بعد سنوات من النزاعات الدامية في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان نتيجة سياسات التهميش التي عانى منها السودان في عهد الرئيس المعزول عمر البشير، وقع زعماء الحركات المسلحة اليوم الاثنين في جوبا عاصمة جنوب السودان، بالأحرف الأولى على اتفاق يشمل عدة قضايا محورية تكون بمثابة مسار للسلام تشمل منح السلطات المحلية حق تشريع قوانينها الخاصة، إضافة إلى تقاسم السلطة وإنشاء جيش وطني موحد، وهو الاتفاق الذي لا يزال قابل للتعديل أو إضافة أي من البنود عليه.

عدة بروتوكولات

بدأت محادثات السلام في أكتوبر من العام الماضي في جنوب السودان من أجل إنهاء النزاعات، ويتضمن الاتفاق عدة بروتوكولات تتعلق بالترتيات الأمنية وعلى رأسها انخراط الحركات المسلحة في الجيش الوطني السوداني، والقضايا السياسية والقومية مثل النازحين واللاجئين، تقاسم السلطة، العدالة والسلام والمساواة والمصالحة، الرعاة والمزارعين، والأرض، والتعويضات، تقاسم الثروة.

كان مسار دارفور الذي شهد العديد من المعارك الدامية، المسار الأهم في عملية المفاوضات تحت كيان الجبهة الثورية السودانية والذي ضم حركة العدل والمساواة، حركة جيش تحرير السودان، حركة تحرير السودان – المجلس الانتقالي، تجمع قوى تحرير السودان، والتحالف السوداني.

مُنذ قيام الثورة السودانية في ديسمبر 2018، وعزل نظام “البشير” كان حل المشاكل الأمنية ولم شمل جميع الحركات المسلحة تحت مظلة واحدة مطلب جميع السودانيين، وبذلك كانت قضية السلام أحد الأولويات منذ التوقيع على الوثيقة الدستورية ومباشرة الحكومة الانتقالية مهامها، كان تحقيق السلام هو المعضلة الرئيسية لتحقيق الاستقرار في السودان، خاصة وأن الحرب الدائمة في السودان كانت سببًا في انهيار الاقتصاد لسنوات طويلة، أنفق فيها النظام السوداني السابق أموالًا طائلة لتعزيز قواته الأمنية والسيطرة على المتمردين في مناطق متعددة من الأراضي السودانية.

قابل للاستدامة

الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، قالت في بيان صحفي بعد التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق الترتيبات الأمنية مع الحركة الشعبية شمال بقيادة مالك عقار، إن البروتوكلات الموقع عليها بالأحرف الأولى حتى الآن تؤدي إلى اتفاق سلام شامل وقابل للاستدامة، بينما يظل الحل السلمي عن طريق التفاوض هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام والأمن والاستقرار في السودان.

ورغم الترحيب الكبير من الحكومة الانتقالية والمجلس السيادي العسكري، بما توصلت إليه مفاوضات السلام مع الفصائل والحركات المسلحة، إلا أن عملية السلام لا تزال جزئية ولم تكتمل لرفض حركات محورية الاندماج في المفاوضات، خاصة الحركة الشعبية “شمال” جناح عبد العزيز الحلو، التي تمتلك قوات وتعزيزات أمنية وتسيطر على مناطق واسعة في منطقة جبال النوبة والتي انسحبت من المفاوضات احتجاجًا على رئاسة محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، وفد الحكومة المفاوض، بينما كان لـ”حميدتي” تاريخ طويل في قيادة ميليشيات الجنجويد المسؤولة عن الدمار وعمليات القتل التي شهدتها دارفور قبل 16 عامًا، فضلا عن رفض حركة تحرير السودان جناح عبد الواحد محمد نور، والتي لديها تأثير وتواجد قوي في دارفور ومناطق جبل مرة، الانخراط في المفاوضات.

 

بعد انسحابها من المفاوضات وفي أول رد فعل للحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو، على توقيع الحكومة بروتوكول الترتيبات الأمنية مع الحركة الشعبية جناح مالك عقار الأسبوع الماضي، قالت حركة “الحلو” إن “مفاوضات السلام في مدينة جوبا هي مُحاولة لتحقيق سلام جزئي لا يُخاطب جذور المشكلة السُّودانية، ولن يفضي لسلام حقيقي يُعيد الأمن والسلم والاستقرار”، وأكدت أن “الحكومة تُراوغ في محاولة لتجنب مناقشة القضايا الجوهرية وتتلكَّأ في التفاوض لشراء الوقت، وأن أي اتفاق سلام لا يخاطب جذور المشكلة، لن يكون سلاماً شاملاً ولا نهائياً”.

تفكيك النظام القديم

انتقادات “الحلو” للحكومة والمجلس السيادي تتركز في أنها عجزت عن تفكيك النظام القديم، وتحقيق الأمن والاستقرار، واستمرارها في إدارة البلاد بنفس العقلية القديمة التي تُقسم وتُفرق بين الشعوب السودانية، وتفرض رؤى الحكومات المركزية على حساب آمال وتطلُّعات المواطنين، حيث إن أهم أهداف الثورة السودانية كان تحقيق السلام الشامل والعادل الذي يمهد الطريق للتحول الديمقراطي والتعايش السلمي.

ووفقًا لمصادر سودانية تشارك في مفاوضات السلام المنعقدة في جوبا، فإن الاتفاقية النهائية تنص على أن تكون القوات المسلحة السودانية بعقيدتها العسكرية الجديدة هي التي تحمي الوطن والمواطن والدستور، وأن الجيش المهني هو الجيش الوطني الوحيد غير مسيس ويعكس التنوع العرقي في السودان، ودمج كافة القوات الأخرى المتواجدة في الأراضي السودانية في جيش وطني موحد.

كما نصت الاتفاقية على أن تتم عملية دمج مقاتلي الحركة الشعبية شمال مالك عقار، عبر ثلاث مراحل مدتها 39 شهرًا، على أن تكون عملية الدمج الكلية خلال 6-12 شهرًا، أي قبل انتهاء مدة الفترة الانتقالية.

وتضمنت بعض بنود الاتفاق تفعيل حكم ذاتي لمنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، على أن تقسم موارد المنطقتين بنسبة 60% للسلطة الفيدرالية و40% للمحلية، فضلاً عن منح 25% من مقاعد مجلس الوزراء ومثلها في التشريعي و3 مقاعد في المجلس السيادي للجبهة الثورية.

جيش وطني موحد

يتوقع مسئولون سودانيون أن تكون خطوة الاندماج في جيش وطني موحد هي الأبرز في تحقيق السلام الشامل، حيث قال ياسين إبراهيم ياسين وزير الدفاع في تصريحات صحفية على هامش الاحتفال بالتوقيع على اتفاق السلام، إن انضمام الجيش الشعبي شمال، والجبهة الثورية سيجعل القوات المسلحة أكثر تماسكًا وأكثر قوة وجاهزية لمواجهة كل مهددات الأمن الوطني السوداني، وقد يشجع الاتفاق فصائل أخرى متمردة على الانضمام إلى عملية السلام.

عقب توقيع اتفاق السلام، يتوقع مراقبون أن تتحول الحركة الشعبية من الكفاح المسلح إلى حركة سياسية تعمل في الساحة السياسية السودانية من أجل خلق وبناء دولة مدنية جديدة بعد إنهاء حالة الحرب، خاصة وأن الحركة الشعبية تفردت خلال المفاوضات باهتمامها بقضايا الترتيبات الأمنية وضرورة أن تكون القوات المسلحة السودانية، جيشًا واحدًا مهنيًا غير مسيس بعقيدة عسكرية جديدة تعكس التنوع، وينتمي للوطن لا لحزب.

بجانب المفاوضات حول البرتوكولات الأمنية مع الحركات المسلحة، أعلنت قوى إعلان الحرية والتغيير والجبهة الثورية المشاركة في مفاوضات جوبا، التوقيع على إعلان سياسي لإصلاح التحالف الحاكم، والذي يستهدف إصلاح مسار الثورة ومسار الحرية والتغيير، ومن المنتظر عقد مؤتمر تشارك فيه كل قوى الثورة عقب التوقيع على اتفاق السلام والعودة إلى الخرطوم.

ووفقاً للإعلان السياسي الذي وقعت عليه قوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية، والذي ضم حزب الأمة القومي وتجمع المهنيين السودانيين فإنه تم التوافق على العمل المشترك لمعالجة القضايا السياسية بما يحقق طموحات الشعب السوداني ودعم عملية السلام وصولاً لسلام عادل وشامل ومستدام، مع تطوير تحالف قوى الحرية والتغيير بتكوين أكبر قاعدة شعبية لعملية الانتقال على أن يتم ذلك عبر إعادة هيكلة تحالف قوى الحرية والتغيير ليستوعب أكبر قطاعات من قوى الثورة ووضع خارطة طريق متفق عليها لما تبقى من الفترة الانتقالية.

المرحلة الأصعب

ورغم حالة الاحتفاء والتفاؤل التي سادت أجواء احتفال التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق السلام في جوبا، تبقى المرحلة الأصعب هي تنفيذ بنود الاتفاق في ظل وجود تخوفات من إيجاد ضمانات حقيقية لتحقيق بنود اتفاق السلام واستدامة حالة التوافق بين الحكومة الانتقالية والمجلس السيادي العسكري والحركات المسلحة لحين الوصول إلى صندوق الانتخابات والتوصل إلى نظام ديمقراطي يدير السودان الجديد بشكل منفتح على المجتمع الدولي بعد صراعات وتاريخ طويل من التهميش والتدهور الأمني والاقتصادي والسياسي منذ عهد الرئيس المعزول عمر البشير، فضلاً عن استمرار معضلة توفير التمويل لتحقيق بنود الاتفاق والذي يقدر بنحو 10 مليارات دولار لعودة النازحين والعودة الطوعية للاجئين ودفع التعويضات في ظل عدم التزام المجتمع الدولي والمانحين في تمويل التحول الديمقراطي وعدم السلام.