تتخذها الدول العظمى، سبيلاً دائمًا لتحسين صورتها تارة، ولتحقيق مكاسب مختلفة تارة أخرى، تقوم على أساسها منظمات ومؤسسات كبرى باختلاف المسميات والأماكن، جميعها تنادي بمبادئ إنسانية هامة، “حقوق الإنسان” المصطلح الجاذب للآذان دائمًا، يعتقد البعض أنه وليد الغرب بما يملكه من إمكانيات وتقدم، إلا أن التاريخ كان له رأي مخالف، فبالبحث تبين أن أعظم وأهم مبادئ حقوق الإنسان العالمية، هي في الأساس نبتة زرعتها الحضارة الفرعونية القديمة، ظهرت المبادئ والأسس على الجداريات الأثرية، وفي نظام الحياة القديم، الذي سجلته كتب التاريخ وعرفها علماؤه المصريين جيداً عبر المواثيق والبرديات الفرعونية القديمة.
في أحد كتابات الباحث التاريخي جلال شلتوت، أوضح أن حضارة مصر الفرعونية القديمة كانت الأقدم بين الشعوب في تحديد وإقرار مبادئ حقوق الإنسان التي أقرها العالم حديثاً، وكذلك وضع قانون ونظام يحكم العلاقة بين الحاكم والمحكومين بالإضافة للعلاقة بين المحكومين وبعضهم البعض، وهو ما يطلق عليه نظام “ماعت”، وأسست مصر عليه نظامها السياسي والإداري والديني والاجتماعي فيما بعد.
أول من نفذ إضراب عن العمل في مصر كان في عهد الملك رمسيس الثالث حوالي عام 1152 قبل الميلاد
الحق في العمل
رغم إرساء مبدأ العمل للجميع، حيث كانت مصر الفرعونية تمثل أكبر مجتمع عامل قديماً ، كان من الضروري وضع مواثيق لهذا العمل من أجل تنظيمه، ومن هنا جاءت الضرورة للتعبير عن مطالب العمال اللذين طالبوا بتحديد أوقات ثابتة للعمل، مع منحهم اجازة في نهاية كل اسبوع عمل، من أكثر الأمور الهامة في البيئة العملية الفرعونية أنهم كانوا يهتموا بالجوانب الإنسانية للعاملين، فعلى سبيل المثال وجدت وثائق اثرية في مدينة العمال بالأقصر توضح أنه تم السماح لأحد العمال بالتغيب عن العمل حتى يحتفل مع ابنته بيوم ميلادها، وتم السماح بتغيب عامل آخر حتى يتسنى له التواجد بجوار زوجته يوم استقبال مولودهما الأول.
جدير بالذكر أن أول من نفذ إضراب عن العمل في مصر كان في عهد الملك رمسيس الثالث حوالي عام 1152 قبل الميلاد، بسبب تأخر صرف المرتبات، واستمر الإضراب مدة تجاوزت 10 أيام، حتى اعلن العمال بعدها العصيان، واستجاب مسؤولي الدولة وقتها لمطالبهم وتم صرف رواتبهم.
كما أثبتت وثائق تاريخية، أن بناة الهرم الأكبر في عهد الملك خوفو، كانوا عمالة حرة بالأجر، ووفرت الدولة المصرية القديمة عدداً كبيراً من الحقوق لهم، بالإضافة إلي أجورهم أنشأت لهم بلدة سكنية ومقابر خاصة بهم واعفتهم من الضرائب، ووفرت لهم الغذاء والماء بشكل منتظم.
القدماء المصريين بالغوا في تكريم العلم والعلماء حتى أنهم رفعوهم لمرتبة القديسين
الحق في التعليم
العهد الفرعوني القديم، من أوائل العصور التي رسخت لأهمية التعليم، في نقل المعلومات والأخبار من مكان لآخر ومن حضارة لأخرى يظهر ذلك جلياً في البرديات، واستخدامهم للورق البردي حيث يستخدم إلى الآن في التعرف على حضاراتهم، ككنز وأرشيف تاريخي، وإنما كانوا يستخدمون لغة مختلفة بالتأكيد عن اللغات الحالية، وهي اللغة الفرعونية القديمة.
وذكر كتاب التاريخ الفرعوني القديم، أن القدماء المصريين بالغوا في تكريم العلم والعلماء حتى أنهم رفعوهم لمرتبة القديسين وكانوا دوما يذكرونهم مهما مر الزمن ، فأيمحتب كان طبيب ومهندس الملك زوسر، بخلاف علماء آخرون برعوا في مجالات متعددة قديمًا.
تأمين صحي فرعوني
أثناء حفر المقابر الملكية، تعرض كثير من العمال القدامى للأذى وكثير منهم كان يحتاج متابعات صحية نظراً لتدهور الحالة وإصاباتهم المتكررة، بدأت ولأول مرة في التاريخ فكرة التأمين الصحي الشامل للعمال، وهو ما ارسته معظم دول العالم في العصر الحديث، وعرف ذلك من خلال سجلات العمال بدير المدينة بالاقصر، وهو المكان الذي تم تخصيصه قديماً لاقامة العمال العاملين في حفر المقابر الملكية، وتبين من الجداريات أنه كان لديهم نظام الإجازة المرضية لمدة يومين قابلة للتجديد وفقاً للحالة الصحية للعامل، لذلك فعند وفاتهم وجد أن جميعهم كان يتمتع بصحة جيدة نظراً لما كانوا يحصلوا عليه من رعاية صحية متكاملة.
المصريين القدماء كانوا أول من اعترف للإنسان بالحق في الحياة
الحق في الحياة
من أهم المبادئ أيضاً التي جاءت لترسخ لحقوق الإنسان قديماً كانت الحق في الحياة، فالمصريين القدماء كانوا أول من اعترف للإنسان بهذا الحق وبشكل عملي، فلم يذبحوا أبنائهم أو يوأدوهم كما ذكر في بعض الأقاويل غير الحقيقية ، فالمصريين القدماء كانوا يقدسون حياة الانسان وحق الطفل سواء كان ذكر او انثى في ان يتربى في جو اسري سليم.
فبالرغم من أن فكرة التضحية بالأرواح كانت قائمة ومنتشرة قديماً متمثلة في أن يتم التضحية برجل أو امرأة من أجل إرضاء الآلهة، إلا أن مصر لم تطبقه فعلياً على أرض الواقع وقد كان مسموح ومفعل في حضارات قريبة منها كالحضارات الإغريقية وغيرها، حتى في حالة الخطأ المؤدي لعقوبات الإعدام، كان يتم ذلك في أضيق الحدود، وبأمر من الملك نفسه، خوفاً من أن يكون الفرد مظلوم.
أرست الحضارة الفرعونية القديمة، مبدأ المساواة بين الجميع وعلى وجه الخصوص المساواة بين الرجل والمرأة
مبدأ العدالة والمساواة
أرست الحضارة الفرعونية القديمة، مبدأ المساواة بين الجميع وعلى وجه الخصوص المساواة بين الرجل والمرأة وظهر ذلك جلياً في الجداريات التي وجدت في المعابد المختلفة وجدت فيها المرأة بجوار الرجل دون تقديم لشخص على الآخر دون أن يعتبروا المرأة عورة لابد من اخفاءها، حتى المساواة بين الحاكم والمحكوم والعامل ورئيسه في الشغل، ظهر هذا في الشكوى المعروفة بشكوى الفلاح الفصيح الذي كان يشكو مديره أو رئيسه في العمل ووجدت ضمن الوثائق التاريخية أن الشكوى ورد فيها جملة على لسان الفلاح “اطلب العدالة من الإله .. اقم العدل .. فالإسم يمحى أما العدالة تدوم للأبد وتنزل معك القبر ) فجاء بعدها رد الملك عليه فشكل فعلي بأن اعاد له حقه على الفور”.
مصر القديمة كان بها نظاماً قضائياً قوياً منذ عهدها الأول
دولة قانون فرعونية
أظهرت البرديات أيضًا أن مصر القديمة كان بها نظاماً قضائياً قوياً منذ عهدها الأول، هذا النظام كان يعين الملك أو الوزير نيابةً عنه القضاة، بهدف الفصل في النزاعات بين الرعايا، ومعاقبة من يكدر السلم والأمن، وهو ما يؤكد احترام الحضارة المصرية لكرامة وحقوق الحكام والمواطنيين والعمل على إرساء دولة القانون ، عرف العالم الحديث كل هذا من النقوش والرسومات الموجودة إلى الآن على جدران المعابد، وقد جاء فيها صورة المحاكمات وجلسات الفض القضائي وغيرها.
أجيال حقوق الإنسان
أعلنت هيئة دراسات في حقوق الإنسان، عددًا من البنود الناظمة لتطور حقوق الإنسان عبر التاريخ ووصل التصنيف إلى وجود 3 أجيال من حقوق الإنسان، الجيل الأول وهو المعني بالحقوق المدنية والسياسة ، ويرجع المؤرخون نشأته إلي نهاية القرن الثامن عشر، ونتج عنه العديد من الإعلانات والمواثيق المحلية والإقليمية والدولية، التي أدت بدورها إلي اكتمال بلورة هذه الحقوق في اتفاقيات أممية، وتضمينها في التشريعات والدساتير المحلية لأغلب بلدان العالم.
ثم جاء الجيل الثاني ليرسي مبادئ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي حازت على اهتمام كبير من قِبل القوي الدولية، حيث أولت دول العالم اهتماماً أكبر لحماية هذه الحقوق عبر دعم التنمية، وتعزيز شبكات الأمن الاجتماعي، وعبر تكثيف الجهود الإنسانية الدولية لمكافحة الفقر بكل أنواعه وأشكاله.
ثم يأتي الجيل الثالث، وهو الحديث الذي ظهر مؤخراً ولم يكتمل شكله النهائي بعد، إلا أنه يضم عدداً من الحقوق المستحدثة نسبياً مثل الحق في بيئة نظيفة، والحق في التفاوض، والحق في التنمية، والحق في الموارد الطبيعية