عبَّرَ الغناء الشعبي في مصر، خلال تاريخه الممتد لقرون طويلة، عن القيم الثقافية للبيئات والفئات الشعبية المختلفة، وحمل مفاهيم تلك الطبقة، وساهم في بناء تكوينها الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي، ورسم صور مختلفة عن الممارسات الاجتماعية داخلها.
والنساء لم يكن بعيدات عن الغناء الشعبي، بل كن في القلب منه، سواء من حيث كونهن جزءًا أصيلًا من موضوع الأغنية الشعبية، أو كمؤديات لها في المناسبات الاجتماعية كالأفراح، والختان، والحج، ومواسم جني المحاصيل الزراعية، وفي فن العديد، بل أن هذا الفن (أغاني العديات) كان شكلًا خاصًا بالنساء دون الرجال، عبرن من خلاله عما تحتويه صدورهن من ألم الفراق ولوعة الفقد، وهو ما طرح الصيغة الأنثوية على الأغاني الشعبية إلى جانب الصيغة الذكورية، طوال الوقت.
النساء واحتراف الغناء الشعبي
لا يُعرف تحديدًا متى ظهر الغناء الشعبي، في شكل حرفة فنية لها أصحابها الذين يطوفون بها قرى الريف المصري ونجوعه، وضواحي المدن وأحيائها، لكن مؤرخي الموسيقى والغناء الشعبي، يعتبرون بداية القرن التاسع عشر إبان فترة حكم محمد علي، قد شهدت انتشارًا للمطربين الشعبيين والمداحين الذين كانوا ينشدون في الموالد، ويُحيون الأفراح والمناسبات في بيوت كبار العائلات.
ساكنة بك
وإن كانت “ساكنة بك” هي أول مطربة مصرية في العصر الحديث، والتي كانت تغني في البداية في أكشاك الأزبكية، حيث يتواجد العشرات من المطربين الشعبيين، قبل أن تحظى بمكانة كبيرة لدى أسرة محمد علي، ورجال الدولة، إلا أننا لا يمكن اعتبارها أمًا للغنائي الشعبي النسائي في مصر، فلم تكن لا هي ولا من تلتها من فنانات وأشهرهن “ألمظ” ثم “منيرة المهدية” معبرات عن الطبقات الشعبية.
زينب المنصورية
كان ظهور الحاجة زينب المنصورية، في العقد الثاني من القرن العشرين، هو أول ظهور احترافي لمطربة شعبية، معبرة عن الطبقات الشعبية، غنت “المنصورية” العديد من الأغنيات والتي سُجل بعضها على أسطوانات، بعدما تعاقدت معها بعض شركات الأسطوانات التي غزت سوق الغناء المصري في بداية القرن العشرين.
غنت “المنصورية” أغان كثيرة في عمر غنائي لم يتجاوز العقدين حيث رحلت في شبابها، عام 1935، ومن بين الأغاني التي اشتهرت بها: “وانا بجني الفل جرح إيدي”، وموال “من مصر جبت الطبيب”، كما عاصر “المنصورية” عدد من المطربات الشعبيات، وجاء بعدها العديد من المطربات اللائي نلن شهرة شعبية أوسع بحكم ظهور الإذاعة ثم التلفزيون، كما كان عمرهن الفني أطول بكثير مثل: “خضرة محمد خضر، وروح الفؤاد، وجملات شيحة، التي ظلت تغني بعد سن الثمانين، وبدرية السيد، وفاطمة سرحان، ثم فاطمة عيد ، وصولًا إلى المطربات الشعبيات الأحدث واللائي ظهرن في التسعينيات وخلال العقدين الأخيرين.
هل استطاعت المطربات الشعبيات خلال هذا التاريخ الطويل التعبير عن ذواتهن وإبراز قضايا النساء من خلال الأغنية الشعبية؟
نِدية العشق
قلنا إن تأدية النساء للغناء الشعبي في الأفراح، خلق صيغة غناء أنثوية، تتحدث فيها المرأة بضمير الأنثى، عن مشاعرها وأحلامها، ولو في إطار المجتمع الذكوري ذاته والذي يجعل منها مجرد تابع للرجل، أو تحوز على مرتبة اجتماعية تالية، وليست مساوية له.
لكن هذا الإطار الذكوري، لم يمنع “نِدية العشق” في الأغاني الشعبية للنساء، فالمرأة في الأغنية الشعبية وفي عيون المرأة وبصوتها: عاشقة، تعرف الحب ومآسيه وولعه وحلاوته، وهي مبادرة بالحب أيضًا وساعية إليه تعرف قدره كما تعرف مخاطرة.
“على ورق الفل دلعني.. انا ما احملشي الذل ده يعني.. انا لا حلتي ولا معايا إلا الغوايش اللي معايا.. ما قولتلك يلا نبيعهم.. واسهر وياك ودلعني.. انا لا حلتي ولا فـ صدري.. إلا العقد اللي فـ صدري.. ما قولتلك يلا نبيعه واسهر وياك ودلعني.. على ورق الفل دلعني”
اشتركت أكثر من مطربة في غناء أغنية “على ورق الفل” مثل فاطمة سرحان، وجمالات شيحة، وهي أغنية مغرقة في الشعبية لكنها تنطوي على جرأة شديدة لعاشقة مبادرة بحبها مستعدة أن تضحي بما تملكه من أجل الفوز بحبيبها، هذا الهوى الذي لا ينطوي تحت رداء التقاليد الاجتماعية، عبرت عنه الكثير من الفنانات الشعبيات.
وغنت الفنانة الفذة خضرة محمد خضر، “ياللي رماك الهوى الصبر ليك أحسن دوا.. وانا اللي رماني الهوى.. الصبر شربت مراره.. صابرة وباستحمل ناره.. واقفاله على باب داره قعداله في استنظاره”، هذه ليست مجرد عاشقة إنها عاشقة تَحمِل من الشجاعة ما يجعلها تتجرع مرار الهوى والعشق، لتقف في انتظار الصبر على باب داره، فهي ليست ضعيفة ليهزمها الهوى.
جميع أشكال الغناء الشعبي
اقتحمت المطربات الشعبيات، جميع أشكال الغناء الشعبي، التي عرفها الرجل، من الموال إلى القصص والروايات الشعبية، ومن المديح وأغاني الحج، إلى فن الواو والمربعات، فلم يكن هناك لون من ألوان الغناء الشعبي لم تعرفه النساء.
الفنانة بدرية السيد، غنت بإبداع شديد الكثير من المواويل منها “طلعت فوق السطوح انده على طيري” وغنت جمالات شيحة، موال “يا ما دقت ع الراس طبول”، هذا الموال الذي تعبر فيه عن القوة التي تحملها روحها، وتقول كلماته: ” يا ما دقت دقت يا ما دقت ع الراس ع الراس طبول.. خلي اللي يقول يقول.. سبع سنين السنة دي.. وانا بطبطب وادادي.. شمتَّ فيا الأعادي.. وخلي اللي يقول يقول”، وتألقت فاطمة سرحان في موال “صاحبت صاحب يا ناس”.
بينما غزت خضرة محمد خضر، دنيا الروايات الشعبية، فروت قصص: خضرة الشريفة، وعنترة وعبلة، وأيوب ونعسة والتي شاركتها في غنائها فاطمة سرحان، كما غنت “خضرة” مربعات ابن عروس باقتدار شديد، وقدمت الكثير من فن المديح فغنت “يا سيدة يا سيدة يا ام العواجز، ونور النبي، والله الله يا بدوي.. نظرة ومدد”.
استقلالية التعبير عن الذات
الفنانة السكندرية بدرية السيد “بدارة” واحدة من أهم المطربات في تاريخ الغناء الشعبي، وهي أكثرهن جرأة في الغناء عن ذاتها، عن كونها أنثى لها استقلاليتها وسيرتها التي تتغنى بها، نستطيع أن نرى هذا في أغنية “سواحلية” والتي تقول كلماتها: “قالوا منين يا صبية.. قولنا سواحلية.. شط البحور مسكني.. والمغنى دي غية.. وبقول مواويل وهقول مواويل.. ع الشط بيرمح موالي.. والصبر ده ذاتي وراس مالي”.
وغنت أيضًا “بدارة” في نفس الاتجاه أغنيتها الجميلة “من فوق شواشي الدرة.. جمرية بتغني.. فرحانة يا هل ترى والا بتتمني.. والا دي حنية فـ القلب مضوية.. احكي يا جمرية”.
المطربات الشعبيات استطعن التعبير بقوة عن ذواتهن كنساء
لو جاز أن نقفز من مرحلة ممتدة من تاريخ الغناء الشعبي النسائي، والتي ربما كانت آخر حلقاتها الفنانة فاطمة عيد، ومن تلاها من فنانات يمكن تصنيفهن على استحياء كفنانات شعبيات مثل عايدة الشاعر وليلى نظمي وسوزان عطية، لنتلمس من تبقى منهن، فلن نستطيع أن نشير سوى للفنانة “شفيقة” والتي عبرت عن تلك الاستقلالية الغنائية للمطربة الشعبية في أكثر من أغنية بصوت يصعب ألا تنجذب إليه لما يحمله من قوة، تلمس هذه القوة والاستقلالية في أغنية “أنا زي ما انا” والتي تقول فيها: “أنا زي ما انا يا زمان.. هفضل كده عمري.. لا ينكسر عودي ولا ينحني ضهري.. زي الجبل واقفة من بكرة مش خايفة”.
نستطيع القول إن المطربات الشعبيات استطعن التعبير بقوة عن ذواتهن كنساء، لكن لم يفصلن قضاياهن عن مجمل قضايا المجتمع الذي نشأن به، وهو ما يتضح من وحدة الأغاني الشعبية بين المطربين والمطربات في معظمها، فلم تبرز أي ملامح لصراعات بينهن وبين الرجال، رغم ما تمتعن به من استقلالية التعبير عن ذواتهن.
لم يذكر تاريخ الأغنية الشعبية أي رفض من قبل الرجال أو محاولات إزاحة للمطربات الشعبيات
قبول المجتمع
لم يذكر تاريخ الأغنية الشعبية، أي رفض من قبل الرجال أو محاولات إزاحة للمطربات الشعبيات، أو نقدٍ لجرأتهن الغنائية، ذلك أن تلك الجرأة لم تكن غريبة على نشأة المطربين الرجال والتي ترجع جذورهم للريف، حيث تربوا على أغاني الأفراح التي كانت تؤديها الفتيات والسيدات، وكانت تتمتع بجرأة شديدة تصل إلى تضمن الأغاني لكلمات جنسية، هذه الجرأة التي أعطاها المبرر والقوة طبيعة الغناء الجمعي في المناسبات، والتي يصعب انتقادها أو رفضها كونها تمثل المجموع، كما لم يكن بالطبع هناك رفض من قبل القطاعات الشعبية لجرأة النساء الغنائية.
نقطة أخرى لا يمكن إغفالها، فأغلب المطربات الشعبيات اللائي لمعن خلال النصف الثاني من القرن العشرين، كن مدفوعات بدعم مؤسساتي من حكومة ثورة يوليو، فقد قررت وزارة الثقافة حينها إرسال زكريا الحجاوي والذي كان له دور كبير في اكتشاف الكثير من الفنانات الشعبيات، إلى ريف مصر للبحث عن مطربين ومطربات شعبيات لضمهم إلى فرقة الفلاحين، والتي أرادت منها حكومة يوليو أن تحمل الدعاية الناصرية، إلى الريف المصري عبر أشكال الغناء الشعبي.