مثلت الحروف في الفن الإسلامي الشكل الناضج للتجريد، فلقد عبرت عن العقيدة مضمونًا، ذلك لأن معجزة الإسلام هي “القرآن”، السور والآيات التي هي حروف، حروف مرسومة بخطوط قد تنوعت واكتسبت قدرًا كبيرًا من قداسة الكتاب ذاته.

لقد تسبب نسخ القرآن وتكراره لآلاف المرات في النضج التشكيلي لخامته الكتابية، وتم ذلك نتيجة تراكم الممارسات الفنية في رسمه وتشكيله، واتساع التجريب والإبداع فيه؛ لإبرازه في أجلى صوره لقيمته وقداسته، اكتسب الحرف العربي النضج أيضًا من تعدد التكوينات في أنواع الخط العربي، حركات الإعراب، والتنقيط، وتعدد رسوم الحروف وتشكيلاتها، وأيضًا لاتساع الأمصار وتنوع الأعراق والقبائل، كل هذا مجتمعًا كان سببًا في التنوع في الخطوط، وطرائق رسمها، ونضج إخراجها الفني والإبداع فيه.

الخط في الفن الإسلامي أيضًا يتميز عن الخطوط الأخرى المجردة لأنه يضاف إليه الجزء الروحاني الذي يضفيه الفنان أو المتلقي عليه، علاقاته الروحانية لاتصاله بمعتقده بالدين، وإيمانه بالقرآن.

كما أن الخط العربي يتميز بكونه غير حاد الزوايا ويتسم بالنعومة، وتبدو بعض انحناءات حروفه عميقة ودافئة، وكأنها تستوعب وتحتوي تلك التجربة الروحانية المجردة مع الله سبحانه وتعالى.

في فنون الخط العربي تتفوق القيمة الجمالية على أية قيمة جمالية في أي تجريد آخر، فالمعادل التشكيلي يتضمن غنى روحانيًا قد تعالى وتكثف لأنه لا سبل أخرى كثيرة متاحة أمامه، فتشعر كأن المتلقي للتشكيل الإبداعي للخطوط داخل حلقة ذكر يردد فيها المناجاة مع الله؛ ليصل إلى حالة من التصوف المرتفع على الدنيوي والمجسد؛ توقا إلى المجرد، إلى الله.

شاهدت بعض اللوحات التشكيلية للحروف العربية التي رسم فنانوها إشعاعات روحانية وخطوط تنبعث من الحروف وكأنها تتصاعد إلى السماء أو الذات العليا، كأن الحرف في تلك التابلوهات رسالة الفنان الهائم في الملكوت الأكبر والساعي إلى وصل ما.

في فنون الزخرفة الإسلامية كانت وحدة العقيدة وطبيعتها من وراء وحدة الشكل في المنمنمات والتكوينات الهندسية، فلقد تبدي فيها حسن الإيقاع وواحديته وتكراره الذي كان سمة عامة. وتآلف الألوان أيضا سواء في الرسم علي الزجاج بألوانه الدافئة العميقة، أو على الجدران، ويتجلى التلاحم في تداخل الوحدات بعضها مع الآخر، سواء في الحروف أو في الأشكال الهندسية الأخرى، وفي التتالي المنظم للألوان والوحدات، وهي أربعة مفاهيم متفرقة وهي مع  ذلك تنسجم في إطار عام واحد، هذا الاختلاف والتمازج يعد استعارة معبرة عن حركة الكون والوجود، ويتسق مع هذه الفلسفة فن المنمنمات المتمثل في السجاد والحفر علي الخشب والمعادن أيضا.

“2”

يُعد دال “المسجد” وأبعاده الذهنية في الإسلام ركيزة جوهرية في الثقافة العربية، ففي فضائه وطبيعة زخارفه تؤول الفنون المجردة وتذهبنا لمدلولات غيبية، تُرجع المتلقي دائما إلى غير المجسًد، وغير المتخيل، تذهب به لذات الله وطبيعته التي ليس كمثلها شيء في العقيدة الإسلامية. يتحقق هذا من خلال العمارة وفنونها التشكيلية حيث التكوينات البصرية المجازية ذات الطابع الهندسي الخاص، يقول جارودي ” إن الفنون في الإسلام تفضي إلى المسجد، والمسجد يفضي إلي الصلاة، الفن الإسلامي يجذب إلى الله من خلال عمارة المسجد وفنون زخرفته”.

إن فلسفة الخشوع والتسليم والطاعة وترديد الآيات تبعث في مقيم الصلاة إشعاعات غير محدودة تتشكل بحسب كل تجربة إيمانية، حيث تندمج مع طبيعة عمارة المسجد ومئذنته شاهقة العلو، واتساع قاعة المصلين والمنبر، ثم نوعية الزخارف الفنية وتكرارها، ويحث الجميع الجسد على التسامي فوق الغرائز، الابتعاد عن المجسد، والدنيوي من الانشغالات.

ولقد استلهمت بعض الفنون روح الحضارة الإسلامية وفلسفتها الخاصة مثل: الواحدية، و الحجب، والتكرار، وتجلت هذه المفاهيم أكثر ما تجلت في فن العمارة. ففي قباب المساجد التي تتميز بها العمارة الإسلامية إشارة إلى طبيعة علاقة الأرض بالسماء في وحدة ما، وحدة تميل إلى دال “الدائرة”، إلى تطلع كل ما هو أرضي إلى السماوي في علاقة كلية مندمجة بالرغم من المسافات الشاسعة بين الاثنين، لكنها تبدو متكاملة ويحكمها وحدة الوجود الذي يحركه الله الواحد الأحد.

في المئذنة أيضًا كما في القباب ظلال واضحة من آثار فلسفات عمارة الديانات السابقة على الإسلام، سواء في مرجعية شكل المسلة الفرعونية، والتطلع الإنساني إلى السماء، أو اعتماد شكل القباب في الكنائس المسيحية، لكن ذات العمارة موظفة في الحضارة الإسلامية بفكر مغاير بشكل ما، وزخارف مختلفة في معظمها.

فلقد اُستخدمت المئذنة لدعوة الناس إلى الصلاة، والمنبر للخطابة من موقع مكاني أعلى من المصلين بما يتضمن من شفرة ودلالة.

في المسجد كما في واجهات البيوت العربية التراثية ونوافذها نجد فنون الأرابيسك القائمة على العاشق والمعشوق، وهي تمثل وحدات هندسية ملتحمة بمثيلاتها، وتتكرر بالرغم من تنوعها أحيانا، كما يتكرر إيقاع الحروف والكلمات في الآيات القرآنية التي تتم بها العبادات. وهو ما يهب التلقي نوعا من الموسيقى المتتابعة الوقع، المنتظمة التقاسيم والتقطيعات، فالتكرار يريح النفس ويبعث بها خدرا نسبيا، التكرار يؤكد على ذات الموتيفة بالنسبة للمتلقي، ذلك حين يهبه ما انتظره في أفق توقعه، فيجعله في حالة راحة وسكون لتلقي وتقبل ما يُتلى عليه.

ولقد ركز التشكيلي الإسلامي في العمارة الأموية والأندلسية علي الجمال الداخلي، الجمال الذي يحجب الداخل عن الخارج، جمال يحقق الستر، ولا يراه إلا من ولج العمارة إلى الداخل، فبعد اجتياز الأبواب فقط يشرع الاتساع في الحضور والبيان، في باحة البيت وفسقياته المنفتحة على السماء والتي لابد لها أن تحظى بقطعة منها، من المطلق، ثم في تعدد حجراته التي تسمح بالتعدد في الشرع، والجمع أحيانا بين الزوجات، ومن ثم تعدد حجراتهن، ثم في القاعات المنفصلة إحداها عن الأخرى لمراعاة ما أطلق عليه الحرملك والسلاملك.

كما أن الأبواب في العمارة الإسلامية تُفتح إلى الداخل، كذلك نوافذ الأرابيسك التي يري المراقب من ورائها الخارج ولا يراه من في خارج البيت .

كما أننا يجب أن نلاحظ أن الروح المنظمة لحركة الفن الإسلامي تظل ذات سمات شكلية واحدة ومتشابهة للغاية وان اختلفت الأماكن. تختلف الجغرافيا لكن الغاية والفلسفة واحدة ولذا يتشابه قصر الحمراء مع جامع قرطبة مع أيا صوفيا في اسطنبول.

إن غياب الصورة جعل الفنان العربي يستبدلها بغنى الموتيفات الإسلامية من أول رسم قبر الرسول وبيوت زوجاته، وكل الآثار التي بقيت من مكونات حضارة تميل رغم التوسعات وفتوحات البلدان إلى الاحتفاظ بمقومات حضارة صحراوية بعناصرها المحدودة، مثل الخنجر والسيف والخيمة وموجودات الصحراء التي تعد عناصر أساسية بها، الموجودات التي لا تتضمن روحا.

المتأمل في فلسفة الفن الإسلامي يلحظ معاني وقيما من سبيل الحجب، والتكرار، والتسليم، الوقوع في أسر كل ما هو محدد ويقيني ومكرر وغير مفتوح لانطلاقات الخيال، وكأن كل شيء قد تم إنجازه، وما علي المسلم سوي أن يسلم به ويكرره ويتسامى في إطار إشعاعاته المحددة، لا سبيل لخيال أو إعادة تفسير أو تمرد خارج الخطوط .

وأتساءل هل إذا ظلت الخطوط والمنمنمات مغلقة وتستعيد نظام تكرارها ضمن تنوعه الزخرفي الهندسي، هل لها أن تطلق خيال الإنسان علي النحو الأمثل؟

أعود ثانية لطرح تساؤل آخر ــ مع تقديري وإجلالي لسمات الفن الإسلامي ومحاولة الفنان العربي أن يبدع فنا يميز حضارة لها تلك الفلسفة ــ هل مَنَعَ تحريم الصورة في الحضارة الإسلامية حجب كثيرا من الآفاق التي كان من الممكن أن تضيف له  مجالا أكثر اتساعا من الاستبصارات الإنسانية ؟

يقول روجيه جارودي ” إن جمالية الفن الإسلامي لا تعتبر مطلقا حيلا للالتفاف على محرمات القرآن والحديث، بل تعبيرا عن رؤيا نابعة من العقيدة الإسلامية.”

لكنني أسجل تحفظا، ففي ظل تقييد الحريات وتحريم التجسيد لا يقف المبدع مكتوف الأيدي والعقل والخيال، بل يسعى الى أن يجد بدائل تلتف على القيود التي تفرضها ثقافته الدينية والمجتمعية، لذا أرى أن المنع والتحريم قد أفاد الفن بانخراطه وتوغله في مناطق التجريد وعالم الخطوط وتشكيل الحروف، وفي رسم النباتات والأشجار، في المنمنمات والأشكال الهندسية، لكنه بلا شك قد حرمه من طاقات واسعة نتجت من تحريم الصورة والتجسيد لكل ما يحمل روحا ” إنسانا أو حيوانا “، حرمته من حركة الصراع وصخبها الدلالي.

إن طاقات الجسد البشري وقدراته الحركية، وتعددها بما يتناسب مع تنوع صراعاته ومشاعره وتجددها، وتنوع حالات وجدانه وعقله وتبدلاتها المتوالية، وانطباعها على ملامحه الجسدية، ومثله عالم الحيوانات قد حرم الفن الإسلامي وتشكيلاته من كثير من الطاقات الفنية المبدعة التي كان بالإمكان إضافتها إلى الغنى الفني وتنوع طاقاته.

في ظل العولمة وانفتاح الحضارات والثقافات، وفي معطيات ثورة المعلومات وشبكات التواصل يصعب أن نقول هناك ثقافة عربية إسلامية خالصة دون مؤثرات من الثقافات الأخرى، كما يصعب أن نظل ندور في فلك السلف وتأويلاتهم لقضايا تعلقت ملابساتها بلحظة تاريخية انقضت آثارها، ولذا أصبح من الحتمي إعادة النظر في فلسفة تحريم الصورة والفنون التشكيلية، وفتح الأطر الضيقة التي حكمت حركتها في الماضي، لقد ظل الفنان العربي المسلم في كل المراحل التاريخية السابقة يبحث عن تجاوز المحرمات التجسيدية في التشكيل، وأحسب أن حركة التاريخ وتقدمه أكثر صخبًا وحراكًا من تلك المحرمات التي سقطت فلسفتها منذ أزمنة بعيدة.