منذ أن اختار الإمام أحمد الطيب، شيخ الأزهر، النأي بنفسه وبمؤسسته عن المشاركة في حملات التأييد المطلق للسلطة، مقاوما محاولات التطويع والتدجين، ولا تفوت مؤسسات السلطة وأذرعها الإعلامية والسياسية فرصة، إلا واستهدفت فيها الشيخ والمشيخة، فتمسك أي مؤسسة باستقلالها يزعج كل من قرر المشي في معية النظام كرها أو طوعا.
لم تتوقف حملات استهداف الأزهر وشيخه، فمواجهة الطيب لرغبات النظام ورفضه تحويل مؤسسته إلى ذراع دينية للسلطة التنفيذية تشرعن توجهاتها وتلحق بركابها شأنها شأن باقي المؤسسات التي جرى تطويعها، جعله هدفا للتحرش، مرة بمحاولة التلاعب بمواد الدستور حتى يسهل عزله لكنه نجا منها، وأخرى عبر تمرير قانون يسحب من صلاحيات المؤسسة لصالح إدارة تابعة للحكومة، ومرات بحملات تشويهه ممنهجة شاركت فيها منصات إعلامية تم تأميمها وإخضاعها من جانب السلطة.
قانون تنظيم دار الإفتاء الذي جمده البرلمان إلى حين، كان آخر محاولات السلطة لتفكيك صلاحيات واختصاصات الأزهر التي كفلها الدستور، فلسفة القانون الذي تقدم به بعض النواب قبل أسابيع لتمريره قبل نهاية دور الانعقاد الخامس للمجلس، تقوم على استبعاد دور الأزهر في معظم شئون الفتوى في البلاد، وهو ما اعتبرته هيئة كبار العلماء محاولة للنيل من الأزهر الشريف بتأسيس كيان مواز له ينازعه اختصاصاته التي كفلها الدستور.
ولولا الملاحظات التي أوردها قسم الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، والتي أكدت مخالفة عدد من مواد القانون للدستور، فضلا عن الضجة التي أثيرت بسبب تجاهل البرلمان لرأي الأزهر، لمر القانون بذات الطريقة التي تمرر بها باقي قوانين المجلس.
تقرير مجلس الدولة عن القانون الذي تم تسريبه وتداولته عدد محدود من المنصات الإعلامية، كشف عن عوار دستوري بمواد قانون «دار الإفتاء»، وإلى اصطدامه مع نص المادة السابعة من الدستور التي تنص على أن «الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شؤونه، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية، ويتولى مسؤولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم …»، ومخالفته لبعض مواد قانون تنظيم الأزهر والهيئات التابعة، الصادر في العام 1961 التي تؤكد أن الأزهر هو «المرجع الأساسي الذي يجب أن تُرد إليه كل فتاوى دار الإفتاء، بوصفها مظهراً تطبيقياً للعلوم الدينية، والشؤون الإسلامية».
وأكدت مذكرة مجلس الدولة ما كانت قد أشارت إليه هيئة كبار العلماء في مذكرتها التي أرسلتها إلى البرلمان قبل أسابيع على القانون من أن تمرير هذا المشروع «يخلق كيانا موازيا للأزهر ينازعه في اختصاصاته التي حددها الدستور.. ويمس باستقلالية الأزهر والهيئات التابعة له، وعلى رأسها هيئة كبار العلماء وجامعة الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية». مشيرة إلى أن «اختصاص دار الإفتاء بإصدار الفتاوى وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، بما يتفق مع صحيح الدين، يجعلها وحدة من وحدات الأزهر، وتابعة له».
قبل ساعات من التصويت النهائي على القانون، أرسل شيخ الأزهر خطابا إلى رئيس البرلمان يطالب فيه بحضور الجلسة العامة التي سيطرح فيها المشروع للتصويت لعرض وجهة نظر الأزهر ومذكرة قسم الفتوى والتشريع بمجلس الدولة على نواب الشعب المصري، وذلك «وفاءً بالأمانة التي أولاها الله تعالى له، وعرض رؤية الأزهر في ذلك المشروع».
وبعد خروج مذكرة مجلس الدولة إلى الفضاء العام، وخطاب شيخ الأزهر المشار إليه، تم سحب مشروع القانون قبل عرضه للتصويت النهائي في الجلسة الختامية لدور الانعقاد الخامس، وهو ما اعتبره البعض انتصار جديدا للمشيخة في جولة من جولات الصراع الدائر بين السلطة التنفيذية والأزهر منذ سنوات.
لم تنته معركة قانون تنظيم دار الإفتاء تماما كما حسب البعض، فرئيس اللجنة الدينية البرلمان وهو مقدم المشروع أشار في تصريحات صحفية له بأن رئيس المجلس أحال مشروع القانون اللجنة مرة أخرى للنظر في ملاحظات قسم الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، مشيرا إلى أن دور اللجنة يقتصر على إعداد تقرير حول الملاحظات والرد عليها ورفعه إلى رئيس المجلس. وذكر أن دور الانعقاد للمجلس سينتهي في 15 يناير المقبل، لكنه لم يوضح هل ستناقش اللجنة القانون في الإجازة البرلمانية التي تنتهي في أكتوبر أم لا، مكتفيًا بقوله «ممكن نناقشه».
أزمة القانون الأخيرة حلقة جديدة تضاف إلى حلقات التوتر المتجدد بين السلطة وأذرعها الإعلامية والتشريعية من جهة وبين مؤسسة الأزهر وشيخها الإمام أحمد الطيب الذي حاول في بعض الأوقات أن يكون ندا مقاوما لمحاولات فرض الهيمنة على المؤسسة المحصنة بحكم الدستور، وفي أوقات أخرى آثر السلامة واختار الصمت أو الحياد حتى لا يخرج من تلك المعركة الغير متكافئة خاسرا فيخسر الأزهر استقلاله وحصانته.
الرجل الذي شارك في اجتماع 3 يوليو 2013 والذي انتهى بإعلان عزل الرئيس الراحل محمد مرسي ونهاية حكم الإخوان، لم يقبل كغيره أن يبصم على كل توجهات السلطة الجديدة، واختار لنفسه مكان المراقب الذي يتابع الأحداث ولا يتدخل إلا فيما يخص مؤسسته وصلاحياتها.
رفض الطيب إبان حكم الإخوان أن يكون الأزهر مؤسسة تابعة لجماعة دينية قررت أن تحكم مصر بتفويض إلهي، وقاوم محاولات لتطويعه أو إخضاعه، ونجا من العديد من الدسائس التي كانت تهدف إلى إجباره على الاستقالة، مع ذلك أعلن رفضه للطريقة التي فُض بها اعتصام ميدان رابعة العدوية، وخرج في كلمة بثها التلفزيون الرسمي، شدد فيه على «حرمة الدماء التي أريقت وعظم مسؤوليتها أمام الله والوطن والتاريخ»، ونفى علمه المسبق بالإجراءات التي اتخذتها قوات الأمن لفض الاعتصام، ورفض «إقحام الأزهر في الصراع السياسي، واستخدام العنف بديلًا عن الحلول السلمية»، وتوجه إلى ساحة الطيب بقريته «القرنة» بمحافظة الأقصر ليبقي أسابيع هناك كاحتجاج صامت على ما جرى.
بيان الطيب عن أحداث رابعة، أسس لشكل العلاقة مع السلطة الجديدة التي قررت أن تُحني كل الرؤوس وتدجن كل المؤسسات لصالحها، بينما كان الشيخ قد اتخذ قراره بأن يحافظ على قدر من الاستقلالية للأزهر وأن ينأى بمؤسسته عن المشاركة في حملات المباركة والدعم والتأييد، حفاظا عليها من أن ينالها ما نال غيرها من تشويه، وهدفه أن يعود الأزهر قبلة ومرجع لجموع المسلمين الذين اتخذ بعضهم من جماعات التطرف والإرهاب مرجعا بسبب تسيس المؤسسات الدينية الرسمية في الدول الإسلامية.
دخل الطيب أكثر من مرة في سجال علني مع الرئيس السيسي، فسره البعض على أنه صراع مكتوم على السلطة الروحية والأخلاقية، وذهب البعض الآخر إلى أن الطيب لم يرد للأزهر أن يتحول إلى مؤسسة تابعة للسلطة كما باقي المؤسسات.
من الخلاف حول أدوات «تجديد الخطاب الديني»، إلى أزمة «الطلاق الشفوي»، و«تعبتني يا فضيلة الإمام» التي وردت على لسان الرئيس، مرورًا برفض الأزهر «تكفير الدواعش» ومحاولات تشويه السنة النبوية تحت شعار «تنقيتها”، وصولا إلى معركة قانون «دار الأفتاء»، تزايدت شعبية الإمام وهو ما تعتبره السلطة الحالية خط أحمر، فليس من المقبول أن تكون هناك شعبية لأيا من كان، حتى ولو كان شيخا معما يترأس مؤسسة دينية لا يطمح في سلطة ولن ينازع أحد في الحكم.
الشعبية التي صنعها الطيب بتماسكه وعدم رضوخه لتوجهات السلطة في العلن قبل السر، فتحت عليه النار ومُنح رجال إعلام النظام الضوء الأخضر للنيل من رأس المؤسسة الدينية وتعفير لحيته من آن إلى آخر، وكما نجا الشيخ من محاولات عزله أو سلب اختصاصاته عبر الألاعيب الدستورية والتشريعية، تصاعدت شعبيته بفعل الحملات الإعلامية التي استهدفته، والتي لم يُمكن من الرد عليها، إلا عبر منصات الأزهر، فوسائل الإعلام التي جرى تأميمها لم تفتح مجالا للشيخ أو رجاله للرد، كما أنها لم تعط مجالا للكتاب والصحفيين بأن يدفعوا المطاعن عن الرجل ويوضحوا موقفه.
في نوفمبر الماضي، وخلال الاحتفال بالمولد النبوي حذر الطيب في كلمته من خطورة الظلم وتداعياته على المجتمع، قائلًا: «النبي حذَّر من الظلم في خطبة الوادع ثلاث مرات؛ لأثره التدميري على الأفراد والأسر والدول والمجتمعات، وحذَّر منه القرآن الكريم في 190 آية، كما حذَّر النبي منه في سبعين حديثًا من أحاديثه الشريفة».
وأوضح أن «عزيمته من حديد في مواجهة الإرهاب الذي ينشر الخراب والدمار»، متابعًا: «لن تتقدم الأمم بهذه الطريقة، والإرهاب لن ينتهي إلا بتكوين قناعة ومناعة ضد الفكر المتطرف»، وهو ما اعتبره سدنة النظام هجوما مبطنا على السلطة ونقدا لقراراتها وتوجهاتها.
تعرض شيخ الأزهر بعد هذه الكلمة لهجمة إعلامية جديدة، حاول أن يرد ويتواصل مع وسائل الإعلام للرد لكنه لم يُمَكن، فأشار إلى ذلك في لقاء مسجل عرضه التلفزيون المصري نهاية العام الماضي «لو أردنا أن نردَّ بمقال على مقال يشتم الأزهر لا يُسمح لهذا المقال بالنشر إلا بعد عناء شديد، ولا يرى النور، وإذا أردنا أن يخرج في القناة طرف ثان ليتحدث فبصعوبة شديدة، وكثيرًا ما يُرفض، كانت هناك حملة على الأزهر الشريف، وهذه الحملة لا تصبُّ -والله- إلا في فلسفة داعش ونظام داعش وحرب داعش».
دفاع الشيخ عن الأزهر واستقلاله ورفضه دخول المؤسسة في حظيرة النظام كما فعل بعض أسلافه من مشايخ السلطة، ضاعف حملات التحرش به، لكنه في نفس الوقت صاعد شعبيته ومن احترام المؤسسات الدولية والكثير من أنظمة الحكم لمكانته واعتداله، وهو ما عزز من صموده وثباته في مواجه تلك الحملات.