برغم ما تمثله إيران من أهمية في السياسية الخارجية الأمريكية إلا أن أكثر 55% من الناخبين الأمريكيين لا يهتموا وربما لا يعلموا موقع إيران على الخريطة الدولية ولا الجغرافية بحسب أحدث استطلاع للرأي أجرته مؤسسة إيبسوس الأمريكية، إلا أن المسألة الإيرانية دائمًا ما تستخدمها الإدارات الأمريكية بصورة مختلفة.
إيران وسياسة أمريكا الخارجية
تستخدم أمريكا الأزمة مع إيران كورقة تهديد قوية لدول الخليج وتعمل على تعزيز علاقتها العسكرية معهم من منطلق حمايتهم من التمدد الفارسي المحتمل، لا تسير وفق منهجية محددة وواضحة، بل تحدد استراتيجية التعامل حسب الحزب الحاكم وهو ما تجلى في العقدين الأخيرين.
مسارات التعامل
خلال الـ16 عام الماضي، شهدت المسارات المتبعة لحل المسالة الإيرانية تغيرات عنيفة، إذ اختار الرئيس الأسبق جورج بوش الابن المنتمي للحزب الجمهوري طريقة الصدام والتهديد والوعيد لطهران من أجل إيقاف برنامجها النووي وهو ما لا يفضي لأي نتيجة إيجابية، حتى وصول الرئيس الديمقراطي باراك أوباما لسدة الحكم، ومن ثم تغير الاستراتيجية التي أطلق عليها “خطة العمل المشترك” بين طهران وواشنطن، وأسفرت عن إتمام اتفاق 5+1 النووي، والذي مثل نقله نوعية في تاريخ العلاقات بين إيران وأمريكا، قبل أن تنقلب الطاولة من جديد بوصول دونالد ترامب الجمهوري للبيت الأبيض لتعود العلاقات لعهدها السيئ بفرض عقوبات جديدة على إيران ثم الانسحاب من الاتفاق النووي بشكل آحادي.
مسار ترامب
العامين الماضيين شهدا عدة وقائع تظهر توتر حجم التوتر الكامن بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، إذ أظهر “ترامب” عقب تقلده الرئاسة عام 2016 العداء الكامل للنظام الملالي وأركانه، وتفجر الصراع الظاهر عام 2018 بقرار خروجه من الاتفاق النووي، والذي وقعه الرئيس السابق باراك أوباما ممثلًا عن أمريكا من جهة وإيران وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا من جهة أخرى.
وأقر “ترامب” عقوبات قاسية على “طهران” شملت كافة جميع الجوانب الاقتصادية في البلاد، وأضاف حزمة عقوبات جديدة عازمًا على تقيدها وأملًا في إضعاف وانهيار اقتصادها، قبل أن يضع الحرس الثوري الإيراني في قائمة الإرهاب الدولية.
لم تكتفي الإدارة الأمريكية بهذا التصعيد بل عمدت إلى اغتيال قائد الحرس الثوري” قاسم سليماني”، وإعلان وتبني الهجوم، معللة ذلك بتورطه في عدة أعمال إرهابية، وأنه صاحب المخطط الفعلي للهجوم الإرهابي علي السفارة الأمريكية في بغداد، وفرض حزمة عقوبات جديدة، بحجة عدم التزامها ببنود الاتفاق، حتي ينهار الاقتصاد الإيراني وحتى تتراجع طهران عن موقفها وتخضع لسياسته، إلا أن الرد الفارسي جاء أسرع مما توقع النظام الأمريكي فخصب المزيد من اليورانيوم وتجاوز الحد الممسوح به من التخصيب وتخطى الفروض الاقتصادية ولجئ لتحالفات اقتصادية بديلة مع منافسي أمريكا الآخرين المتمثلين في الدب الروسي والتنين الصيني.
الورقة الإيرانية أحد أبرز الأوراق التي يراهن عليها ترامب
“ترامب” الذي يستعد لخوض غمار الانتخابات الأمريكية وهو في وضعًا لا يحسد عليه بعد أن تربعت دولته على عرش الدول المصابة بجائحة كورونا، وتدني القطاع الصحي في بلاده لأقل معدل له ولم يصمد كثيرًا أمام الفيروس، كما انهارت مئات الشركات وتراجع اقتصاده وصار على شفى حالة من الركود الذي رفع معدلات البطالة لمعدلات غير مسبوقة، يراوغ خلال تلك المرحلة بعدة أوراق ربما تكون ذات أثر طويل الأمد في نفوس الأمريكيين ومن ثم يربح أصواتهم التي بات قاب قوسين أو أدني من خسارتها والخروج من البيت الأبيض.
وتعد الورقة الإيرانية أحد أبرز الأوراق التي يراهن عليها رجل الأعمال الذي يترأس واحدة من أعظم القوى العظمى العالمية “ترامب”، إذ قال خلال جولاته الانتخابية: “لا مجال لإيران سوى أن تأتي وتخضع، وتعقد صفقة جديدة مع الولايات المتحدة” تزامنًا مع تصريحات وزير خارجيته “مايك بامبيو” على هامش عقد مباحثات مع نظيره الألماني هايكو ماس، والذي طالب بضرورة أن يكون هناك رد أطلسي موحد لمحاسبة إيران وضمان التزام مجلس الأمن الدولي بمسؤوليته في الحفاظ على الأمن والسلام الدولي، كما أفادت تقارير إعلامية إلى أن ترامب يسعي لفرض عقوبات امريكية جديدة على طهران.
مسار بايدن
المرشح المحتمل للرئاسة الأمريكية “جو بايدن” والذي شغل منصب نائب الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وشهد على اتفاقية الاتفاق النووي عام2015، انتقد سياسة الضغط والتضيق التي تمارسها إدارة ترامب علي إيران خاصًا في ظل أزمة فيروس كورونا المستجد، ومنع حصولها على المساعدة الإنسانية المطلوبة، مؤكدًا أنه مها كانت الخلافات عميقة مع النظام الملالي، فلابد من دعم الشعب الإيراني.
حديث “بايدن” لا يعاني بالتأكيد عزمه تغيير دفة السياسية الأمريكية
ويضيف المرشح صاحب الـ77 عامًا، إن محاولة الإدارة الأمريكية الحالية عزل طهران عن العالم، والعمل على انهيار اقتصادها لإجبارها على التراجع عن مواقفها، لم ينتج عنه سوى الفشل، وأدى لنمو إيران اقتصاديا وسياسيًا، بعدما تقاربت مع بكين وموسكو، وصارت طهران أكثر شراسة وعدوانية ضد واشنطن وبدأت في تشغيل برنامجها النووي دون أي قيود ولهذا يجب تغيير تلك الآلية في التعامل.
حديث “بايدن” لا يعاني بالتأكيد عزمه تغيير دفة السياسية الأمريكية كليًا تجاه السلام بل جاءت تصريحاته للمطالبة باتباع سبل أكثر ذكاءً، إذ اتهم إيران بالكذب والتضليل في تقاريرها، ووصف تصرفاتها في المنطقة بالخبيثة، وأدان سجنها لمواطنين أمريكيين، وراعيتها للإرهاب، وزعزعة الامن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط،
تمثلت الطريقة المأمولة حال فوز “بايدن” حسبما أعلن عام 2019، بالعودة للاتفاق النووي وتطويره حال امتثال إيران بتعهداتها النووية.
حلفاء ترامب يتسابقون من أجل تحقيق مكاسب في الشرق الأوسط القابل للاشتعال
الكاتب السياسي المخضرم ديفيد جاردنر، كتب مقالًا في “فايننشال تايمز” الأمريكية، عمل عنوان “حلفاء ترامب يتسابقون من أجل تحقيق مكاسب في الشرق الأوسط القابل للاشتعال”، خلص فيه إلى أن بايدن سيلجئ بصورة أو بأخرى حال فوزه لإحداث انفراجه كبيرة في العلاقة بين واشنطن وطهران إذ يؤمن بدبلوماسية الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، لتكون بذلك هذه الآلية الوحيدة والامنة لاحتواء الحلم النووي الإيراني دون إجبار أمريكا على التورط في حرب عسكرية.
مستشار السياسة الخارجية لـ”بايدن” توني بلينكن، ألمح في يونيو المنصرم أن انتخاب المرشح الديمقراطي لن يعني رفع العقوبات عن طهران وإنما سيكون التزام الأخيرة هو الدافع لصياغة اتفاق جديد أفضل وأقوى ومرضي لكافة الأطراف عكس الإجراءات القاسية للإدارة الترامبية التي عقدت الأوضاع بالانسحاب المفاجئ من الاتفاق النووي.
تحليلات وتوقعات
محلل السياسات الذي عمل في المكتب التنفيذي للرئيس الأمريكي، ومكتب وزير الدفاع وأستاذ دراسات الأمن لجامعة جورج واشنطن، د. توماس باركر، كتب في إحدى أوراق تقدير الموقف المنشورة عبر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوراق أن من المؤكد رغبة النظام الإيراني في هزيمة “ترامب” خلال الانتخابات المقبلة بعدما أعاد فرض العقوبات عليها وصارت عدة دول على نهجة ما أسفر عن شل الاقتصاد الإيراني.
وأن من المؤكد أن طهران تفضل “بايدن” الذي سيعيد سياسة أوباما الخارجية الرامية للتقارب وجهات النظر والمفاوضات بتبنيه خطة العمل الشامل المشتركة التي تنص على رفع العقوبات الأمريكية مع التزام إيران بالقيود المفروضة على برنامجها النووي، ولكن كيف يمكن أن تدعم طهران المرشح الديمقراطي دون أن تتورط بصورة فعليه هذا ما يهم.
حصار بايدن
مركز الإمارات للدراسات السياسية يرى أن فوز بايدن سيحدث تغيرًا جذريًا في الملف الإيراني، إذ يدرك المرشح الجمهوري أن القاعدة الشعبية الموالية للحزب تميل لعودة المفاوضات ومن ثم اتفاق نووي جديد مع طهران دون خسارة أصوات جماعات المصالح التي تتزعمها اللوبيهات الصهيونية التي دعمت ترامب عام 2016، وبالتالي فإن المسالة الإيرانية لن تكون على رأس أولويات المرشح المحتمل حتى يصل إلى البيت الأبيض الذي سيكون محاصرًا بين “طهران وتل أبيب”.
فوز “بايدن” سيجعل الحوار أكثر ليونة مع إيران
الاقتصاد يحكم
ورغم الأبعاد السياسية للمسألة الإيرانية إلا أن الجانب الاقتصادي سيكون الحاسم الأكبر في تلك المعركة ففوز “بايدن” سيعيد أسعار النفط لأسعارها المعهودة حسبما ترى كبيرة المحللين الاقتصاديين في صحفية وول ستريت هلما كرفت، بعدما تعود العلاقات بين واشنطن وطهران مدفوعة باتفاق نووي جديد.
صحيفة “بيزنس إنسايدر” رأت أن فوز “بايدن” سيجعل الحوار أكثر ليونة مع إيران ومن ثم ترفع العقوبات لتعود ملايين براميل النفط الإيرانية للأسواق العالمية وهذا ما يعد أهم حدث ينتظره العالم خلال العام المقبل وتحدده الانتخابات الأمريكية.
فالعالم بالتأكيد لنفط الإيراني الذي يمثل 13 بالمئة من الإنتاج العالمي وتنتج 3 مليون برميل يوميًا ما يعادل 4% من الإنتاج العالمي اليومي وبالتالي فإن سعر البرميل يمكن ان يتراوح بين 50 و60 دولار وتحدث انفراجه ولهذا فإن فوز “بايدن” لن يكون في صالح إيران وحدها وإنما سيكون داعمًا للاقتصاد العالمي بصورة عامة.
مصير منطقة الشرق الأوسط عالق بالانتخابات الأمريكية
المسارات ونتائجها
وبين المسار الأول الترامبي الذي يرى ضرورة تقويض الدور الإيراني في المنطقة وإجبارها على الإذعان لرغبات أمريكا بتفكيك برنامجها النووي والعمل بقاعدة المكسب لأمريكا الخسارة لجميع الأطراف الأخرى، ومسار الديمقراطيين المعتمد على الفوز لكافة أطراف الأزمة سواء إيران أو واشنطن ستجد أن مصير منطقة الشرق الأوسط عالق بتلك الانتخابات وعما ستسفر عنه أصوات الناخبين، فالمسار الأول سيجعل المنطقة في حالة توتر دائمًا بين تسليح مستمر لدول الخليج مدفوعين بمخاوف من شن حروبًا مفاجئة في المنطقة بين إيران وأمريكا مع تعزيز الترسانة النووية الإيرانية المدعومة صينًا وروسيًا، أما المسار الثاني فسيعيد المنطقة لهدوئها الذي لم يدم طويلًا بعدما توقيع الاتفاق النووي بين حكومة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد والأمريكي باراك أوباما والذي كانت السمة العامة فيه التعاون لتحقيق مصالح كافة الأطراف بأكبر صورة ممكنة.