تُعد خدمة البريد في الولايات المتحدة، واحدة من أقدم الخدمات وأكثرها موثوقية، حيث إنها ممولة ذاتيًا تقريبًا منذ عقود، ما يعني أنها لا تستخدم دولارات دافعي الضرائب لتغطية نفقات التشغيل، إلا أنها تعاني حاليًا من أزمة مالية فاقمتها جائحة كورونا.

ومع توقع تصويت عدد غير مسبوق من المواطنين في الانتخابات الرئاسية في 3 نوفمبر المقبل عن طريق البريد بسبب الفيروس، تلعب هذه الخدمة دورًا أكثر أهمية في هذه الانتخابات.

وأدت انتقادات الرئيس دونالد ترامب للاقتراع عبر البريد وخدمة البريد في الأشهر الأخيرة إلى تعقيد الأزمة، ما أثار المخاوف من “تسييس” إحدى أقدم الخدمات في البلاد.

ويعارض “ترامب” بشدة التصويت عبر البريد الإلكتروني، محذرًا من أن ذلك قد يسفر عن تزوير في الأصوات على نطاق واسع.

وكانت إدارة “ترامب” قد أدخلت تغييرات على خدمة البريد قبل الانتخابات، وسط اتهامات بأنه يسعى إلى “تقويض جهود التصويت عبر البريد”.

ترامب

وبالنسبة للديمقراطيين، فإن صور الصناديق وآلات الفرز التي تمت إزالتها في الأسابيع الأخيرة دليل على أن إدارة “ترامب” تريد عرقلة الخدمة، حتى لا تتمكن من معالجة ملايين بطاقات الاقتراع.

مشاكل البريد

تعاني خدمة البريد في الولايات المتحدة منذ فترة طويلة من متاعب مالية، حيث تحمل على كاهلها نحو 160 مليار دولار من الديون.

وأرسلت الخدمة البريدية رسائل إلى الولايات في جميع أنحاء البلاد في يوليو، محذرةً من أنها لا تستطيع ضمان وصول جميع الأصوات التي تم الإدلاء بها عن طريق البريد في الوقت المحدد ليجري عدّها.

ووفقاً لصحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، فإن أزمة البريد قد بدأت في التشكل قبل سنوات، وكانت الأزمة المالية إحدى المشكلات التي تواجهها.

كما أن خبراء يقولون إن الأزمة كانت في طور التشكل منذ نحو عقدين، ولن يتم حلها دون تغييرات شاملة في المؤسسة، حتى لو أقر الكونجرس حزمة إنقاذات.

ويقول “ريك جيديس”، خبير سياسات البنية التحتية في معهد أمريكان إنتربرايز إنستيتيوت للسوق الحرة: “تحاول الخدمة البريدية خفض كل تكلفة ممكنة دون تسريح العمال، لقد كانت تزيل صناديق البريد الزرقاء على مدار السنوات العشر الماضية”.

وأصر لويس ديجوي، مدير مكتب البريد الذي اختاره الرئيس دونالد ترامب، خلال شهادة مطولة أمام الكونجرس، على أن انقطاع الخدمة مستمر منذ سنوات، ومع ذلك تعهد بتعليق التخفيضات الجديدة إلى ما بعد الانتخابات.

وفي الأشهر الأخيرة، كانت هناك قصص متناثرة في جميع أنحاء البلاد عن تباطؤ البريد، بحسب صحيفة “فيلادلفيا إنكويرر”، التي ذكرت أن بعض السكان قد أمضوا أسابيع دون تلقي بريد.

وكانت هناك أيضًا تقارير إخبارية تفيد بأن خدمة البريد كانت توقف تشغيل مئات من آلات فرز الرسائل في جميع أنحاء البلاد، ما أثار مخاوف من أن القيام بذلك قد يؤدي إلى مزيد من التباطؤ.

قواعد اللعبة

في أعقاب الحديث عن التدخل الروسي خلال انتخابات عام 2016، سعت السلطات الأمريكية إلى حماية الأنظمة قبل الانتخابات المقبلة.

وأكد مسؤولو أمن الانتخابات هذا الشهر، أن الكرملين يعمل ضد المرشح الديمقراطي جو بايدن، بينما تفضل الصين فوزه، وقد تحاول إيران أيضًا التدخل.

وأشار مسؤول في الأمن السيبراني، إلى أن استهداف آلات التصويت هو “في قواعد اللعبة” بالنسبة لحكومات مثل روسيا، لكن لم تؤثر مثل هذه الجهود بنجاح على قدرة الأمريكيين على التصويت.

وقال مسؤولون أيضًا إن أكثر من 90٪ من الأصوات خلال انتخابات 2020 يجب أن يكون لها سجل قابل للتدقيق.

وأشار مسؤولو المخابرات الأمريكية، إلى أنه لا يوجد دليل على وجود جهود أجنبية للتدخل في التصويت عبر البريد.

وذكر مسؤول كبير في المخابرات الأمريكية، “ليس لدينا معلومات استخباراتية تفيد بأن أي جهة تهدد دولة قومية تشارك في أي نوع من النشاط لتقويض أي جزء من التصويت عبر البريد أو بطاقات الاقتراع”.

وردد نائب المدعي العام جيفري روزن، قائلاً: “إن الولايات المتحدة لم تشهد بعد أي نشاط يهدف إلى منع التصويت أو تغيير الأصوات، على الرغم من محاولات مستمرة من روسيا والصين وإيران مازالت تحاول التدخل”.

هجوم الديمقراطيين

ويشير الديمقراطيون إلى أن رئيس الوكالة الذي عينه “ترامب” حاول عمدا “تخريب الانتخابات بسلسلة من الإصلاحات الأخيرة.

ورفض “ديجوي” الاتهامات وقال لأعضاء مجلس الشيوخ في وقت سابق من هذا الشهر “إن جميع بطاقات الاقتراع ستصل في الوقت المحدد وإن الإصلاحات لن يتم تفعيلها إلا بعد الانتخابات”.

دفاع “ترامب

وفي مقابلة مع صحيفة “واشنطن إكزامينر” خلال الفترة الماضية، قال “ترامب” إنه “أكثر قلقًا بشأن إرسال بطاقات الاقتراع غير المرغوب فيها، والمشكلات مع المسؤولين المحليين الذين يعدون الأصوات من مكتب البريد نفسه”.

كما نفى بشكل قاطع أنه يسعى إلى إبطاء البريد، حتى عندما وجه هجمات جديدة على التصويت بالبريد والاقتراع العام.

وفي الوقت نفسه، رفعت ولايات هاواي ونيوجيرسي ونيويورك دعوى قضائية ضد إدارة “ترامب” بشأن التغييرات التي أدخلتها على خدمة البريد قبل الانتخابات.

وتقول الدعوى إن “ترامب” سعى إلى “تقويض جهود التصويت عبر البريد”.

25 مليار دولار

وقبل أيام، مرر مجلس النواب الأمريكي مشروع قانون يستهدف ضخ 25 مليار دولار في خدمة البريد.

وحتى يناير 2021، سيكون محظورًا على هيئة البريد إدخال أي تغييرات على عمليات أو مستويات الخدمة من شأنها التقليل من سرعتها أو كفاءتها أو موثوقيتها، بما في ذلك إغلاق مكاتب بريد أو تقليص عدد ساعات العمل بها، أو إزالة ماكينات الفرز وصناديق البريد، أو وقف العمل بنظام الساعات الإضافية.

ومن شأن هذا التشريع أن يوقف استقطاعات وتغييرات في خدمة البريد الأمريكية، يقول منتقدون إنها ستؤدي إلى عرقلة عملية التصويت عبر البريد، بحسب تقرير بي بي سي البريطانية.

ويتضمن مشروع “قانون تمويل طارئ لمواجهة آثار فيروس كورونا، كان مجلس محافظي خدمة البريد الأمريكية قد طلبه.

وبموجب ذلك سيتعين على هيئة البريد التعامل مع كل الرسائل الخاصة بعملية الاقتراع باعتبارها من فئة بريد الدرجة الممتازة”.

خلق أزمة سياسية

فيما يشير العديد من الساسة الجمهوريين، إلى أن الديقراطيين قد عمدوا إلى نشر نظريات مؤامرة حول هيئة البريد لخلق أزمة سياسية، فضلاً عن أزمة لتقويض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على حساب مؤسسات الولايات المتحدة.

كما أدان الساسة الجمهوريون مواصلة الديمقراطيين لما يقولون إنه “خطة إنقاذ غير ضرورية لا تُصلح أيا من المشكلات الإجرائية القائمة”.

بيلوسي

وقالت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، العضوة بالحزب الديمقراطي، إن القانون كفيل بحماية خدمة البريد الأمريكية، فيما انتقد “ترامب”، التصويت بوصفه حيلة انتخابية من الديمقراطيين، وقال: “ممثلو مكتب البريد صرحوا مرارًا بأنهم لا يحتاجون أموالا، ولن يقوموا بتغييرات”.

إلا أن النواب الديمقراطيين يقولون إن من شأن تدابير خفض النفقات عرقلة عملية التصويت عبر البريد.

وقال مدير عام البريد ديجوي أمام لجنة في مجلس الشيوخ إنه لم تكن هناك “أي تغييرات بأي من السياسات المتعلقة ببريد الانتخابات”، وإن خدمة البريد الأمريكية “قادرة تماما وملتزمة بتوصيل البريد الانتخابي بالكامل وفي الوقت المحدد”.

ويقر ديجوي بأن التغييرات التي أدخلها على النظام البريدي الأمريكي تسببت في بطء عمليات التوصيل، ولكنه يصر على أن من “غير المقبول” الزعم بأن الأمر يستهدف مساعدة “ترامب” في الانتخابات.