فجرت فيروس كوفيد – 19 أزمات متعددة، وألحقت الضرر بالاقتصادات حول العالم مع محاولات مكافحة تفشي الوباء، وكان الحل السحري أمام صانعي السياسات ضخ الأموال بوتيرة غير مسبوقة لدعم النظام الاقتصادي من الانهيار.

لكن هذه السياسة أدت إلى مراكمة الديون بسرعة فائقة، وصعد إجمالي الديون العالمية نسبة للناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى مستوى قياسي جديد عند 331 بالمائة في أول ثلاثة أشهر من العام، بما يوازي 258 تريليون دولار، بحسب بيانات معهد التمويل الدولي.

وكان العقد الماضي قد شهد أكبر الزيادات في ديون هذه الاقتصادات وأسرعها وأوسعها نطاقا على مدى الخمسين عاما الماضية. فمنذ عام 2010 ارتفع مجموع دين هذه الاقتصادات بمقدار 60 نقطة مئوية من إجمالي الناتج المحلي حتى بلغ ذروة تاريخية حين تجاوز 170% من إجمالي الناتج المحلي في 2019.

 ورغم أن نصيب الصين هو الأكبر في هذه الزيادة مما يرجع جزئيا إلى حجمها الكبير، كان تراكم الديون واسع النطاق، ففي حوالي 80 % من هذه الاقتصادات، كان مجموع الدين في 2018 أعلى من مستواه في 2010. وحتى بعد استبعاد الصين، بلغ ارتفاع الدين 20 نقطة مئوية من إجمالي الناتج المحلي، فوصل إلى 108 % في 2019. ومع استجابة هذه الاقتصادات للجائحة، ستستمر ديونها في الارتفاع.

ويتسم الركود العالمي الحالي بأنه استثنائي في حدته. وعلى غرار الأزمات السابقة، فإن هذه الأزمة اختبار لصلابة البلدان والشركات المثقلة بأعباء الديون.

موجات الديون

ويرصد أيهان كوسى، مدير مجموعة الآفاق في البنك الدولي، في دراسة نشرت في مجلة التمويل والتنمية التي يصدرها صندوق النقد الدولى، ثلاثة موجات للديون العالمية منذ 1970.

الموجة الأولى من 1970 إلى 1989، جمعت هذه الفترة بين انخفاض أسعار الفائدة الحقيقية والنمو السريع في سوق القروض الموحدة خلال معظم السبعينات، مما شجع الحكومات في أمريكا اللاتينية والبلدان منخفضة الدخل، ولا سيما في إفريقيا جنوب الصحراء، على الاقتراض بكثافة، حتى بلغت أوجها ووقعت سلسلة من الأزمات المالية في مطلع الثمانينات.

وأعقبت ذلك فترة مطولة من تخفيف أعباء الديون وإعادة والمبادرة المعنية، بدعم مشترك من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إلا أنه كان برغم ذلك عقدا ضائعا فيما يتعلق بالنمو والحد من الفقر.

أما الموجة الثانية من الديون فكانت خلال الفترة 1990 إلى 2001، في ظل تحرير الأسواق المالية والرأسمالية، تمكنت البنوك والشركات في شرق آسيا والمحيط الهادئ والحكومات في أوروبا وآسيا الوسطى من الاقتراض بكثافة، وخاصة بعملات أجنبية، فانتهي الأمر بسلسلة من الأزمات في الفترة من 1997 إلى 2001, وكانت تسوية ديون القطاع الخاص تقتضي عمليات إنقاذ كبيرة للبنوك والشركات، تمت على الأغلب بمساعدة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

أما الموجة الثالثة،  فكانت خلال الفترة من 2002 إلى 2009، حيث تزايد اقتراض القطاع الخاص في أوروبا وآسيا الوسطى من بنوك عملاقة مقرها الاتحاد الأوروبي عقب تيسير القواعد التنظيمية، عندما أدت الأزمة المالية العالمية إلى اضطراب التمويل المصرفي في الفترة من 2009-2007، مما أدى إلى الركود في العديد من هذه الاقتصادات. وبُذِلَت جهود على مستوى أوروبا لتسوية الديون، الأمر الذي اقتضى، مرة أخرى، إنقاذ البنوك والحصول على مساعدة دولية.

أزمات عالمية

موجات الديون التاريخية الثلاث بدأت جميعها أثناء فترات من انخفاض معدلات أسعار الفائدة الحقيقية وسهلتها في الغالب الابتكارات المالية أو التغيرات في الأسواق المالية التي شجعت الاقتراض. وانتهت الموجات بأزمات مالية واسعة الانتشار وتزامنت مع حالات من الركود العالمي 1982 و1991 و2009 أو من تباطؤ النشاط ال اقتصادي1998 و2001.

وكانت هذه الأزمات تنجم عادة عن صدمات أفضت إلى ارتفاع حاد في عزوف المستثمرين عن المخاطر، أو ارتفاع علاوات المخاطر، أو تكاليف الاقتراض، أعقبتها حالات من التوقف المفاجئ للتدفقات الرأسمالية الداخلة والركود العميق. وعادة ما كانت تعقب الأزمات المالية إصلاحات مصممة للحد من مواطن الضعف بما فيها زيادة تراكم الاحتياطيات وتقوية أطر السياسات.

 وفي أعقاب الأزمات المالية، أقدم كثير من الاقتصادات الصاعدة على وضع أهداف للتضخم، أو زيادة مرونة سعر الصرف، أو وضع قواعد مالية، أو إحكام الرقابة على القطاع المالي.

اختلاف الأدوات

اختلف الأدوات المستخدمة لعلاج الموجات الثلاث الأولى. فالأدوات المالية المستخدمة في الاقتراض تطورت مع استحداث أدوات جديدة وظهور أطراف مالية فاعلة مستجدة على الساحة. وشهدت الموجة الأولى تراكم الدين بسرعة لدى الكيانات السيادية في الاقتصادات الصاعدة، بينما السبب الأكبر وراء الموجتين اللاحقتين كان اقتراض القطاع الخاص، برغم أنه أثناء الأزمة الآسيوية كان عدد كبير من الشركات شبه سيادي.

 واختلفت حدة الضرر الاقتصادي بين أزمة مالية وأخرى ومن منطقة إلى أخرى. فكانت خسائر الناتج جسيمة ومطولة في أعقاب الموجة الأولى، عندما كان معظم الدين المتراكم دينا حكوميا. وفي نفس الوقت، وضع كثير من الاقتصادات أطرا أفضل للسياسات في أعقاب أول موجتين من الديون مما ساعد على تخفيف الضرر من الأزمة المالية العالمية التي وقعت في نهاية الموجة الثالثة.

شهدت الأسواق المالية حتى وقت قريب بعض التغيرات الكبيرة التي أدت إلى تشجع الاقتراض من جديد

الموجة الرابعة

خلال موجة الديون الحالية، التي بدأت في 2010، بلغ الدين مستويات قياسية، وارتفعت ديون القطاع الخاص بسرعة بالغة. وعلى مستوى البلدان المصدرة للسلع الأولية، ارتفع دين القطاع العام كثيرا في أعقاب الهبوط الحاد في 2015.  فعلى غرار بعض الحالات عبر التاريخ، ظلت أسعار الفائدة العالمية في مستويات منخفضة للغاية منذ الأزمة المالية العالمية، إلى أن تفشت الجائحة، فسعى المستثمرون للبحث عن العائد مما ساهم في ضيق فروق العائد في الاقتصادات الصاعدة.

وشهدت الأسواق المالية، حتى وقت قريب، بعض التغيرات الكبيرة التي أدت إلى تشجع الاقتراض من جديد، باستخدام وسائل منها زيادة البنوك الإقليمية وزيادة الإقبال على السندات بالعملات المحلية، وارتفاع طلب القطاع المالي غير المصرفي الذي كان آخذا في الاتساع على سندات دين اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. وعلى غرار ما حدث في فترات الموجات السابقة، ازدادت مواطن الضعف في هذه الاقتصادات مع بدء الموجة الحالية وسط أجواء من تباطؤ النمو الاقتصادي.

نمو الديون

فمنذ عام 2010، بلغ متوسط الزيادة السنوية في الديون نحو 7 نقاط مئوية من إجمالي الناتج المحلي في هذه المجموعة من البلدان، وهي نسبة أكبر بكثير مما كانت عليه خلال كل موجة من الموجات الثلاث السابقة. وإضافة إلى ذلك، بينما كانت الموجات السابقة إقليمية إلى حد كبير، كانت الموجة الرابعة واسعة الانتشار، حيث ارتفع إجمالي الدين في نحو 80 % من هذه الاقتصادات بما يصل إلى 20 نقطة مئوية على الأقل من إجمالي الناتج المحلي لما يزيد على 45 % منها. وعقب التراجع الحاد في الفترة 2010، ارتفع الدين كذلك في البلدان منخفضة – من 2000 الدخل، فارتفع من 47 % من إجمالي الناتج المحلي في 2010 إلى 65 % من إجمالي الناتج المحلي في 2019. وأخيرا، ارتفع الدين في النظام المالي غير المصرفي، الذي يبدو أنه خاضع لرقابة أخف ويتسم بصلابة أقل من الجهاز المصرفي، والذي أُعيدت هيكلته بعناية تامة على أثر الأزمة المالية العالمية.

ضغط مالي

تحملت اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية فترات من التقلب أثناء موجة تراكم الديون الحالية، لكن الضغط المالي الحاد واسع الانتشار لم يظهر إلا بعد تفشي جائحة كوفيد- 19. وقدرة هذه الاقتصادات على تحمل الضغوط المالية تزداد تعقيدا بسبب مواطن ضعف أخرى، مثل زيادة معدلات عجز المالية العامة والحساب الجاري والتحول نحو ديون تنطوي على مخاطر أعلى. وقفزت نسبة الديون الحكومية في حيازة مستثمرين غير مقيمين إلى 43 % في 2018، وارتفعت ديون الشركات المقومة بعملات أجنبية من 19 % من إجمالي الناتج المحلي في 2010 إلى 26 % من إجمالي الناتج المحلي في 2018. وعلى مستوى البلدان منخفضة الدخل، كان أكثر من نصف الديون الحكومية بشروط غير مُيَسَّرة. فكان تصاعد رصيد الدين وتكوين الديون التي تنطوي على مخاطر أعلى مصاحبين لمعدلات النمو المخيبة للآمال بصورة متكررة على مدى عقد كامل.

ووضعت الجائحة نهاية مفاجئة لهدوء الأسواق المالية

 ووضعت الجائحة نهاية مفاجئة لهدوء الأسواق المالية، وهي الآن تضع صلابة الاقتصادات والمؤسسات والسياسات في الاقتصادات الصاعدة على المحك. فتواجه هذه الاقتصادات ركودا عالميا لا يزال يتكشف، بينما هي في وضع أضعف بكثير مما كانت عليه وقت حدوث أزمة 2009. وأدت تطورات الفترة الأخيرة إلى دفع بعضها نحو حالة المديونية الحرجة واسعة الانتشار والتي وضعت نهاية للموجات السابقة.

وتشير تجارب الموجات السابقة إلى أهمية دور خيارات السياسات في تحديد نتائج موجات الديون. وبينما كانت الصدمات الخارجية هي التي تدفع عادة إلى وقوع الأزمات المالية، فإن تأثيرها على كل اقتصاد على حدة كان يتحدد بشكل كبير حسب أطر السياسات المحلية وخياراتها. وفي نهاية المطاف، تعتمد أولويات السياسات تحديدا على ظروف كل بلد، لكن هناك أربع سياسات فرعية واسعة يمكن أن تساعد الاقتصادات الصاعدة على تجاوز الركود العالمي الحالي برغم ارتفاع الدين.

الإدارة السليمة للدين والشفافية

 بينما البلدان في أمس الحاجة إلى التمويل، تكتسب إدارة الدين السليمة وشفافية الدين أهمية كبيرة في ضمان أن ديون اليوم يمكن سدادها غدا وأنه يمكن السيطرة على تكاليف الاقتراض، ثم استعادة القدرة على الاستمرار في تحمل الديون في نهاية المطاف، واحتواء المخاطر المالية. وإذا ساهمت البنوك المركزية في تمويل المالية العامة، يمكن كسب ثقة المستثمرين عن طريق وضع أطر تضمن عودة السياسة النقدية إلى سابق عهدها قبل الجائحة. ويستطيع الدائنون، بما في ذلك المؤسسات المالية الدولية، قيادة الجهود في هذا المجال بالتشجع على اعتماد معايير مشتركة.

الحوكمة الرشيدة

 ينصح صندوق النقد الدولي بتوخي الحكمة في الإنفاق حتى فيما يخص الدفعة التنشيطية الكبيرة من المالية العامة التي تهدف إلى دعم النشاط الآخذ في الهبوط حاليا. وفي العديد من الحالات في ظل الأزمات السابقة، تبين بعد وقوع الحدث أن توجيه الأموال المُقتَرَضة كان لأغراض لم تؤدِ إلى زيادة إيرادات التصدير أو رفع الإنتاجية أو الناتج الممكن. وفي ضوء الاضطراب الكبير الذي يشهده الاقتصاد العالمي في الوقت الحاضر على وجه الخصوص، يتعين وضع أطر سليمة للإفلاس للمساعدة على الحيلولة دون تأثر الاستثمارات سلبا بأعباء الديون المفرطة لفترات طويلة.

فعالية التنظيم والرقابة

 في حين أن التيسير التنظيمي المؤقت ملائم في السياق الحالي، فمن شأن وجود منهج استباقي في تنظيم القطاع المالي والرقابة عليه أن يساعد صناع السياسات على تحديد المخاطر الناشئة واتخاذ إجراء حيالها. وعندما يبدأ التعافي، من شأن الأسواق المالية الأعمق أن تساعد على تعبئة الادخار المحلي، فربما كان مصدرا للتمويل أكثر استقرارا من الاقتراض الخارجي.

السياسات الاقتصادية الكلية القوية

 من شأن الأطر القوية للسياسة النقدية وسعر الصرف وسياسة المالية العامة أن تضمن صلابة اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية في بيئة اقتصادية عالمية على درجة عالية من الهشاشة. وتضع ضغوط السوق الحالية حدا للانكشاف أمام النقد الأجنبي، لكن مرونة أسعار الصرف يمكن أن تخفف وطأة الضربة بعض الشيء عن الاقتصاد المحلي في الأجل القصير؛ أما في الأجل الأطول، فمرونة أسعار الصرف يمكن أن تحول دون تراكم أوجه عدم الاتساق الجوهري في الميزانيات العمومية وتمنع الاختلال الكبير في سعر الصرف. ووسط الضغوط على التمويل اليوم، يجب تعديل سياسات الإيرادات والنفقات لمد نطاق موارد المالية العامة بحيث تسع الإنفاق ذا الأولوية على الصحة ودعم الفئات المعرضة للخطر.