“أخاف من الأصوات العالية، لا أقوى على تحمل الضغط، أرى أمامي جثث متناثرة حتى في غرفتي بالمنزل منذ أن دمرت المستشفى في انفجار مرفأ بيروت”.. هكذا قالت باميلا زينون، ممرضة في مستشفى بيروت عاشت رعب لحظات الانفجار أثناء تواجدها في العمل.

وتضيف “وفي يوم عند صعودي لمنزلي شعرت بدوار فظننت أن المنزل ينهار، تذكرت لحظات تشبه الزلزال عند حدوث الانفجار، بكاء متواصل، عدم قدرة على النوم، كوابيس، مشاهدة فيديو التفجير مراراً، الشعور بالتخدير التام، والانفصال الشعوري عن الواقع”.

رفض الكلام

“ب.م”، صحفي مصري في العشرين من عمره، قُبض عليه خلال الفترة الماضية، في أحد الميادين، وبحسب وصفه شعر بالخوف والإهانة، وتعرض لصدمة نفسية، ورفض التحدث مع كل من حوله عن الأمر، وأثر الصمت.

الصحفي الشاب، يقول إنه حاول الظهور في صورة قوية ثابتة، لكنه كلما مر بمكان القبض عليه شعر بخوف غير مبرر، وانتابته حالة نفسية سيئة، واضطر لإلغاء العديد من أعماله بسبب خوفه.

ويؤكد أنه أصبح شديد العصبية والغضب، يجد صعوبة في النوم، يشعر بالخطر من أصغر المواقف التي تقابله، لذا ترك مهنته لفترة رافضًا كل من يحاول التحدث معه من أصدقائه.

الأوبئة قلق من نوع أخر

بعد تفشي مرض السارس في عام 2003، أظهر كل العاملين في مجال الرعاية الصحية والأشخاص الذين تم عزلهم ذاتيًا أعراض اضطراب ما بعد الصدمة.

أوضح الخبراء والباحثين في المجال النفسي، أنه يمكن أن يكون لوباء كورونا تأثير مماثل، حتى إذا لم يتم تشخيصك باضطراب ما بعد الصدمة، فقد يكون لديك رد فعل نفسي قوي تجاه صدمة مرض كورونا، والتي يمكن أن تستمر لفترة طويلة بعد وقوع حادث.

عصمت عبد التواب، سيدة أربعينية من محافظة الجيزة، أصيبت بفيروس كورونا المستجد، وعانت خلال رحلتها العلاجية، تقول إنها عندما تشعر بالإرهاق كل ما يتبادر إلى ذهنها هو إصابتها بالفيروس الفتاك.

تقول إنها كانت تعاني من حالة اكتئاب خلال فترة طويلة في حياتها، بسبب صدمتها بوفاة والدها فجأة، وعندما استشارت طبيب نفسي لما تشعر به من قلق غير مبرر خلال الفترة الماضية، أخبرها أنها تعاني من أعراض ما بعد الصمة، أو الجرح النفسي “التروما”.

ذكريات القصف تطاردني

محمد الخطيب جابر، أحد سكان مقاطعة غزة بفلسطين، يقول إنه منذ أن كان طفلًا صغيرًا تعرضت منطقته لقصف قوي من الطيران الإسرائيلي، وتوفي خلاله شقيقته، وأصدقائه، وعندما رأى الأجساد وكانت متفحمة عانى من أزمة نفسية حادة.

“جابر” يؤكد أنه عندما يسمع صوت طيران بالقرب من منزله يستعيد كل الذكريات الأليمة التي قابلته في تلك الفترة، ويشعر بأن الأحداث تتكرر مرة أخرى، ولا يقدر على التفكير بشكل سليم.

وظل يحاول أن يجد تفسير لما يشعر به، خاصة مع عدم تفهم أغلب من حوله لما يعانيه، أخبر طبيب بأن ما يشعر به هو “أعراض ما بعد الصدمة”، والتي انتابته منذ الصغر ولم يستطع التخلص منها حتى الآن.

أعراض التروما

يقول استشاري الطب النفسي، محمود هاني، إنه من أعراض “التروما”، أو اضطرابات ما بعد الصدمة تتعدد ما بين الاكتئاب والقلق والخوف غبر المبرر، ويحدث عندما يتعرض الشخص لعنف أو ما يعرف باضطراب القلق المرهق الذي يصيب صاحبه بعد التعرض لحدث صادم أو حتى مشاهدته عن قرب شريطة أن يشتمل على تهديداً حقيقياً على حياة الفرد أو حدوث كارثة طبيعية، قتال عنيف، اعتداء جسدي أو جنسي.

وطبقًا لدراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية فإن انتشار اضطراب ما بعد الصدمة أكبر بين المعرضين لأحداث عنف بفعل الحروب بنسبة 10%، وأن الحاصلون على تعليم رسمي هم من يتأثرون في الغالب باضطراب إجهاد ما بعد الصدمة وأشد المتضررين منه.

وقت تشخيص الأعراض

الطبيبة النفسية في مستشفى أوتيل ديو والاستاذة المحاضرة في كلية الطب في جامعة القديس يوسف في بيروت، هلا كرباج، تقول إنه لا يمكن الحديث عن تشخيص فعليّ لاضطراب ما بعد الصدمة (Post-Traumatic Stress Disorder) إلا بعد شهر على الأقلّ من مرور الحدث الصادم، مؤكدة أن الدراسات تفيد بأن نسبة معينة فقط ممن شهدوا حدثاً صادماً جماعياً، يصنفون في خانة اضطراب ما بعد الصدمة، بعد مرور شهر على الأقل، أما الآخرون، فقد يعانون من مشاكل ثانية، مثل الاكتئاب والقلق، أو يجدون طريقة لتجاوز الأزمة.

وبحسب هيئة الخدمات الصحية الوطنية في بريطانيا، فإن معظم الحالات المصابة باضطراب ما بعد الصدمة، تظهر الأعراض عليها خلال الشهر الأول بعد حدث صادم، أحياناً تتأخر لأشهر وحتى لسنوات. وتختلف الأعراض بين المصابين، لكنها تشمل عموماً.

واستعادة الحدث بشكل متكرر ولا إرادي، من خلال كوابيس، أو ذكريات وصور من الماضي، وأفكار سلبية مستمرّة عن التجربة الصادمة، ألم، تعرق، شعور بالغثيان، ارتعاش، تجنب بعض الأشخاص أو الأماكن التي تذكر الشخص بالصدمة.

بالإضافة إلى التخدير العاطفي، فرط النشاط، نوبات الغضب، أرق، صعوبة في التركيز، وقد يؤدي الحدث الصادم إلى مشاكل نفسية أخرى مثل الاكتئاب أو القلق أو الرهاب، تعاطي المخدرات أو الكحول، وآلام جسدية مزمنة مثل الصداع وآلام المعدة.

أجيال ورا أجيال

آلاء حجازي، الاستشارية النفسية والمتخصصة في علم نفس الصدمات، ومهتمة بمجال بحثي لا يزال في بدايته، وهو تسليط الضوء على تناقل التروما عبر الأجيال، تقول إنه هناك بعض الدراسات التي أجريت على الفئران، فعند تعرّض الجيل الأول لصدمات كثيرة، يطرأ عددًا من التغييرات الجينية حتى في الجيل الثالث.

وتضيف في تصريحات سابقة لها، أن التروما تغير شخصية الإنسان، فتؤثر على رؤيته لنفسه، وعلى علاقته بالواقع، وعلاقته بالمستقبل، وعلى طريقة تعامله مع عواطفه لذا تعاني الأجيال المتعاقبة لتتكيف مع التروما بعدّة طرق، منها الانفصال العاطفي، وهو حالة تختلف عن الكبت والانكار، وتتمثّل بفقدان التواصل مع أجزاء من أنفسنا تحوي تجاربنا وذكرياتنا وعواطفنا الأليمة.

بالإضافة إلى ما يسمى بالإنكار التاريخي، وأحد مؤشرات التروما التراكمية، “علاقتنا بالمستقبل والزمن، اذ هناك شريحة معينة من الناس المصابين بالتروما تشعر دوماً أنّها لا تستطيع تأسيس شيء، ولا ترغب بأن تضع جهداً بمشاريع طويلة الأمد، لأن لا شيء مؤكّد، كأن علاقتنا بالزمن منبعجة، وهذه من أعراض الصدمة”.