لم تكن الحقوق والحريات الأساسية للأفراد، والتي نصت عليها الدساتير الوطنية لبلدان العالم المختلفة، أو المواثيق والمعاهدات الدولية، منحة أو عطية من أحد، كما لم يكن الحصول عليها يسيرًا.

عانى البشر كثيرًا في سائر أنحاء الأرض، ودفعوا (لقرون طويلة)، أثمانًا غالية من أعمارهم وأرواحهم، حتى تمكنوا من انتزاع تلك الحقوق، وتسطيرها في عقود اجتماعية (الدساتير) لضمان عدم انتهاكها، وبقدر ما كانت موازين القوى تميل في اتجاه الشعوب، بقدر ما خرجت هذه الدساتير معبرة عنهم، مشتملة على كامل حقوقهم. 

كفل الدستور المصري (دستور 2014) الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، في باب خاص هو الباب الثالث والذي شمل 43 مادة، حددت وفسرت الحقوق والحريات الأساسية وألزمت الدولة باحترامها وحمايتها.

ونستعرض في سلسلة موضوعات، الحقوق والحريات الأساسية التي كفلها الدستور المصري، وضمنتها المواثيق الدولية، وجوهر تلك الحقوق، ومدى صيانتها من العبث بها.

الكرامة الإنسانية

صَون الكرامة الإنسانية، هي قمة الحقوق الأساسية التي كفلها الدستور المصري في المادة 51، أولى مواد الباب الثالث “الحقوق والحريات والواجبات العامة”، حيث نصت على أن: “الكرامة حق لكل إنسان، ولا يجوز المساس بها، وتلتزم الدولة باحترامها وحمايتها”.

أي شكل من أشكال إهدار كرامة الإنسان، بالفعل أو القول أو كافة الأساليب، من قبل سلطات الدولة أو ممثليها، أو من شخص اعتباري أو طبيعي تجاه شخص آخر، هو مخالفة صريحة للدستور، والدولة بسلطاتها المختلفة وعلى رأسها السلطة القضائية، مطالبة بضمان هذا الحق، ورد الاعتبار للشخص الذي اُنتهكت كرامته الإنسانية، ومعاقبة المنتِهك، سواء كان جهة أو مؤسسة أو مسئول حكومي، بالمسؤولية الأساسية والتضامنية، طبقًا لنصوص القانون، وكذا معاقبة منتهكي حق الكرامة الإنسانية من الأشخاص الاعتباريين والطبيعيين.

تلا المادة 51 مادتان اعتبرهما الدستور مكملتان لحق الكرامة الإنسانية فنصت المادة 52 على أن: “التعذيب بجميع صوره وأشكاله، جريمة لا تسقط بالتقادم.

 التعذيب هو أشد أشكال انتهاك الكرامة الإنسانية، فخلال عملية التعذيب وبعدها يفقد الشخص الذي تعرض للتعذيب آدميتِهِ، ويفقد الثقة في نفسه ويظل مرتعدًا من أي شخص يقترب منه، ولا يمكنه التعامل مع أحد، فيتحول إلى شبه إنسان، وقليلون من ضحايا التعذيب من استطاعوا العودة إلى حياتهم الطبيعية.

 وتنص المادة التالية وهي المادة 53 على أن: “المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر”.

 جريمة يعاقب عليها القانون

إن أي مظهر من مظاهر عدم المساواة بين أفراد المجتمع، والتمييز بينهم لأي سبب، هو إهانة للكرامة الإنسانية وانتقاص منها، فمتى شعر الإنسان بالتحقير من أو لصالح شخص آخر بسبب عقيدته أو جنسه أو لغته أو أصله أو عرقه أو مستواه الاجتماعي أو غير ذلك، فقد إنسانيته وكرامتها.

 ليس التعذيب أو أشكال التمييز فقط، هي ما تمثل انتهاكًا للكرامة الإنسانية، يمكننا أن نقول، إن انتهاك الكرامة الإنسانية، يعني انتقاص أي حق من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، فعدم الحصول على الغذاء أو الملبس أو المسكن أو الدواء، أو الحصول عليها بشكل غير لائق أو غير مكتمل، هو انتهاك للكرامة الإنسانية، وكذا أي انتقاص في حق المواطن في المعرفة والثقافة وحصوله عليها، هو انتهاك للكرامة الإنسانية، إنها بحق قمة الحقوق الآدمية.

 لكن إلى أي مدى يمكن أن نرصد صون الكرامة الإنسانية أو انتهاكها في مصر؟

 نستطيع أن نرى انتهاكات حق الكرامة الإنسانية في مصر، في كثير من الممارسات المؤسساتية والشخصية.

 الفقر

شهدت السنوات الماضية ارتفاعًا كبيرًا في معدلات الفقر، فبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في آخر تقرير له، ارتفعت معدلات الفقر في البلاد لتصل إلى 32.5 % من عدد السكان، وتراوحت نسبة الفقر في 46 قرية ما بين 80 إلى 100%، وتعاني 236 قرية في سوهاج وحدها من الفقر، بنسبة بلغت 87% من قرى المحافظة، فيما أرجع البنك الدولي ارتفاع معدلات الفقر إلى برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تبنته مصر.

الفقر وما ينتجه من بيئات معيشية غير آدمية، هو أحد أشكال انتهاك الكرامة الإنسانية، فيمكنك أن تتخيل شكل الحياة في قرى تصل نسب الفقر بها إلى 100%، أو في مجتمعات العشوائيات، فلا سكن صحي أو ملائم ولا غذاء أو ملبس لائق، نستطيع أن نقول استنادًا إلى تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إن 32% من سكان مصر قد انتهك الفقر كرامتهم الإنسانية.

أماكن الاحتجاز

الوضع داخل السجون وأماكن الاحتجاز في مصر كان مسار انتقاد من منظمات دولية، ومنظمات حقوقية مصرية خلال الفترة الماضية، ومثلت الكثافة داخل غرف وأماكن الاحتجاز والرعاية الصحية جوهر هذه الانتقادات، خاصة مع تفشي وباء كورونا، حيث اعتبرت هذه المنظمات الوضع انتقاصًا لحقوق السجناء وكرامتهم الإنسانية.

وطالبت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، في شهر أبريل الماضي، بتخفيف تكدس المحتجزين والنزلاء في أماكن الاحتجاز، وطالبت النائب العام بالتوسع فى استخدام الإجراءات والتدابير البديلة للحبس الاحتياطى، وفحص جميع ملفات المحبوسين احتياطيًا والإفراج عنهم.

واشتكى العديد من أهالي السجناء من سوء الرعاية الصحية لذويهم، وطالبوا في خطابات رسمية للنائب العام ومسؤولي السجون ووزير الداخلية، بتمكين الحالات المرضية خاصة ذوي الأمراض المزمنة من إجراء الفحوصات اللازمة ونقلهم إلى مستشفيات عامة أو خاصة على نفقة المرضى خارج مستشفى السجن، كحق من الحقوق الإنسانية للسجناء والتي كفلها الدستور والقانون.

التنمر والتمييز

شهدت الفترة الماضية حالات تنمر وتمييز، بل وتعذيب من قبل أفراد، وهي بلا شك انتهاك صارخ للكرامة الإنسانية، كان من بينها حالات تنمر بسبب اللون مثلما حدث مع الطفل السوداني “نائل”، كذلك التنمر منذ أقل من عام على طفل من ذوي الإعاقة الذهنية.

إضافة لوقائع عنصرية / طبقية، بسبب المستوى الاجتماعي، كالذي حدث في واقعة يارا نعوم زوجة نجم الأهلي السابق عماد متعب ووالدتها، حيث اُتهمت بالتورط في واقعة تنمر، عندما ذُكر أنهما رفضتا نزول سيدة تعمل لدى نزيلة بإحدى القرى السياحية حمام السباحة، حيث جاء في رواية النزيلة أن والدة يارا قالت لها: “الشغالة متنزلش أنا مش هنزل المية (بركة السباحة) مكان الشغالة”، لكنها تجاهلت الرد عليها، غير أنها تفاجأت بزوجة لاعب الأهلي تطالبها بعدم إنزال الخادمة إلى بركة السباحة، أو مغادرة المنتجع، واصفة الخادمة بألفاظ عنصرية.

الطفلة ضحية التعذيب

ولعل من أبشع الوقائع التي تنتهك الكرامة الإنسانية، واقعة تعذيب زوج وزوجة لطفلة تبلغ من العمر 9 سنوات وتعمل لديهما بالمنزل، بحرقها وإطفاء السجائر بمناطق حساسة من جسدها، وقص شعرها وقطع أجزاء من أذنيها بآلة حادة.

إرادة تشريعية

إن نصوص الدستور، خاصة التي تتعلق بالحقوق الأساسية، سيبقى العديد منها مجرد نصوص مجردة، إذا لم تتوافر إرادة تشريعية لسن القوانين التي تعززها، (وهو ما حدث مثلًا في صدور تعديل قانوني مؤخرًا من مجلس النواب يجرم فعل التنمر، بعد ضغط اجتماعي كبير)، وإرادة حكومية لتنفيذ تلك القوانين، وإجراء إصلاحات مؤسساتية خاصة في أماكن الاحتجاز ومراكز التأهيل كالأحداث، والتي تشهد انتهاكات كبيرة لكرامة النزلاء الإنسانية، من قبل المشرفين، وإقرار خطط تنموية تحفظ للمواطنين كرامتهم الإنسانية.