الكوسة، فيتامين واو، المحسوبية”، تتعدد الأسماء والمعني واحد، فلا يمكن التغافل عن حقيقة تجذر مفهوم الواسطة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بداية من الشئون السياسية وصولًأ لتوفير السلع، ومع التدقيق في الأمر يتضح أن “الواسطة” لا تقتصر علي المؤسسات أو الإداريات العامة أو الخاصة، بل تعاطي الغالبية مع المعني وكأنه جزء لا يستقيم الكل إلا به، غاضين الطرف عن الأثار السلبية لتفشي ظاهرة “المحسوبية” علي السياسات الاقتصادية والاجتماعية .

تتخذ الواسطة، أشكالًا متعددة وطرًقا مختلفة لتصب في النهاية في نفق واحد وهو الرغبة في الحصول على منفعة أو مصلحة قد تكون بحق أو من غير حق، وأبرز أشكال الواسطة تتجسد في استغلال صلة القرابة والصداقة لمنفعة شخصية؛ مما يهدد الصالح العام في مقابل المصالح الخاصة وينشر معاني الفساد بالمجتمع.

تُشير إحدى الروايات إلى أن استثناء تجار “الكوسة” من قرار منع دخول مدينة القاهرة في عصر المماليك والفاطميين والتي كانت تقفل أبوبها ليلاً هو سبب ظهور مصطلح الواسطة

نشأة الواسطة

يعود أصل مصطلح “واسطة” للعصور الوسطى، حيث كان بعض البابوات والأساقفة الكاثوليك من الذين قطعوا عهود الرهبنة يربون أبناءهم غير الشرعيين مدعين بأنهم أبناء أخواتهم أو إخوانهم وكانوا يفضلونهم في التعامل على الناس الآخرين، وغالباً ما كانت مثل هذه التعيينات لإقامة ما يشبه “عوائل مالكة” تحتفظ بكرسي البابوية.

بينما التعبير الدارج في بريطانيا لوصف المحسوبية هو “بوب هو عمك”، ويرجع أصل المقولة إلى الفترة التي كانت فيها روبرت سيسل، رئيس الوزراء حينها، وقام بتعين ابن أخيه آرثر بلفور في منصب رفيع، ومازال التعبير متداول حتى الآن.

وتُشير إحدى الروايات، إلى أن استثناء تجار “الكوسة” من قرار منع دخول مدينة القاهرة، في عصر المماليك والفاطميين، والتي كانت تقفل أبوبها ليلاً، بسبب ما يعرف عن هذا الثمر من تلف سريع، ومع مرور الوقت أطلق المصريون على كل ما هو سريع، وغير متقن، وخارج عن القانون “كوسة”.

صرح 17% من المواطنين العرب بأن الفساد هو أهم تحد يواجه بلدانهم

المحسوبية
المحسوبية

مؤشر الفساد

كشـف مؤشر مدركات الفساد للعام  2019، عددًا صادمًا مـن الدول التي تقـوم بقليل مـن التحسينات أو لا تقوم أبدًا بأية تحسـينات فـي سـبيل معالجـة الفسـاد، إذ تصدرت الصومال وجنوب السودان وسوريا، المؤشر، حيث أسندت لها درجات 9و 12و13 على التوالي، ويتبع هذه الدول اليمن والسودان .

وتحت عنوان “الفساد: غزو آخر للكويت”، ذكر تقرير صادر عن مؤسسة “كارينغي” للسلام الدولي، أن الواسطة تنتشر علي نظاق واسع في المنظومة العامة بالكويت، اذ يعتبر الكويتيين هم أكثر من ذكر الواسطة بين شعوب الخليج كشرط مسبق للحصول على وظيفة، فيما احتلوا المرتبة الثالثة في هذا المجال بين شعوب الشرق الأوسط، بحسب صندوق النقد الدولي.

وأشار التقرير، إلى أن المحسوبيات متوغلة أيضاً في القطاع النفطي الحيوي في الكويت، وكذلك في التوزيع غير القانوني للأراضي الزراعية التابعة للدولة، موضحًا أن تقبل الواسطة باعتبارها أمراً روتينياً عادياً أتاح لممارسات منحرفة صغيرة نسبياً أن تتحوّل كما كرة الثلج إلى قضايا فساد كبرى.

وصرح 17% من المواطنين العرب بأن الفساد هو أهم تحد يواجه بلدانهم، في حين ذكره 19% في المرتبة الثانية على قائمة أهم الأسباب، وفق استطلاع راي لـ “الباروميتر العربي”،وهي شبكة بحثية مستقلة، ومن ناحية أخرى، يعتبر الفساد في كل من العراق والكويت قضية أكثر إلحاحاً من الظروف الاقتصادية، حيث وصفه 32% من العراقيين و 42% من الكويتيين باعتباره التحدي الأهم.

ولا يقتصر الأمر علي الكويت أو العراق، حيث تصدرت لبنان أغلب مؤشرات الفساد، إذ يرى 87% من اللبنانيين أن أداء الحكومة متخاذل في مواجهة الفساد، مقابل 13% قالوا إنهم راضون عن أداء الحكومة.

كذلك كان لبنان الأعلى في اضطرار مواطنيه لدفع رشى، إذ قال 41% من المشاركين اللبنانيين إنهم دفعوا رشاوى لتلقي خدمات أساسية أو حكومية، وتلاه المغرب بمعدل 31%، ثم السودان بمعدل 24%، بحسب منظمة الشفافية الدولية.

وأفاد تقرير أمريكي سابق صدر عن دائرة الأبحاث في الكونجرس، بأن هناك استخدام واسع النطاق لما يسمى بالواسطة في الأردن، والكثير من الشباب الأردني لديهم شعور متنام بالإحباط ويشيرون الى أن تأثير الواسطة بيدا بأنه يضيع فرصا على الاقتصاد.

ومما يزيد الأمر سوءً عدم تكافؤ فرص الحصول على الوظائف، حيث يسود اعتقاد بأن استخدام الواسطة في الحصول على وظيفة يمثل أحد أشكال الفساد بنسبة 83%، وبالمثل يعتقد عدد كبير حوالي 88% على مستوى المنطقة بأن الحصول على عمل من خلال الواسطة يحدث غالباً أو في بعض الأحيان.

أما نشطاء حقوق الإنسان، اعتبروا الفساد انتهاك لأهم مبادئ حقوق الإنسان وهو المساواة.

علماء النفس والاجتماع، إلى أنه للواسطة آثار نفسية ومجتمعية مدمرة علي مستوى الأفراد والمجتمعات

المحسوبية
المحسوبية

الرشوة الاجتماعية

“الوجه الآخر لجريمة الرشوة”، هكذا اعتبر المختصين، الواسطة بينما وصفها آخرون بـ”الرشوة الاجتماعية”، رغم عدم تجريمها، إذ تعد وسيلة لتسهيل بعض الخدمات، لغير المستحقين غالبًا أو بسبب قرابة لأحد الأشخاص أو المسئولين، وهو ما يخالف مبدأ تكافؤ الفرص.

وأشار علماء النفس والاجتماع، إلى أنه للواسطة آثار نفسية ومجتمعية مدمرة علي مستوى الأفراد والمجتمعات، إذ تتجاوز في خطورتها أشد المهن فسادًا كتجارة المخدرات والسلاح، فهي تؤثر بشكل مباشر علي القيم والإنتاجية بالمجتمع.

وتؤكد سامية خضر، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، أن “الواسطة” مفهوم متجذر في أغلبية الشعوب، إلا أنه متفشي في الشعوب العربية نظرًا للظروف الاقتصادية والأعراف والتقاليد وغيرها، فهي أشبه بـ”السرطان المجتمعي”، فمع تكرار الأمر أصبح من المسلمات به ولا يعاب في شيء، مشيرة إلى أنه له نتائج كارثية علي المجتمع.

وتُعدد “خضر”، النتائج المترتبة علي تفشي ظاهرة الواسطة في المجتمعات العربية، ومنها سيادة المناخ السلبي والتميزي بين المواطنين، ذلك بجانب الضغوط النفسية التي تمارس على الأشخاص ذو الكفاءة بالفعل، وتوغل اليأس والمشعر الحقد والكراهية بين أبناء المجتمع، لعدم حصولهم على فرص مستحقة، ما يدفع الكثيرون للجوء الي طرق مخالفة للقوانين، وما يترتب عليها من زيادة معدلات الجريمة والرشوة.

وأرجعت أستاذة علم الاجتماع، تصدر البلدان العربية لمؤشرات الفساد وانتشار “الواسطة”، إلى سيطرة الأعراف والتقاليد على المجتمعات أكثر من القوانين، حيث يعتبرها البعض نوع من الواجهة الاجتماعية والتفاخر.

يشكل الفساد وما يندرج تحته من واسطة ورشوة ومحسوبية واستغلال للسلطات، عائقًا وتحد كبير أمام النمو الاقتصادي

المحسوبية
المحسوبية

عائق اقتصادي

من الناحية الاقتصادية، فيشكل الفساد وما يندرج تحته من واسطة ورشوة ومحسوبية واستغلال للسلطات، عائقًا وتحد كبير أمام النمو الاقتصادي، حيث يؤدي إلى زياده تكاليف النشاط الاقتصادي وهروب المستثمرين وتخفيض عائدات الحكومة من السلع  والخدمات الاساسية  واعاقة الإدارة المالية السليمة، كما يروج لفكرة عدم سياده القانون .

وتُشير دراسات حديثة، إلى أن الدول التي تحترم سيادة القانون وتسود بها الشفافية وآليات قويه عن حريه التعبير عن الرأي والمسائلة تتمتع بمستويات اقل من الفساد ومستويات اعلى من اجمالي الناتج المحلي.

“مسألة الواسطة أسلوب حياة في المجتمعات العربية”.. أحمد خزيم، الخبير الاقتصادي

الفساد

ويري أحمد خزيم، الخبير الاقتصادي، أن مسألة الواسطة “أسلوب حياة” في المجتمعات العربية، مشيرًا الي أنها لها اثار سلبية عديدة علي الاقتصاديات الوطنية، مرجعاً ابرز أسبابها الي ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وقلة فرض التوظيف في المنطقة .

وأضاف خزيم، أن ضعف شفافية الإجراءات المتعلقة بالخدمات المقدمة للمواطنين، فضلا عن أن هناك علاقه طرديه بين الاستبداد و الفساد بكافة اشكاله، لافتا الي أن تفشي الظاهرة يؤدي الي عدم فعالية ادارة  وتوزيع الموارد ومصادر تمويلها، وزيادة معاناة الفقراء والمهمشون، وهجرة الكفاءات.