يتراص مئات المسافرين على رصيف “11” في محطة السكك الحديدية يوميًا في انتظار القطار رقم 158 القادم من الإسكندرية في طريقه للوجه القبلي، حامين عشرات الحقائب الضخمة والأجولة، تمهيدًا لرحلة شاقة تستمر لبعضهم 22 ساعة متواصلة، ممزوجة بالصبر وتحمل تقلبات الحرارة.

يبدي كثير من المسافرين، أثناء افتراشهم أرض الرصيف الطويل، غضبهم بمجرد ذكر كلمة “بشتيل”، المحطة الجديدة التي تعتزم وزارة النقل قطارات السكك الحديد إليها، يتناقشون بينهم بأسلوب حاد لارتباط سفرهم المعتاد بموقع محطة مصر، الذي يتوسط أماكن قدومهم من جميع أنحاء القاهرة، كل منهم يحسب حسبة المسافة والوقت والتكلفة الإضافية التي سيتكبدها. 

يقول صدام محمود، الذي يعمل في مجال البناء بشرق القاهرة، إن نقل المحطة أثار استياء الكثير من أبناء الجنوب الذين يشعرون بأن الحكومة تحملهم دائمًا مسئولية أي مشكلة سلبية، فهم السبب الرئيسي في العشوائية وهم السبب في تكدس منطقة رمسيس بالركاب، والسبب أيضًا في الزيادة السكانية.

يضيف الشاب الثلاثيني، الذي ينتظر بشوق لرؤية زوجته وأبنائه الذين لم يرهم منذ أربعة أشهر، أن ميدان رمسيس يمتلئ بعشرات السيارات والحافلات المتجهة للدلتا والإسكندرية التي تنتظر لساعات حتى  تحمل الركاب، رغم أنها في مواقف غير رسمية، ولا يعترض عليها أحد من المسئولين، والباعة عادوا مجددا للمنطقة ولم يتحرك أحد أيضًا.  

تؤكد هيئة السكة الحديد أن محطة سكة حديد بشتيل الجديدة لن تكون جاهزة أمام ركاب الصعيد حتى مطلع 2025، بالنقل إليها يتم عبر مرحلتين، الأولى شمل ورش الصيانة بتكلفة 350 مليون جنيه خلال عامين، والثانية تضم إنشاء محطة ركاب كبيرة بها مول تجاري لخدمة قطارات الصعيد في 3 أعوام لخدمة أهالي الصعيد وراحتهم، وتخفيف الزحام بمحطتيّ رمسيس والجيزة.

وفقًا لوزارة النقل فإن المحطة الجديدة، التي تبعد عن وسط القاهرة 18 كيلو متر، ستكون بتصميم أوروبي وتشمل شبكة من المواصلات لنقل الركاب لأي منطقة في القاهرة منها مونوريل 6 أكتوبر ومترو الأنفاق ووسائل النقل الجماعي وخطوط الأتوبيسات”، وتقع على 3 محاور رئيسية (محور ترعة الزمر – محور شارع السودان – محور أحمد عرابي وشارع المطار)، تٌسهل نقل الحركة منها وإليها.

لكن محمد شعبان، مهندس من محافظة أسوان ويعمل بالإسكندرية، يقول إن نقل المحطة لا يتضمن أي فائدة، بل على العكس سيخلق المزيد من التكدس في القطارات المتجهة للإسكندرية على عكس الأخرة التي آخر محطاتها في القاهرة، باعتبار أن الأولى مجبرة على التوقف في رمسيس كمحطة أساسية في رحلتها.

ويضيف إن ما يثير الغضب بالنسبة لركاب الجنوب هو البدء بخطوطهم رغم وجود مشروع قديم لنقل جزء من قطارات الوجه البحري إلى قليوب ومد الخط الثاني للمترو إليها، للتسهيل على الركاب القادمين من الدلتا والمحافظات الشمالية إليها، وهو كان الأولى على اعتبار أن قليوب محطة تعمل بالفعل ويمكن بسهولة تطبيق خطة النقل إليها.


وأنشأت محطة مصر، عام 1854 في عهد محمد سعيد باشا، وشهدت انطلاق أول رحلة سكك حديدية في أفريقيا والشرق الأوسط، كما تعتبر ثاني أقدم خط في العالم بعد الخط الأول في إنجلترا، وينطلق منها 22 خطا إلى مختلف المحافظات تمثل رقمًا مهماً من أصل 360 مليونا تقلهم جميع الخطوط على الوجهين القبلي والبحري.

ودعا النائب محمد الغول، عضو مجلس النواب عن محافظة قنا، وزير النقل إلى إعادة النظر في قرار نقل خطوط الصعيد في الجلسة الختامية لمجلس النواب، ملمحا إلى نوع من أنواع التمييز ضد الوجه القبلي، لكن رئيس مجلس النواب على عبدالعال أكد أن المشروع هدفه الخروج من القاهرة وتقليل الاختناق داخلها، واستشهد بالتجربة الفرنسية التي تضم 4 قطارات رئيسة كل منها موجة لجهة معينة (الشمال والجنوب والشرق والغرب).

ويقول الدكتور إبراهيم مبروك، أستاذ النقل، إن تأسيس محطة جديدة للركاب في بشتيل استغرق وقتا طويلا من وزارة النقل لوضع دراسات جدوى كاملة تتضمن عدد الركاب والسكان الأصليين المتواجدين بالمنطقة ودرجة الكثافة السكانية المتوقعة والانسياب المروري داخلها، لتسهيل حركة السفر وتلك العناصر تتوافر في محطة بشتيل الجديدة التي تأتي في منطقة مثالية.

وأوضح أن موقع بشتيل جيد حيث يتوسط المسافة بين رمسيس والجيزة، التي تعتبر ثاني المحطات استقبالا للقادمين والمسافرين للصعيد بعد المحطة المركزية، واستحداثها يمثل فرصة لتقليل عدد الركاب الداخلين لوسط القاهرة وتوزيعهم على المناطق التي يقصدونها بعد القدوم، خاصة أن غالبيتهم من حاملي الحقائب والمستلزمات الكبيرة باعتبار أن رحلاتهم طويلة وليست قصيرة مثل الوجه البحري.

وأمام المحطة، يبدي صاحب مطعم غضبه الشديد من القرار، فالمحل الصغير الذي اشتراه بمبلغ خيالي يقارب المليون جنيه كان سببه وجود آلاف المسافرين إلى الصعيد الذين يمثلون القدر الأكبر من زبائنه الذين يقضون ساعات انتظارهم على مقاعده للراحة، بعد الرحلة الطويلة أو لانتظار القطارات وتناول الأطعمة والمشروبات.

يقول صاحب المطعم إنه بين نارين لو باع المحل فسيخسر آلاف الجنيهات ولو أكمل فلن يجد زبائن مستقبلا يكفون تكلفة تشغيل العمال، والموقع الجديد يتضمن مولات تجارية ومقاه فاخرة تديرها شركات كبيرة ولن يسمح للأفراد مثله بالحصول على مكان داخلها.

لكن مسئول بوزارة النقل يؤكد أن القرار يأتي لتخفيف التكدس من قبل وسط القاهرة وتسهيل حركة المرور داخلها ويأتي ضمن خطة أكبر بتطوير القاهرة التاريخية، مع إخلاء المحافظة من الوزارات والمقار الإدارية الحكومية، وعودة القاهرة لدورها التاريخي والثقافي والسياحي والأثري، فنقل القطارات هو المرحلة الأولى لتطوير منطقة رمسيس التي تشهد تكدسًا للباعة الجائلين وأنماطا متعددة من العشوائية سواء في عربات النقل “السيرفيس” أو المواقف غير الرسمية.

ارتبطت أهمية ميدان رمسيس، الذي يحلو للبعض بتسميته بقلب القاهرة النابض، بوجود القطارات والركاب الذين يعتبرونه بحكم التكرار والعشرة كبيوتهم، فمنهم من قضى في رحابه أطول عدد ساعات بعد المنزل في رحلات طويلة ومتكررة شهدت تغيرات الزمن على وجههم، ومنهم من تحمل صافرات قاطراته الضخمة ذكريات لا تنسى ارتبطت بالفقد واللقاء والأحلام والمستقبل.