”، ويُصاب بها أغلب من يمتهن مهنة لفترة طويلة، وعلى سبيل المثال فالسائقون لن يتحدثوا معك سوى في القيادة أو الطرق الجديدة، أو السيارات الحديثة، أو مشكلات السيارات، ويكون محور الحديث في المهنة بنسبة تتعدى 70% من الحياة العامة، ولذلك فأغلب الشباب حاليًا يبحثون عن مهن بها ترفيه أو متعة.

رد فعل سلبي

“متلازمة الاحتراق النفسي المهني” رد فعل سلبي للجسم على الضغط المطول المرتبط بأداء الواجبات المهنية، وغالبًا ما يحدث ذلك بين المديرين أو الموظفين الذين يتقلدون المناصب العليا، ولكن، قد تتعقد هذه المشكلة لدى أشخاص آخرين يتولون واجبات مهنية أخرى، مثل الأطباء والمشرفين على الخدمات الاجتماعية، الأمر لا يتعلق بالتخصص.

ولكن، يحمل الأشخاص الذين يكافحون باستمرار من أجل القيام بكل شيء “على أكمل وجه” على عاتقهم مسؤولية كبيرة، قد تتعلق بعمل كامل فريق، ولذلك قد يواجهون صعوبة في التصرف في مشاكل الإنتاج، ويتحولون مع الوقت إلى ضحايا الإرهاق.

الصحافة

يرى الصحفي محمد ربيع، أن مهنة الصحفي مثلها مثل مهن كثيرة، وتكمن مشكلتها في التعب والضغوط النفسية نتيجة للمعرفة التي يبحث عنها الصحفي دومًا، ومثله مثل القاضي والسفير، وكذلك فمتطلبات الشخصية التي تعمل في مهنة الصحافة تحتاج إلى تحمل الإصابة بالإرهاق الفكري والنفسي.

وأضاف “ربيع” أن المهنة تعتمد على البحث عن الذات طوال الوقت، وذلك مرهق نفسيًا، موضحًا: “غير أمراض المهنة العادية، هناك أمراض أخرى مثل ضعف النظر ومشاكل ضغط الدم نتيجة التكنولوجيا وأمراض العمود الفقري، أما النفسية فأظن أنها العادية ما يُصاب به البشر إلا فقط إحساس الصحفي بـ الأنا والنقمة على ما لا يعتنقه من أفكار، وإحساسه الزائد بأنه أعلم من غيره”.

التدريس

فاتن صلاح (معلمة)، تقول إن ما يجعلهم يتحدثون عن التدريس هو أن الأهل والأصدقاء دومًا ما يتحدثون معهم حول الأبناء والطلبة وموعد الامتحانات والمناهج وغيرها، مؤكدة أن الأحاديث لا تتطرق على سبيل المثال إلى النظم التعليمية والمناهج وغيرها، فكل الأحاديث تدور حول النجاح فقط لا غير، وكيفية نجاح الطالب دون أن يتعلم شيئًا.

وأضافت “أن أحاديث المعلمين تدور حول الدروس الخصوصية، ومن لا يعطى دروسًا فهو معلم غير مألوف، وفكرة المنهجية التي لابد أن يكون عليها المُعلم، في البداية يأتي مُعلم أكبر سنًا وخبرة وبالتالي يعطى تعليمات للمعلم الجديد كي يحافظ على مهنته وبالتالي تستقر في شخصيته”.

المحاماة

في المحاماة هناك إحساس دائم بالخوف من الآخرين، وأن أغلب الناس مُجرمين، بحسب المحامي عمرو صلاح، الذي يرى “أن المشكلة تكمن في أن المحامي يتواجد رفقة المجرمين بشكل كبير، كما يتواجد في قضايا أمام القضاة بزي رسمي، وهو ما يعطيه أولوية للارتداء اليومي، وكذلك فأغلب أصدقائه في المهنة نفسها، وهو يجعل حديثهم حول ثغرات القانون وغيرها من القضايا المتعلقة بالمهنة”.

Image may contain: 1 person, smiling

ويقول “إن المحامي لم يصبه الغرور، بل هو مقتنع بأنه شخص من الصعب وقوعه ضحية لمجرم”.

تعويض النقص

الدكتور محمد الجندي المُتخصص في علم النفس، يقول “إن المريض بالمهنة يُعوض نقصه الشخصي بها، فتجده في كل نواحي الحياة يُسقطها على مهنته، تحكي مع الطبيب حول المواصلات العامة يحكي لك عن الحوادث والمرضى والاستقبال في المستشفيات، وحين تحكي مع الصحفي عن الفقر يضع لك عنوانًا بشكل فوري، ويذكرك بكل مواضيعه الصحفية عن الفقر، والجميع لا يستطيع الفصل بين مهنته وحياته الشخصية والاجتماعية”.

ويكمل: “في مثل هذه الحالات، هناك حاجة إلى الحصول على مُساعدة طبيب نفسي لتغيير نظرة المريض لنفسه، كما من المهم عدم مقارنة النفس بالآخرين ومحاولة الاسترخاء والتوقف عن تحمل مسؤولية كل ما يجري، كما تؤدي الإصابة بمتلازمة الاحتراق النفسي المهني إلى انخفاض القدرة على العمل وظهور مشاكل في أداء الواجبات المألوفة، بالإضافة إلى ذلك، يتوقف الشخص عن السعي للحصول على معلومات جديدة وإنتاج أفكار إبداعية ويصبح غير مرن، وبالنسبة للأشخاص الذين يتولون قيادة مناصب مهمة، فإن هذه التغييرات تكون مصحوبة بتراجع الوضع المهني والاجتماعي، وقد يؤدي الشعور بتراجع جودة عملهم إلى مشاكل نفسية خطيرة”.

التوحد مع العمل

الدكتور وليد هندي استشاري الطب النفسي، يحلل الشخصية بقوله: “يُعاني الأشخاص من اضطراب نفسي نتيجة لمتلازمة التوحد النفسي مع العمل، لذلك هناك أزمة في استمتاع الأشخاص بالحياة بشكل عام، وهناك عوامل كثيرة تُؤثر في اختياراتهم وتركيبتهم وإحجامهم للمواقف وطرق حل مشكلاتهم، وتطغى تركيبة العمل على أنماط التنشئة والتعليم والثقافة والجامعات مثل الشلة”.

ويضيف “أنه من أبرز مُحددات الشخصية والتي تؤثر على سلوكياته وتعامله حتى في الحياة الزوجية، هي المهنة لأن الناس تمتهن مهنة يصبح هناك قاعدة في جنبات المهنة أكثر من البيت وتتشبع نفسيًا بكل شيء في المهنة والسلوكيات المصاحبة لها، وبعد فترة تقدر بثلاث إلى خمس سنوات حسب العلماء يبدأ التوحد النفسي مع المهنة، ويتخلى عن شخصيته الأصيلة ويذوب وينصهر مع المهنة ويفتقد سلوك الأنسنة، ويتحول إلى حياة المهنة التي يعمل بها”.

ويتابع: “على سبيل المثال، المُعلمة تتحول إلى معلمة في البيت أيضًا، وتنسى أنها أم حنونة حيث تعطي الأوامر وصوتها يصبح عاليًا، وكذلك ضابط الشرطة الشك عنده عال بطبيعة عمله، وبالتالي يراقب كل شيء في المنزل ويراقب من حول المنزل وأبنائه وهواتفهم ولا يستمتع بالحياة بسبب ذلك”.

 

ويؤكد “أنه في النهاية هو توحد نفسي مع المهنة، حتى في السلوكيات مع الملبس والمسكن والأكل والشرب، ويصل الأمر إلى المستوى المرضي حينما يكون هناك إغراق للتأثير النفسي على المهنة للإنسان، ويكون ممتهن في البيت والعمل، وتتلاشى صفاته الأصيلة وهو اضطراب نفسي وليس مرضًا وهناك فقدان للهوية ونظرة الآخرين تصبح غير مُستحبة لأن المُقربين أحبوا الشخصية الأساسية وليس الوظيفة”.

ويكمل “الشخص يكون عرضة للاضطراب النفسي لو ترك الوظيفة للإصابة أو خرج على المعاش، ويصبح مصدر سخرية للآخرين، مثلما رأينا في فيلم زوجة رجل مهم، ولكنه فاقد هويته والوظيفة في آن واحد، الأشخاص يصبحون معنيين بشكل المهنة أكثر من الإنتاجية، وذلك يؤثر على العمل ويصبح لديه نوبات سلوكية كثيرة تؤثر عليه، وتصبح الحياة بالنسبة له ليس بها مفردات ولا يعيش الأحداث، وهو شيء خطير نفسيًا فهو لا يفصل ذاته عن العمل، وهناك مهن لديها عذر حيث العمل طوال الوقت وليس له ساعات وظيفية مثل ضابط الشرطة والطبيب، ولكن لابد أن يتعايش سلميًا ويفصل ذاته ويعزل نفسه عن العمل لفترة من الوقت يوميًا، ويتجرد من الشخص الآخر الطاغي عليه في العمل”.