كشفت الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها موريتانيا، بين عمال التنقيب عن الذهب وأفراد الأمن، والتي أسفرت عن عشرات الجروح والمعتقلين، عن الهشاشة الاجتماعية التي يعيشها أغلبية الموريتانيين، وإعادة معاناة البلد العربي الواقع غرب القارة الإفريقية للواجهة من جديد.

تمتلك موريتانيا، التي يبلغ عدد سكانها 4 ملايين نسمة، موارد وكنوز طبيعية وفيرة، إذ تملك ثروات معدنية كالحديد والنحاس والذهب، ولها نصيب من النفط وتنتظر طفرة غازية، وشواطئ غنية بالأسماك والثمار البحرية، لكن رغم ذلك هناك 31 % من عدد سكانها “فقراء” بحسب الإحصائيات الرسمية، فيما تقول تقارير أخرى أنهم ما بين 45 إلى 75% من السكان، وهو ما يثير العديد من علامات الاستفهام.

حلم الذهب

شهدت مدينة الشامي، التي تبعد 200 كيلومتر إلى الشمال من العاصمة الموريتانية نواكشوط، احتجاجات قوية من المنقبين عن الذهب بعدما فرضت شركة “معادن موريتانيا” مبالغ مالية عليهم، حيث أكدوا عجز الآلاف منهم عن دفعها، وطالبوا الحكومة بالتدخل ووقفها.

وأقدم المتظاهرون على حرق الإطارات تنديدا بالقرار، بينما تدخلت الشرطة وقامت بقمع وتفريق جموع المتظاهرين، وكانت الشركة فرضت دفع 5000 أوقية على كل منقب موريتاني، و50 ألف أوقية على كل منقب أجنبي، و500 ألف أوقية على كل بئر للتنقيب.

والأوقية هي العملة المحلية، والدولار الواحد يساوي 356 أوقية، والحد الأدنى للأجور هو 33 ألف أوقية.

ويستثمر في مجال المعادن ما يزيد على 82 وكيلاً ما بين أجنبي وموريتاني، بالإضافة إلى فتح باب التنقيب السطحي التقليدي عن الذهب أمام المواطنين الموريتانيين في العام 2016، وهو مجال دخله آلاف الموريتانيين أملاً في تحسين ظروفهم، لكنه كان فخاً لأغلبهم وطريقاً للمعاناة.

تنديد

من جهته، ندد المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان بالاحتجاجات التي اندلعت مؤخرا في مدينة الشامي، خاصة أن السلطات ظلت تحرم عمال التنقيب من أبسط متطلبات الحياة الكريمة، ومنها حقهم في الحصول على تغطية صحية وتوفير مياه صالحة للشرب.

ويشير بعض المراقبين إلى وجود أكثر من 11 نقطة للتعدين التقليدي يعمل بها عشرات الآلاف من المواطنين والأجانب في ظروف غاية في الخطورة، حيث لا يمتلك العاملون في مجال التعدين أي ثقافة حول مخاطر هذا النوع من الصناعات الاستخراجية، ولا أية وسائل أو معدات للسلامة.

وتعتبر انهيارات التربة من أكثر الهواجس التي تؤرق المنقبين، حيث يواجه المنقبون عن الذهب الذين يعملون بوسائل تقليدية ودون وسائل سلامة، مشاكل عدة فتنهار عليهم حفريات التنقيب في مواقع ليست فيها فرق للإغاثة.

ويعتبر “الكولابة” أغلب الضحايا في مناجم التنقيب عن الذهب، و”الكولابة” هم المنقبون المتنقلون الباحثون بين مناجم غيرهم عن الذهب السطحي في جنح الليل.

هروب للصحراء

ورغم المخاطر، فقد شكلت أزمة البطالة أكبر تحد للشباب الموريتاني الهارب من جحيمها إلى صحراء الشاسعة للتنقيب عن الذهب، وسط استمرار نزيف الموت ووفاة الآلاف.

وتشير تقارير منظمة العمل الدولية إلى أن نسبة البطالة في موريتانيا بلغت 30%، وهي واحدة من أعلى النسب على المستوى العالمي، فيما تشير الأرقام الرسمية إلى انخفاض النسبة من 31% عام 2008 إلى 10.3% في نهاية عام 2019.

واملا في تغير الأوضاع، هاجر الآلاف الشباب والرجال في موريتانيا إلى شمال البلاد، لاستخراج الذهب، ولكنهم خسر أرواحهم ورجعوا “خائبين الرجا”، إذ يصعب نقل المرضي بسبب الطرق غير الممهدة، فالمستفيد الأكبر هم أصحاب الضرائب والشاحنات التي تقل الناس، وأصحاب الماكينات التي تطحن الحجار، وأصحاب الحرف اليدوية كأعمال صيانة مولدات الكهرباء ومن يحفرون الخنادق، حيث يعد بيع ما تستخرجه مستحيلاً.

وتشير الإحصائيات إلى وجود أكثر من 15 ألف عامل في مجال التنقيب عن الذهب في مناطق تيجيريت وتازيازت، فيما يعيش الآلاف في مدينة الشامي على عوائد هذا القطاع، وخاصة في ظل وجود مركز معالجة الحجارة المشبعة بالذهب في المدينة،

بينما يبلغ عدد رخص التنقيب غير التقليدي، أي الصناعية، 125 رخصة، ورخص الاستغلال تصل إلى 13 رخصة، وتشمل الحديد والذهب والنحاس والكوارتز والملح.

وتعد شركة “كينروس” الكندية هي أكبر مستغل للذهب في موريتانيا، وتعطي الحكومة 4 في المئة من إنتاجها حسب عقد التقاسم، وهذه النسبة الضئيلة تغضب الموريتانيين، وسبق أن أطلقت دعوات عديدة لمراجعة الاتفاقية بمجملها، كما تُتهم الشركة بتلويث البيئة.

مخاطر بيئة

تتم تصفية الذهب بعد استخراجه عن طريق مادة “السيانير” المحرمة دولياً والكهرباء، وذلك على حساب صحة المواطنين، حيث أعطت الحكومة اذنًا لبعض الشركات المحلية في تصفية الذهب بقرب المدن السكانية، وهو ما يدق ناقوس الخطر حول تدمير البيئة.

يشهد شمال موريتانيا منذ فترة حراكاً مناهضاً للتلوث البيئي الذي يتسبب فيه استخراج الذهب بشقيه التقليدي والصناعي، الحراك يخفت زمناً ويصعد أزماناً أخرى، لكنه تزايدت وتيرته مؤخراً لدفع الحكومة بتراجع عن قراراته في هذا الجانب.

وتسببت عمليات التنقيب في حدوث فوضي في استخدام الزئبق، وهو ما يهدد بكارثة بيئية، كما حدث في دول أمريكا اللاتينية ودول إفريقية، وعلى سبيل المثال، تحتوي مدينة “نواذيبو” الموريتانية، على خمسين في المئة من مصانع دقيق السمك في العالم، وهي معروفة محلياً بـ “مصانع موكا”، تلك المصانع تفرغ نفاياتها في البحر وتلوثه، وها الممارسة نفسها تنطلق في مدينة الشامي، بعدما دمرت البيئة في المكان الأول.

ويقول خبراء البيئة في موريتانيا إن التنقيب عن الذهب له مخاطر جمة على المنقبين، أبرزها استمرار نزيف انهيار آبار وحفر التنقيب، وغياب فرق الإسعاف عن المنطقة التي تحتضن آلاف المنقبين، إضافة إلى عجز الجهات الحكومية عن وضع خطط بديلة للتنقيب البدائي، وتمكين الباحثين عن الذهب من بدائل توقف الموت تحت أنقاض الحفر.

نسب الفقر

يعود امتهان البعض في التنقيب إلى زيادة نسب البطالة والفقر، والتي أدت لاستفحالها العديد من الأسباب منها: فوضوية القطاع الخاص وضعف الاستثمار الأجنبي المباشر وكذلك غياب توجيه الاستثمارات نحو القطاعات القادرة على استيعاب أعداد كبيرة من العمال ساهمت هي الأخرى في استفحال المشكلة.

ولاتزال مؤشرات الفقر والهشاشة الاجتماعية في موريتانيا في مستويات مرتفعة جدا، فأكثر من ثلث الموريتانيين تحت خط الفقر، وتجد الهشاشة في موريتانيا جذورها في انتشار البطالة علاوة على تركيز التشغيل في القطاع غير المصنف، حيث يحصل الموظفون على أدني الأجور ولا يستفيدون في الغالب من ضمان صحي واجتماعي، وهو ما يبلغ نسبتهم 85% من القوي العاملة بالبلاد.

ويعتبر القطاع غير المصنف أو “غير رسمي”، من أهم القطاعات الاقتصادية في الدول النامية، ويمثل نسبة كبيرة من اقتصاديات دول المغرب العربي، فوفقًا لمنظمة العمل الدولية فإن القطاع غير الرسمي يمثل نسبة 75% من فرص العمل في موريتانيا، بحسب المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية.

ثروات ولكن

رغم قلة عدد سكانها وتوفر الثروات الطبيعية والمؤهلات الاقتصادية، التي سبق ذكرها، لا تزال البلاد تعاني من فقر موحش، دفع لتساؤل حول كيفية إدارة هذه الثروات وما يعود بالنفع على المواطن العادي، “فكيف تشعر وانت تعيش في بلد عائم علي بحور من الثروات ولكنك ارخص ما فيها”!

ويبلغ احتياطي موريتانيا من الحديد 1.5 مليار طن، أما الذهب الذي لم يبدأ استغلاله بشكل حقيقي إلا في العام 2008، كحال النحاس، فيبلغ احتياطي موريتانيا منه 25 مليون أونصة، ويصل احتياطي النحاس إلى 28 مليون طن، وهناك معادن أخرى تزخر بها موريتانيا، مثل الكوارتز، الذي يبلغ احتياطيها منه 11 مليون طن، والملح الذي يبلغ احتياطيها منه 245 مليون طن، وأما الجبس فيصل احتياطيها منه إلى 100 مليون طن.

وبعيدًا عن باطن الأرض، تحتضن الشواطئ الموريتانية، التي يبلغ طولها 755 كيلومتراً ما يزيد عن 300 نوع من الأسماك، 170 منها صالحة للتسويق عالمياً لجودتها العالية، وبحسب الحكومة، فإن إيرادات صادرات البلاد من الأسماك زادت العام المنصرم عن مليار دولار أمريكي، وبلغت كمية الأسماك التي يتم صيدها 700 ألف طن.

ويتصدر الأوربيون قائمة المستفيدين من صيد الأسماك الموريتانية، يليهم اليابانيون والصينيون، فيما الصيادون الموريتانيون يعملون بوسائل بدائية، ومن دون دعم حكومي، وهناك استنزاف مفرط للثورة البحرية من قبل الأساطيل الأجنبية التي وقعت اتفاقيات مع موريتانيا، فهي تصطاد دون قيود، والاتفاقيات لا تراعي حماية البيئة، فتغرف قاع البحر، وكذلك يتضرر منها الصيادون التقليديون، ويتعرضون لأخطار السفن الكبيرة كالدهس والموت.

ووفق المراقبون، فإن الشفافية في قطاعي الصناعات الاستخراجية والصيد البحري لا تزال ناقصة، بحيث يتم منح رخص لاستغلال هذه الموارد خارج المسارات الإجرائية المحددة، وقد لفت صندوق النقد والبنك الدوليين، انتباه السلطات الموريتانية مرات عدة إلى ضرورة التقيد بالنصوص القانونية حتى تتمكن البلاد من استفادة أفضل من مواردها الطبيعية.

انتهاكات

على جانب آخر، ذكر المرصد الموريتاني أن مئات الآلاف من الموريتانيين يعانون من نقص مياه الشرب وضعف التغطية الصحية وتردي بل انهيار شبه شامل للمنظومة التعليمية. بجانب قضايا التعذيب والعنف البوليسي والاعتقالات التعسفية وتزايد القلق من ضعف استقلالية القضاء.