روعة البدايات وإخفاقاتها

يطرح منظرو التنوير وهم أيضًا المبشرون بالدولة القومية الحديثة مسألة “العقد الاجتماعي” بوصفها ما يمنح السلطة السياسية شرعيتها، وعلى الرغم من اختلاف المقدمات بين نظريتي العقد الاجتماعي الرئيسيتين إلا أنهما تفضيان إلى النتيجة ذاتها، نتيجة يطرحها فلاسفة السياسة بوصفها مسألة أساسية ألا وهي “ضرورة الدولة”، إذ ينظر “هوبز” في كتابه المعنون “التنين/اللاويثان” للبشر بوصفهم ذئابًا تتقاتل على الطعام، مؤكدًا على أن “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”، ومن ثم يصبح قيام “المجتمع” أمرًا مستحيلًا في ظل هذا النزاع الشرس الذي يصفه “هوبز” بحرب الكل ضد الكل، ومن ثم يطرح العقل ضرورة الدولة بوصفها القادرة على منع الفوضى واستتباب الأمن، وهو أمر يبدو منطقيًا، ويجعل من قيام الدولة ضرورة اجتماعية/سياسية تستدعي إنشاء شكل تعاقدي يضمن لجميع الأفراد داخل المجتمع الأمن والأمان، وهو ما تضطلع به الحكومة من خلال السهر على إنفاذ القوانين على الجميع دون تمييز، ومن ثم تحتكر الدولة أدوات العنف وتستخدمها عند الضرورة  لصالح المجموع.

وبينما ينظر “هوبز” الإنجليزي المزاج والمنشأ لهذا الجانب المادي الشرس والشره في آن واحد في طبيعة الإنسان، يأتي الفرنسي “روسو” في كتابه “العقد الاجتماعي” ليؤكد على الطبيعة الخيرة للإنسان، ولكنه يرى أن التطور التقني من ناحية، وتزايد أعداد السكان في البلدان الحديثة من ناحية أخرى، يستدعيان وجود بعض الأفراد الذين يسهرون على إدارة شئون المجتمع من خلال مؤسسات الدولة، التي تنشأ من خلال تعاقد طوعي بين أفراد المجتمع على منح البعض سلطات تسمح لهم بالاضطلاع بمهام توفير احتياجات المجتمع والأفراد على حد سواء، هذا التعاقد يقوم على إنشاء مؤسسات ذات سلطات متوازنة تضمن للجميع عدم انفراد إحداها بالحكم والتسلط على المجتمع، ومن خلال تفويض مؤقت يمنحه أفراد المجتمع للقائمين على تلك المؤسسات عبر اقتراع عام يشارك فيه كل أفراد المجتمع على حد سواء، وذلك بسبب تعذر المجتمع بجميع أفراده عن الاضطلاع بهذه المهمة المقدسة.

تعبر الدولة إذن – وفقا للمفهوم العام للدولة القومية البرجوازية الحديثة- عن روح الجماعة، والإرادة العامة لمجموع أفرادها، فالروح تحقق حريتها في الدولة وعبرها، ومن ثم فعلينا أن نعترف بأن فكرة الحرية لا توجد بالفعل إلا في واقع الدولة، ولن تتحقق الحرية عمليًا إلا عندما تعبر الدولة عن أهداف المجتمع، من خلال اختيارات الأفراد، فالدولة أحد منجزات العقل، وبالتالي فإن العقل معيار التحليل لشكل الدولة كما يرى “هيجل”،  ومنا هنا يجب على الدولة أن تكون في خدمة المجتمع، الذي شُيد لرعاية مصلحة الفرد في الرخاء والسعادة والأمن والحرية، ولكي تمارس الدولة وظائفها بوصفها تجمعًا سياسيًا وعقلانيًا فإنها تلجأ بالإضافة إلى الوسائل القانونية إلى العنف المادي، فهي وحدها تمتلك هذا الحق بل وتحتكره كما يؤكد “ماكس فيبر”، ولكنه عنف يتسم بالعقلانية والمشروعية لحمايته للحق العام.

نحن أمام نموذج ابتدعه البشر في لحظة انتصار، ليتوافق والتطور الذي أحدثه العلم ومنجزاته، وفرضه التطور الاقتصادي وتبدله من نمط المجتمع الإقطاعي/الزراعي القائم على العبودية، والذي كان يحتاج إلى قوة العمل اليدوي البشري الجماعي بوصفه أداة من أدوات الإنتاج، إلى المجتمع البرجوازي/الصناعي القائم على الحرية والذي كان يحتاج إلى قوة العمل الفردي على الآلات الصناعية، بوصفه عاملا يدير أدوات الإنتاج، وينقل المجتمع الزراعي إلى المجتمع المديني بكل ما استلزمه ذلك من تغيرات اجتماعية وسياسية وثقافية، أنتج في نهاية المطاف الدولة البرجوازية الحديثة، التي منحت للأفراد الحرية، والمساواة، والعدل، أو هكذا زعمت.

ويبدو أن نجاح تلك الطبقة الجديدة من منظمي المشروعات الرأسمالية، قد أكد فاعلية وجاذبية التغيرات المؤسساتية، فالاخـتـيـار الـفـردي واتـخـاذ القرار بشكل شخصي كانا في ذلك الوقت نوع من النشاط الوظيفـي بناءين ومفيدين فيما يتعلق بتحقيق معدلات إنتاج أعلى وكـفـايـة إنـتـاجـيـة متزايدة وأرباح مرتفعة لوحدة المشروع. وساعد البرهـان الـدامـغ الخـاص بالتطور الاقتصادي والإنتاج الإجمالي المـتـزايـد فـي أوروبـا الـغـربـيـة عـلـى رسوخ وازدهار الدعاوى النفعية المتعلقة بالفرديـة والاخـتـيـار الـشـخـصـي والتراكم الخاص.

تطورت نظم الحكم عبر عقود وعقود ومن خلال صراعات كان بعضها يتسم بالعنف والدموية إلى أن وصلت لشكل الحكم الديموقراطي القائم على التمثيل/التصويت حتى تشكلت الثقافة الحاكمة لهذا المفهوم من خلال الممارسات الجمعية والرؤى النظرية والتحديات العملية والتناقضات الواقعية لتشكل نظرية سياسية متكاملة الأبعاد، وربما تكشفت معالمها مع نهاية الحرب العالمية الثانية لتشكل نموذجا حضاريا انقسم على ذاته إلى معسكرين يزعم كلاهما أنه يطبق الديموقراطية على طريقته. وتعد الديمقراطية التمثيلية الشكل المعبر عن الديمقراطية والرؤية المدنية العلمانية في صورتها الحديثة، وفيها يختار المواطنون (على نحو حر وسري في انتخابات تعددية) ممثلين ينوبون عنهم، ولكن ليسوا وكلاء لهم أو بمعنى آخر لا يتم توجيههم، ويمتلكون صلاحيات تمكنهم من الإتيان بمبادرات في حال حدوث أية متغيرات لا يرضون عنها. وتعد الديمقراطيات الليبرالية الحديثة نموذجاً مهماً للديمقراطية التمثيلية.

ولكن هناك أيضا الديمقراطية الشعبية، وتُطلق هذه التسمية على نظام الحكم في الدول التي كانت تخضع للنفوذ الشيوعي، كالنظام القائم في الاتحاد السوفيتي سابقاً ودول المعسكر الاشتراكي السابقة، الديمقراطية الشعبية عبارة عن مفهوم للديمقراطية المباشرة تقوم على الاستفتاءات وغيرها من أدوات التمكين وتُعتبر تجسيدًا للإرادة الشّعبية.  وتعتبر الديمقراطيات الغربية هذا النظام غير ديمقراطي لأن أساليبه لا تتفق والمقاييس الأساسية التي تُقرها المعايير الديمقراطية، فالتعبير عن ارادة الشعب يجري على أساس نظام معقد مفروض من داخل أعلى قيادة حزبية أو جهة حكومية واحدة بحيث تقيد حرية الاختيار لدى المواطن وحرية تأييده أو رفضه لحزب دون آخر.

إذن نحن أمام معسكرين متضادين يدعي كل منهما أنه يمارس الديموقراطية بشروطه الخاصة، والتي تتأسس على مسألة ملكية أدوات الإنتاج من ناحية، وعلى مسألة وضع الفرد الخاص داخل المجتمع الحديث بوصفه “فردا” في مواجهة “الجماعة”، وهو تأسيس مفاهيمي للدولة الحديثة أضـفـى قـدرا كـبـيـرا مـن الأهمية على الاستقلال الشخصي في العمليات الصنـاعـيـة والـسـيـاسـيـة بغرض تحسين شروط الحياة الخاصة للفرد، ومن ثم اكتسب الرأي القائل بأن الحرية هي مسألة شخـصـيـة، وأن حـقـوق الـفـرد تبطل حقوق الجماعة وتوفر أساس التنظيم الاجتماعي المصداقية، وخاصة مع ظهور المكافآت المادية ووقت الفراغ، بينما هـذه الـشـروط الحياتية لم يجر توزيعها بالتساوي بين كل طبقات المجتمع.

وعلى مدار عقود كانت مؤسسات الدولة في سياقها الديموقراطي تتزايد قوتها وتتنامى قدراتها، بينما تتراجع قدرات التنظيمات المجتمعية في سياق يدفع إلى الإغراق في الفردية، وبينما تتعامل المؤسسات مع الفرد بوصفه فردا (داخل جماعة) يواجه الفرد “عضو المؤسسة” بوصفه تجليا للمؤسسة، وبرغم أن هناك من الشواهد ما يكفي للقول بأن حقوق الفرد المطلقة ليست سوى أسطورة وبأنه لا يمكن الفصل بين الفرد والمجتمع، وهي أسطورة تمثل إحدى الأدوات التي تسعى المؤسسات من خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة.  فباستخدام الأساطير التي تفسر وتبرر الشروط السائدة للوجود بل وتضفي عليها أحيانا طابعا خلابا يضمن لها التأييد الشعبي لنظام اجتماعي لا يخدم في المدى البعيد المصالح الحقيقية للأغلبية. وعندما يؤدي التضليل الإعلامي للجماهير دوره بنجاح تنتفي الحاجة إلى اتخاذ تدابير اجتماعية بديلة.

وهو ما يؤكده الاقتصادي الفرنسي “برودون” عندما يقول: إن الديمقراطية لا شيء سوى طغيان أغلبية تعتمد على الغريزة والمشاعر وهو ما يعتبر أسوأ أشكال الطغيان، وذلك لأنه يستند على أرقام مجردة تتخفى خلف مفهوم “الجماهير”. ماهي ورقة الاقتراع؟! إنها ليست أكثر ولا أقل من قطعة من الورق يقولون أنها تمثل الحربة، وربما يحقن صوت الأغلبية الدماء ولكنه لا يقل عشوائية عن أية فوضى، عشوائية تحكمها مجموعة من البيروقراطيين والتكنوقراط وأصحاب رؤوس الأموال.

وهو ما تطرحه في هذه اللحظة الراهنة بوصفها رؤية بديلة ما يعرف بالديموقراطية الاشتراكية، أو الديمقراطية الاجتماعية، وهي إيديولوجيا سياسية تدعو إلى تدخل اقتصادي واجتماعي من قبل الحكومة لترسيخ أسس العدالة الاجتماعية ضمن إطار النظام الرأسمالي، للدفع نحو صياغة سياسات اتجاه ما يعرف بدولة الرفاه، من خلال ترتيب المفاوضة المشتركة، تنظيم الاقتصاد بما يخدم المصلحة العامة، إعادة توزيع الدخل والثروات، مع الالتزام بالديمقراطية التمثيلية.

وتتبنى النظم الديمقراطية الاشتراكية نظام الاقتصاد المختلط واقتصاد السوق الاجتماعي، وتهدف الديمقراطية الاجتماعية لتحسين حالات المساواة والديمقراطية والتضامن المجتمعي في المجتمع الرأسمالي. يسمح بالعيش الكريم و بالمساهمة في الإبداع والابتكار والعطاء، وقد برز هذا النوع من الاقتصادات في شمال أوروبا فيما أصبح يعرف بالرأسمالية النوردية أو النموذج الاسكندنافي.