تواجه عشرات القرى المنتجة في الدلتا والصعيد، أزمات حادة خلال السنوات الأخيرة، يشعر القاطنون فيها بنوع من التجاهل الحكومي لأزماتهم وتركيز الانتباه فقط على المدن الصناعية الكبرى التي تحصل على امتيازات وحوافز للإنتاج وإعفاءات ضريبية ودعمًا للتصدير للخارج.
رفع الأسعار
على بعد 70 كيلو مترًا من القاهرة، تعاني قرية “كفر هلال”، التابعة لمركز بركة السبع بالمنوفية، من مشكلات مزمنة تعاني منها صناعة النسيج الذي تخصصت في إنتاجه على مدار 75 عامًا، بعدما وفد إليها رجل أعمال إيطالي يدعى إديمون روبيل ، وتوطن ووطن معه الأنوال الخشبية التي أصبحت فيما يعد 300 مصنع متوسط الحجم وآلاف الورش الصغيرة.
برعت القرية على مدار تاريخها الصناعي في صناعة أقمشة التنجيد والستائر، وظلت تعيش حالة من الرغد لتوسع توزيع إنتاجها محليًا وبداية فتح التصدير للخارج ما أغرى الكثيرين من ساكنيها للتوسع والحصول على قروض بنكية لتوسيع الصناعة وتوفير ماكينات متطورة وصلت بإنتاجها السنوي لحوالي 50 مليون متر قبل أن تنقلب الطاولة فوق رؤوسهم.
تعرضت كثير من ورشة القرية للإغلاق بعدما عجز أصحابها عن المواجهة، بسبب ارتفاع أسعار تكاليف الإنتاج منذ رفع الحكومة أسعار الكهرباء وزيادة الضرائب، وتضاعف أسعار الغزول المستوردة التي يعتمدون عليها، ومنافسة البضائع الصينية المهربة في بورسعيد، وكذلك المزاحمة العنيفة من السوريين الذين يديرون مصانع من الباطن في مدينة العاشر من رمضان مع استمرار حصول ملاكها الأصليين على دعم من الدولة.
تسلل البطالة
تعاني القرية التي لم تعرف البطالة، من توقف العمل بعدما ترك المئات المهنة وواجه العشرات منهم شبح السجن للتخلف عن سداد القروض أو العجز عن سداد إيصالات الأمانة، وبعضهم ترك عائلاته، وسافر بعد التعثر في سداد الضرائب وأقساط شراء الماكينات الجديدة، مع ارتفاع التكلفة وعدم القدرة على تصريف المنتج أو عدم القدرة على الإنتاج من الأساس في ظل انقطاع الكهرباء عن القرية فترات طويلة عامي 2013 و2014.
يقول صاحب مصنع، إن الأعباء تفاقمت على رأسه مرة واحدة، فبعض سعر الخامات تضاعف 30 ضعفًا منذ تعويم الجنيه، وأجرة العامل قفزت من 50 إلى 200 جنيه، والضرائب من 200 جنيه إلى 3 آلاف، فضلًا عن زيادة أسعار الكهرباء التي تمثل عبئًا مستمرًا باعتبار أن صناعتهم لا تستغني عنها.
لا يطلب الأهالي من الحكومة الكثير، فحل مشكلاتهم يتوقف على رسوم إغراق على المنتجات الصينية الرديئة التي تدخل السوق، أو التركية التي تتلقى دعمًا يقلل تكلفة إنتاجها، وبعضها يدخل مهربًا دون رسوم جمركية، وحل مشكلات الصرف الصحي الذي يعتبر عنصرًا لا غنى عنه لصناعتهم.
مشكلات مزمنة
لا تختلف الحال كثيرًا في قرية “ساقية أبو شعرة”، التابعة للمنوفية أيضًا، التي حفرت اسمها في عالم صناعة السجاد اليدوي مع تأزم حركة السياحة وعدم اهتمام المسئولين المحليين بفتح قنوات لتعزيز الإنتاج أو تصديره للخارج.
قبل سنوات، كانت القرية تفتخر بأنها الوحيدة التي لا تضم مقاهي أو يجلس شبابها على نواصي الطرقات فلا وقت للرفاهية، كان الجميع يمتلك أنوالا في المنازل يتناوبون العمل عليها ليل نهار، ولا تهدأ حركة الخيوط في أيديهم حتى الانتهاء من القطعة المطلوبة أيًا كان حجمها.
يعاني المنتجون طوال عمرهم من جشع التجار الذين يشترون منتجهم بسعر التكلفة، ويتولون بيعه بأضعاف سعره، ويطالبون الدولة بدعم الخامات فسعر الحرير قفز من 200 جنيه للكيلو إلى 2000 جنيه بين عامي 2016 و2017، قبل أن يستقر حاليًا عند مستوى 1200 جنيه وهو سعر يرفع تكلفة منتجهم النهائي.
تبدلت الحال حاليًا، فأمام المنازل تتكدس الأنوال القديمة دون اهتمام، تنعى وعودًا من المحافظين السابقين بإنشاء مجمعات صناعية لتشجيع المنتجات المحلية بالقرى، بعدما تبين أن الدعم الحكومي “فني” فقط، وأن الاستثمار الخاص المعول عليه في الدعم المالي لن يعفر أقدامه بتراب الريف.
يترحم الأهالي حتى الآن على الدكتورة آمال عثمان، وزيرة التأمينات الاجتماعية بمصر خلال الفترة من 1977 وحتى 1997، التي في عهدها وفرت لهم الخامات وحصلت على المنتجات لتسويقها في المحال والبازارات السياحية والفنادق في منطقة الهرم بالجيزة.
المتجه إلى الشمال محملا بآمال أكثر، نحو القرى المنتجة في القليوبية لا يصادف المشكلات أيضًا رغم أن انتمائها للقاهرة الكبرى يجعلها أكثر قربًا لاهتمام صانعي القرار، فقرية “طلحة” الشهيرة بصناعة السجاد الحريري، تشهد صمتًا غير معتاد مع توقف غالبية ورشها عن الإنتاج.
في المحافظة ذاتها، احتفظت قرية “باسوس” بسمعة محلية وصلت إلى توصيفها بـ”تايوان مصر” بقدر كبير من الورش الصغيرة المتناثرة تحت المنازل المتخصصة في إعادة تدوير كل شيء بداية من البلاستيك وحتى المعادن.
أنتجت القرية في عقود مضت صناعات مواسير المياه والصرف الصحي وكابلات وأسلاك الكهرباء والمواد البلاستيكية وصهر النحاس، والورق، لكنها تعاني أيضًا من ركود حاد، ورفض حكومي لمطلب قدمه أبناؤها منذ سنوات بمعاملتها معاملة المناطق الصناعية بما يمكنهم من تسويق منتجاتهم بأنفسهم دون انتظار التجار الذين يأكلون عرقهم.
تكاليف متزايدة
على مقربة، ينسج أهالي قرية “ميت كنانة”، مشغولات اليدوية المصنعة من أعواد نبات “الحناء”، ويحولون النبات الصلب القادم من محافظات الصعيد إلى ديكورات وأسوار ومظلات لصالح الفنادق والقرى السياحية.
يشكو أهالي القرب من ارتفاع تكاليف النقل المستمر، فنبات الحناء يقطع رحلة تتجاوز مئات الكيلو مترات حتى يصل إليهم من قرى الرديسية بأسوان، وبات سعره 5 آلاف جنيه للطن، وتتجدد مشكلة النقل في بيع منتجهم النهائي إلى مناطق بعيدة فدائما يتحملون هم التكلفة، مع إجبارهم على إنزال بضاعهم وإعادة تحميلها أكثر من مرة في المنافذ المرورية.
منذ ظهور فيروس كورونا قل الطلب كثيرًا على منتجات القرية التي تقدم جدرانًا مشغولة من نبات الحناء تصد الرياح ومنتجات ديكور مصنوعة من الأخشاب كأشجار الزينة، وكرات الضوء، والأسقف المتحركة التي تتسم بقدرتها على تحمل عوامل التعرية لنحو ربع قرن والقدرة على نسجها بصورة جمالية تفوق البوص.
يقول أحمد خليل، صاحب ورشة، إن تلك الصناعة توفر فرص عمل لحوالي 25 ألف شخص بصورة مباشرة للعاملين بالحناء أو ورش المعادن والأخشاب التي يتم تركيبها عليها، وعمال النقل والسائقين، مطالبًا بتسهيل الإجراءات البنكية التي يمكنهم الحصول عليها بما يسمح لهم بالتوسع، وتنظيم معارض تعمل على تحقيق الشهرة لمنتجهم الذي لا تعرفه غالبية المحافظات.
وتعاني القرى المنتجة في الغربية مثل “الفرستق” المتخصصة في صناعة الخزف، ومحلة اللبن التي تنتج البويات، وكتامة التي تنافس دمياط في صناعة الأثاث، و”شبرا بلولة التي تصدر خامات العطور من مشكلات متشابهة، وهي عدم القدرة على التسويق وعجز قدراتها عن إقامة المعارض التي تصل بمنتجها لباقي المحافظات، وغياب شبكة المواصلات الداخلية التي تسهل من وصول العملاء المحتملين أو تهالك الطرق الداخلية في المحافظة.
لكن كانت مشكلات قرية برما، الملاصقة لمدينة طنطا عاصمة المحافظة معقدة، فالشكوى مستمرة منذ سنوات من الأدوية البيطرية منتهية الصلاحية التي يتم تداولها في مزارع قرية تخصصت في إنتاج الدواجن منذ عشرات السنوات وتتسبب في ارتفاع نسبة النفوق.
يقول عمرو عصام، صاحب مزرعة، إن الأهالي يطالبون بإنشاء مجازر حكومية يمكن من خلالها ذبح كميات كبيرة من الدواجن قبل موجات التقلب في الطقس، خاصة الحرارة المرتفعة التي تهلك أحيانا 30% من الإنتاج، بجانب دعم الأعلاف التي تتزايد أسعارها باستمرار وتزيد من سعر البيع النهائي.
وانطلاقا إلى قرية الأعلام، بالفيوم، يحاول الأهالي تغيير واقعهم في صناعة الخوص بجدل سعف النخيل مع بعضها البعض ودمجها ببقايا محصول الأرز، أو تحويل بقايا نباتات الموز لمنتجات منزلية وبيعها بمحال افتتحوها على الطرق السريعة.
في الورش الصغيرة تعمل السيدات على تعزيز مواردهن من تلك الصناعة التي تستغرق وقتًا طويلًا، فالقطعة الواحدة قد تتطلب يومين كاملين من أجل التعامل مع قش الأرز ودمجه بالخوص لإنتاج علب لحفظ الطعام أو حقائب للسيدات بعد توجيهها لمحلات متخصصة تضيف عليها قطعًا من الديكور.
وتعاني القرية منذ قرار الحكومة تخفيض زراعة الأرز الذي يشترون بقاياه من الدلتا، كما ساهم ارتفاع تكلفة العلف في تفضيل المزارعين طحن القش على بيعه، ليبلغ المتوفر منه 100 جنيه للبالة بعدما كانوا يحصلون عليه مجانًا.