“بعد المديح في المُكَمَّل.. أحمد أبو درب سالك.. نحكي في سيرة وكَمِل.. عرب يذكروا قبل ذلك.. سيرة عرب أقدمين.. كانوا ناس يخشوا الملامة.. رئيسهم أسد سبع ومتين.. يسمى الهلالي سلامة”.
لم تحظ رواية شعبية عربية، بما حظيت به “السيرة الهلالية” من أهمية ثقافية، ترسخت في وجدان عشرات الأجيال، وملايين البشر في العديد من البلدان العربية والإفريقية، عبر مئات السنين.
الرواية المهيمنة
لا يهتم شاعر السيرة الشعبية بالتفصيلات التاريخية للحكاية التي يرويها، إنه يأخذ أسسها التاريخية، ثم ينطلق لبناء حبكاتها الدرامية بالشكل الذي يحقق الأهداف الاجتماعية أو السياسية التي ينشدها من روايته، وإن كان لا يُقدِم على تزييف أًسس الحكاية الأصلية، فإنه يختار أو يركز على المنطلق الذي يخدم المآلات التي يريدها، ويُهمل ما لا يحقق هدفه النهائي.
في الحكايات الشعبية، تظل (وإن تعددت رواياتها) رواية بعينها مهيمنة عليها، تنحاز إلى وجهة النظر، وتنتصر للبطل، اللذين اختارهما الشاعر الذي كتب السيرة وصاغ أسسها، وفي السيرة الهلالية تُروى الحكاية المهيمنة من وجهة نظر بني هلال، وبعيونهم، ويظل بطلها الأعظم هو أبو زيد الهلالي سلامة ـ بركات ابن رزق ابن نايل.
تعظيم العدو.. تعظيم للبطل
هذا لا ينفي بالطبع تعظيم الرواية السائدة للسيرة الهلالية، لأبطال آخرين داخل الملحمة، كما هو الحال مع عدو بني هلال، الزناتي خليفة، حاكم إفريقيا، كما دعاه ونصبه المستنصر الفاطمي، ومن بعده الخليفة العباسي، فتقول السيرة الهلالية عن الزناتي: “جالس على الكرسي خليفة الغندور.. راجل منظره يهيب الأسودة.. بطل المغارب نعم وعنده شعور.. يا ما فيه ناس حسودة وحقودة“.
لكن هذا التمجيد والتعظيم للعدو أحد أسبابه بل وأهمها، تعظيم البطل الهلالي نفسه، الذي انحازت إليه الرواية السائدة للملحمة، فبقدر ما يتمتع العدو بالشجاعة والبأس والحكمة، بقدر ما كان للانتصار عليه معنى، ولقهره قيمة تُعلي من قدر المنتصر، فما معنى أو قيمة الانتصار على ضعيف، جبان، أرعن؟
تغريبة بني هلال
لن نُفسد الرواية الشعبية أو نحاول مقارنتها بالقصة التاريخية، فهذا أمر لا يتماشى مع طبيعة الرواية الشعبية كمساحة مفتوحة للإبداع الشعبي الجمعي، الذي يعبر عن قيم وأحلام المجتمع الذي تنشأ فيه الرواية، هذه المساحة التي تتقبل الإضافة والحذف والتحوير، بل على العكس سنتخذ نفس منطق الرواية الشعبية، ونحن نتتبع السيرة الهلالية ووجهها الآخر، ولكننا سننطلق من أسس أخرى مرتبطة بالواقع غير التي انطلقت منها الملحمة بوجهة النظر “الهلالية“.
كانت بني هلال تسكن في المناطق بين المدينة المنورة ونجد وبين مكة والطائف، عَرفت أمور السياسة جيدًا واشتركت في ثورة القرامطة، ودفعها اختفاء المراعي والاضطراب إلى الهجرة فيما عرف بـ “تغريبة بني هلال” إلى حدود الشام والعراق، ثم دفعها العباسيون نحو الهجرة إلى مصر، وصولًا إلى بلاد تونس.
“تغريبة بني هلال”، أهم أجزاء السيرة الهلالية، والتي تجاهل شعراء السيرة الأسباب التي أدت إلى وصولها لبلاد المغرب، بل ولفقت السيرة المتحيزة لقبائل بني هلال، واقعة اعتداء الزناتي خليفة على أملاك عزيز الدين بن الملك جبر القريشي، واستغاثة الملك القريشي بأبناء عمومته من الهلاليين لنجدته، لتصنع مبررًا أخلاقيًا لغزو تونس وإفريقيا.
كانت بلاد المغرب قبل تأسيس الدولة الفاطمية تدين بالولاء للعباسيين، وفي عام 789 ميلادية تأسست الدولة الفاطمية الجديدة على أساس المذهب الإسماعيلي هناك، وبنى الخليفة المهدي عاصمته الجديدة على البحر المتوسط، وسماها “المهدية” وأخذت الدولة الفاطمية الناشئة في التوسع في الشام والحجاز والعراق، وأيضًا مصر التي استولى عليها جوهر الصقلي، ليُسقط الحكم العباسي فيها، ويبني القاهرة لتصبح عاصمة للدولة الفاطمية، وينتقل إليها الخليفة المعز لدين الله، ويتخذها مقرًا لحكمه، ويُولي بلكين بن زيري الصنهاجي على بلاد المغرب، ليستمر الحكام الصناهجة في ولاية البلاد من مركز حكمهم بمدينة القيروان، تحت رداء الدولة الفاطمية.
وفي عام 1016 يتوفى الزيري باديس الصنهاجي، ملك البلاد، ليخلفه ابنه المعز بن باديس “الزناتي خليفة” وهو لا يزال في الثامنة من عمره، وما إن يشتد عود ابن باديس، حتى يرسل خطابات التأييد والولاء للعاصمة الفاطمية في القاهرة، ليمنحه بعد ذلك الخليفة المستنصر لقب “شرف الدولة” اعترافًا منه بملكه على بلاد المغرب.
انحياز “الزناتي” لثورة شعبه
في عام 1043، تقع حادثة تغير مجرى التاريخ وتؤثر على حكم “الزناتي خليفة” المعز بن باديس، وعلى مستقبل تونس وبلاد المغرب كله، حيث تنشب خلافات بين أهالي القيروان وأفراد من الطائفة الإسماعيلية الشيعية، والتي كانت تتسم بالأرستقراطية، وما لبثت أن تطورت الخلافات إلى ثورة سنية ضد الشيعة في القيروان قرر خلالها “الزناتي خليفة” الوقوف مع شعبه، وخلع طاعة الفاطميين، وإعلان الولاء للخليفة العباسي القائم بأمر الله، والذي نصب “الزناتي” حاكمًا على إفريقيا.
كانت قبائل بني هلال آنذاك تستوطن مصر حيث رحبت بهم الدولة الفاطمية، وتركز غالبيتهم في الصعيد، بينما قطنت بعض القبائل في الشرقية ووادي حوف، ورغم الترحيب الفاطمي بقبائل بني هلال في أول الأمر إلا أنهم مثلوا صداعًا في رأس الدولة الفاطمية في مصر حيث كان من الصعب السيطرة عليهم أو إخضاعهم بشكل كامل لحكم الدولة، وهو ما تزامن مع ضعف قدرة مصر الاقتصادية بعد انخفاض منسوب مياه النيل.
خطة الاستيلاء على مُلك “الزناتي”
فكر الوزير الحسن بن علي اليازوري، وزير الخليفة المستنصر، في حل يخلصه من صداع “بني هلال”، ومن انقلاب الزناتي خليفة على الفاطميين في القيروان، ليشير على الخليفة بتحريك قبائل بني هلال والذين بلغ عددهم في مصر نحو نصف مليون شخص للاستيلاء على إفريقيا.
استولى بني هلال على مدينة برقة، وواجهوا “الزناتي” الذي خرج إليهم فهزموه، وتوغلوا داخل إفريقيا وحاصروا مدنها، فتجهز “الزناتي” وخرج لهم ثانية فهُزِم أيضًا، ليقرر التحصن داخل مدينته لـ 14 سنة، كما تخبرنا السيرة الهلالية، وهي هنا لم تبعد كثيرًا عن المصادر التاريخية.
النهاية المشرفة.. وحيلة الراوي
بعد أن استجمع ابن باديس “الزناتي خليفة” قواه، خرج لبني هلال بجيش قوامه 80 ألف جندي بحسب المصادر التاريخية، لكنه مع ذلك لم يستطع التغلب عليهم ليُلحقوا به الهزيمة الثالثة، والتي قضت على بأس البطل العجوز ليقرر الانسحاب والتخلي عن القيروان والعودة إلى مدينة المهدية، كما تنازل عن الحكم لابنه تميم، وعاش حزينًا منزويًا بعدما اعتزل الحياة السياسية ليموت بعد بضع سنوات من هزيمته الكبرى.
لم تشأ الرواية الشعبية أن تنهي حياة “الزناتي خليفة”، بهذه النهاية المهينة التي حدثت في الواقع، بموته منزويًا حزينًا بعدما انسحب بما تبقى من جيشه تاركًا القيروان تسقط في يد “الهلالية”، بل اختارت له ميتة شريفة، شامخًا، مدافعًا عن أسوار مدينته، ليُقتل على يد دياب ابن غانم.
لكن الرواية المنحازة لبني هلال وتحديدًا لـ أبو زيد الهلالي، لم تكن بهذا النبل، فقد حققت أيضًا مكاسب من وراء الطريقة التي مات بها “الزناتي”، فمن ناحية عوضت المنحازين للزناتي وخاصة في بلاد المغرب بانتصار معنوي متجسد في بسالته، والذي دافع عن مدينته وشعبه لآخر لحظة في حياته، فخففت من وقع الهزيمة واغتصاب الأرض، ومن ناحية أخرى لم تورط “أبو زيد” في دم “الزناتي”، وكرست الكراهية التي أُسس لها طوال السيرة ضد دياب ابن غانم بجعله قاتل الزناتي خليفة ـ الذي حظي خلال الرواية على تبجيل كبير صنع له جمهورًا حتى وسط المنحازين لبني هلال وزعيمهم أبو زيد.
كانت لحظة موت البطل الزناتي، قمة الدعاية لـ أبو زيد الهلالي، كما كانت ذروة الدعاية المضادة لدياب ابن غانم (وهو وجه ثالث للسيرة الهلالية تم تشويهه طوال أحداثها)، بجعل الزناتي خليفة يتمنى وهو يفارق الحياة لو كان مقتله على يد أبو زيد الهلالي، لا دياب ابن غانم، فينشد الراوي على لسان الزناتي: ” يقول الزناتي والزناتي خليفة.. نفــس الفتــى لا بـد مــن زوالـها.. يقول وقلــبه طــار من مستقره.. الأيــام والدنيـــا ســريع زوالها.. الأيــام والدنيا كفى الله شـرها.. تطــوى عزيزًا ثم تطوى أرذالها.. في رملـة البيضا ودنية منيتــي.. في يد ديــاب لـيت أبـا زيد نالـها.. ألا يالزناتيات ابــــكوا خليــفة.. وقـــولوا واخـراب الدار عقب اعتدالـها“.
الوجه الآخر للرواية
لقد صنعت السيرة الهلالية المنحازة للعرب، بنفسها وفي داخلها، وجهًا آخر للرواية الشعبية، يتسلل من بين كلمات شعرائها، وجه ينتصر رغمًا عنها لـ” بطل المغارب” هذا الذي أفنى حياته مدافعًا عن شعبه في مواجهة الغزاة، فعلى الرغم من المبررات الأخلاقية التي صاغها الراوي طوال السيرة لشرعنة غزو عرب بني هلال لبلاد المغرب وإفريقيا، فقد اضطرت لأسباب كثيرة تعظيم العدو المغاربي “الزناتي خليفة”، ليبقى كما أنشد الراوي على لسانه، رمزًا للتضحية وأملًا للمقهورين: “أنا البطل الزناتي.. للوطن بايع حياتي“.