علي الرغم من التطور الذي جرى في السياسيات المصرية، إزاء إفريقيا، واحتلال القارة وزنًا نسبيًا أعلي من فترتي حكم كل من الرئيسيين الراحليين أنور السادات وحسني مبارك، إلا أننا نشهد حالة تقوقع للإعلام المصري علي الشئون الداخلية المصرية، دون النظر إلى أهمية مواكبة السياسات الخارجية، لا على المستوى المحلي ولا المستويين العربي والدولي، فإفريقيا تحتل أهمية متزايدة إستراتيجيًا .
إعلامنا للأسف يبدو اهتمامه محدودًا بما هو خارج مصر، حتي ولو كان ملفًا بأهمية إفريقيا لمصر، وللمصريين الذين يربطهم بإفريقيا ليس فقط شريان النيل كما هو متداول، ولكن قضايا المصير والتقدم للشعوب الإفريقية بالمعني الذي أدركه جمال عبد الناصر ورفاقه الأفارقة علي أيام معارك التحرر الوطني ضد الاستعمار بمحتواه التقليدي أي العسكري المباشر، وبالمعني الذي انخرط فيه المصري توفيق دوس قبل جمال عبد الناصر ليؤسس مع رفاقه الأفارقه مانسميه اليوم بالجامعة الإفريقية، أو الأفريقيانية في بداية القرن العشرين.
قد يكون توفيق دوس، اسما مجهولًا في مصر، اإعتباره عاش مغتربًا في أروبا، لكن هذا الرجل له فضلًا في أن يكون لمصر إسهاما مؤثرًا في مؤتمرات الأفريقانية التي عقدت مع مطلع القرن العشرين وحتي منتصفه مابين لندن وباريس في محاولة لبلورة مفهوم فكري ونظري للمشتركات بين الأفارقة.
وإذا كانت مصر لا تحتاج إلى أطر نظرية لعلاقة قوية بالأفارقة في ضوء واقعها كدولة إفريقية، إلا أنها بحاجة إلى التأكيد علي الأطر النظرية المطروحة إفريقيًا والاهتمام بنشرها علي المستوى الداخلي عبر الإعلام المصري بكافة أنواعه ووسائله، وأيضًا في مناهجنا التعليمية، وذلك حتي نرتبط بشكل صحيح بمصالحنا التنموية والأمنية، والتي هي مع إفريقيا بامتياز، كما نستطيع أن ننجو ربما من ممارسات عنصرية ظهرت بين المهمشين المصريين تجاه نظرائهم من الأفارقة اللاجئين في مصر، وتسببت في مشاكل سياسية واجتماعية كان لها أثرًا سلبيًا على صورة مصر في الذهنية الإفريقية .
قد نكون فعلنا خيرًا حينما ساهمنا مع غيرنا في بلورة جزء من مقدمة الدستور المصري عام ١٩١٤، فيما يخص التأكيد علي المكون الإفريقي في الهوية المصرية، وكان ذلك بمبادرة عدد من المهتمين من بينهم مع الأستاذ حلمي شعراوي والدكتور حمدي عبد الرحمن، ومجموعة من الشباب علي رأسهم الباحث المرحوم محمد حجاج الذي فقده عن حق مجال الدراسات الإفريقية، والأستاذ خليل منون متعه الله بالصحة، والدكتورة إيمان البسطويسي والدكتورة عبير الفقي والدكتورة سحر إبراهيم .
فضلًا عن هذه المقدمة التي كانت ضرورية نحتاج في مص حاليًا وبشدة ربما لتعميق معارفنا كمصريين على المستوى العام بالأفريقانية، والتي ساهمنا في بلورتها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والتي تعد عمودًا من أعمدة الفكر الإفريقي، والتي أصطلح أيضًا علي تسميتها بالجامعة الإفريقية .
ويبدو لنا أن هناك مدرستين لتفسير نشأة أفكار الجامعة الإفريقية الأولي تراها نشأت في جنوب إفريقيا كرد فعل للاستعمار الكولونيالي البريطاني هناك، وكانت لها انعكاسات في جميع أنحاء القارة، بكافة إثنياتها العرقية سواء العربية أو الزنجية، فكما انعقد مؤتمر لندن للجامعة الإفريقية عام ١٩٠٠، انعقد المؤتمر القومي العربي عام ١٩١٣، ذلك أن جميع كانوا يسعون وراء المشتركات، حتي تتبلور وتكون هناك الرابطة التي تنهض عليها مقاومة الاستعمار.
أما المدرسة الثانية، فتري أن اللبنة الأولي لنشأة الجامعة الإفريقية هي أقدم من ذلك، وجاءت اعتمادًا علي المشترك اللوني، ليكون الرافع الأساس ضد الاستعمار في كل أنحاء القارة.
هكذا نرى أن العوامل الخارجية كان لها أكبر الأثر في نشأة أفكار الجامعة الإفريقية، حيث لعبت ظاهرتي الرق والاستعمار دورًا أساسيًا في تحفيز الأفكار لإيجاد المشتركات بين الأفارقة، حيث بدأت الرؤى والأفكار حول الهوية الإفريقية خارج القارة من جانب مفكري الديسابورا بما فيهم المصري توفيق دوس الذين وجدوا أن المعاناة المُستندة علي العنصرية هي أساس مناسب واتخذوا من اللون العامل المشترك للهوية الإفريقية.
وتحولت الأفكار النظرية حول الجامعة الإفريقية، إلى شكل مؤسسي منذ عام ١٩٠٠ حيث انعقدت خمس مؤتمرات للجامعة الإفريقية حتى مؤتمر مانشستر عام ١٩٤٥ ثم انتقلت الجامعة الإفريقية، داخل القارة اعتبارًا لهذا التاريخ ليصبح لها مفكريها الأفارقة الموجودين بالقارة، لتتطور علي المستوى النظري والفكري لتشمل مشتركات أخرى غير اللون بين الأفارقة خصوصًا مع بروز اختلافات حول ماهية الإنسان الأسود؟، ولعل هذه الخلافات كانت السبب الأساسي في الانحياز إلى مشتركات أكثر رحابة من مجرد اللون، خصوصًا أن التحديات التي يواجهها أبناء القارة مجتمعين كانت واحدة تقريبًا، وتتمحور حول المُعاناة الأساسية وهي استغلال الغرب للقارة وأبنائها بأساليب مُختلفة، بدأت باستعباد البشر، مرورًا بالاستعمار المادي والفعلي للقارة، ثم تقسيمها إلى دول طبقًا للمصالح الاستعمارية، وأخيرًا نهب ثرواتها بآليات الشركات العابرة للجنسية والتي تُمارس حاليًا عمليات منتظمة من إفساد بعض النخب الإفريقية لتستطيع الحصول على الموارد الإفريقية بعوائد غير عادلة.
كما تتعامل أفكار الجامعة الإفريقية، مع أزمات الاندماج الوطني في الدول المستقلة، والتي نتجت عن الانقسامات الإثنية والثقافية والدينية في بعض دول إفريقيا، والتي تسببت في حروب أهلية، هي السبب الرئيسي اليوم في ضعف وهشاشة كثير من الدول، ولعل حالتي السودان ونيجيريا على سبيل المثال لا الحصر نموذجين ممثلين لما نقول، وهكذا كان هناك حاجة للتعامل مع هذه الانقسامات الداخلية، بوحدة عابرة لها وهي الانتماء الإفريقي الجامع كما عبرت عنه أفكار ونظريات الجامعة الإفريقية.
ويمكن القول أن الجامعة الإفريقية، شكلت الرافعة الأساسية، والأساس الفكري والنظري لحركات التحرر الوطني في إفريقيا اعتبارًا من منتصف القرن العشرين، حيث أصبح كل من لومومبا وجمال عبد الناصر وسيكتوري ونكروما وغيرهم زعماء لحركات التحرر الوطني، والآباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية التي نشأت عام ١٩٦٣ كرباط مؤسسي يملك فاعلية أساسية في تحويل أفكار الجامعة الإفريقية إلى سياسات تأخذ بعين الاعتبار المصالح الإفريقية كمحدد أول وأساسي لتوجهات هذه المنظمة القارية.
اليوم تجددت مقولات الأفريقانية في مواجهة عمليات النهب الاستعماري لموارد القارة الإفريقية، والتبعية السياسية لدول الاستعمار والتي لم تتخلص منها نخب الاستقلال الوطني علي مدى النصف قرن الماضي، فإذا كانت الثروات نهبت بالأمس من إفريقيا بالدبابات فإنها اليوم تنهب بأدوار ملتبسة ومشبوهة للشركات متعددة الجنسية، التي لاتطبق في عملها بإفريقيا قواعد دول المنشأ من إفصاح وشفافية، لكنها تعتمد علي آليات الإفساد المالي لضمان نهب الثروات .
إزاء هذا الواقع المؤسف، ربما يعد من مؤشرات الصحوة الإفريقية الجديدة تجاه دول الفرانكو فون مؤخرًا للتخلص من ربط عملاتها بفرنسا والسعي لإصدار عملات جديدة، وظهور نخب إفريقية شابة تدعو إلى بناء المشتركات الإفريقية، وحل المشكلات الإفريقية في البيت الإفريقي.
هذه الصحوة الإفريقية نبدو بعيدين عنها، فللأسف الإعلام المصري يترجم منتج المنابر الإعلامية الغربية، فقط ويغيب عنه المنتج الإفريقي، كما لم تنجح محاولات النشر المتبادل بين الكتاب المصريين والأفارقة التي سعينا وراءها،
من هنا أظن أن علينا في مصر أكثر من أي وقت مضي أن نتعرف وننخرط في النقاش الإفريقي العام حول كافة قضايا القارة، وفي كل المجالات وإلا يكون التفاعل مع هذه القضايا في الإطار الرسمي فقط أي عبر الحكومة، وعلاقتها مع النظراء من الحكومات الإفريقية الأخري ، ولكن من الأهمية الكبيرة في هذه المرحلة أن تقوم المنابر الإعلامية المصري بواجب ترجمة ونشر الخطاب الأفريقي علي المستوي السياسي والثقافي ليتفاعل معها الجمهور المصري ويعرف كيف يفكر أشقائه ، ماهي مشاكلهم وماهي طموحاتهم والي أي حد نتقاسم معهم هذه المشاكل، وتلك الآمال .
في السياق نفسه يقصر الإعلام المصري في نقل وتغطية الفعاليات الإفريقية في مصر، سواء في مهرجان السينما الإفريقية أو في فعاليات المجلس الأعلي للثقافة، أو حتي نقل فعاليات المجتمع المدني الأفريقي علي الشاشات وواجهات المواقع الإلكترونية.
في هذا الواقع المصري، تبدو أي مبادرات من المنابر الإعلامية أو مجتمعات المجتمع المدني فعل مطلوب بشدة اليوم كي نجيب معًا كأفارقة علي أسئلة المستقبل، وكيف نصنعه ليحقق لنا تقدم ورفاهية لعموم الناس في القارة بعد أن أشقاهم الاستعمار.