عقب الحرب الأهلية الأمريكية (والتي كانت كما يزعمون من أجل إنهاء عصر العبيد والإقطاع، خاصة في ولايات الجنوب) قال أحد (العبيد) الذين (تحرروا ) ساخرا من فحوى الحرية التي وهبوها إياه، كنت عند سيدي أجد احتياجاتي الأساسية، أجد المأكل والمشرب والمأوى، أما الآن فأنا أناضل من أجل تأمين هذه الاحتياجات، وفي أحيان كثيرة اتنازل عن حريتي وأكثر، من أجل تأمين هذه الأشياء التي كانت تبدو بسيطة أو غير مهمة، فلقد ظن الناس أن التحرر من الإقطاع والعبودية هو السبيل إلى السعادة، ليفعل الإنسان ما يريد، وقتما يريد، دون قيود من أحد، فعلى ما يبدو أنهم قد أصبحوا سادة أنفسهم، والمتحكمون في حياتهم، ولكن يبدو(كما أدرك هذا العبد) أن هذا لم يحدث، إذ في واقع الأمر أصبحت الحرية بالنسبة له لا تعني سوى العمل أو الموت جوعا، بل وأصبحت تعني القلق وعدم الأمان بالنسبة له ولغالبية البشر، وبينما الحال على هذا النحو يفاجئنا (عبد) آخر بمقولة تبدو صادمة أكثر من سابقتها إذ يقول: لم يتحسن شئ في حياتي ولم أصبح حرا كما يدعون، فقط تمكنت من تحسين شروط عملي، ولكني مازلت أكدح من أجل توفير احتياجاتي الحيوية الأولية.

ما الذي يمكن أن تعنيه مقولات من هذا النوع لأشخاص ذاقوا مرارة الحرمان من حريتهم بالمعنى الوجودي للكلمة، إذ كانوا مملوكين لآخرين قانونيا واجتماعيا، وما الرسالة التي يمكن أن يبعثها لنا أناس عاينوا الخروج من العبودية إلى تحطيم قيودها، وما التساؤلات التي يمكن أن يطرحها علينا موقف من هذا النوع … هل يمكن لنا أن نقول أن النظام المفروض على البشر منذ الخروج من الإقطاع إلى (رحابة) النظم الحديثة لا يقل عبودية عنه، حيث لا يمكن لنا قياس الحرية بما يحدده المجموع لنا ويفرضه علينا، وما هومتاح لكل فرد منا، وما هوغير متاح، فقدرة الفرد على اختيار سادته لا تنفي أو تلغي واقع أن هناك سادة وهناك عبيد، في حين تعني الحرية ما يستطيع الفرد اختياره، وما يختاره بالفعل.

شهد الاتحاد السوفييتي، وما عرف بالكتلة الشرقية إبان حقبة الثمانينيات تقلبات مهمة وظواهر جديدة، فالصحافة السوفييتية تبدأ في نشر مقالات نقدية عن الحقبة الستالينية. والصحفيون والمؤسسات الصحفية تتمكن عبر نضالهما اليومي من توسيع مساحة الحريات الصحفية، وقد أعيد تنظيم مجلس مفوضي الشعب والمجلس السوفييتي الأعلى وسمح بانتخاب أعضائهما في   روسيا والجمهوريات السوفييتية الخمسة عشر وعلى المستوى المحلي كذلك. يعلن إصلاحيون من حزب العمال الاشتراكي عن تخطيطهم لإقامة انتخابات حرة ومتعددة الأحزاب في هنغاريا، أما في بولندا فقد تم عقد اتفاق على تقاسم السلطة بين حركة التضامن العمالية وحزب العمال البولندي الموحد بعد انتخابات (شبه حرة). مئات الآلاف من ألمانيا الشرقية (الشيوعية) يفرون إلى ألمانيا الغربية (الليبرالية)، وهو ما قاد إلى أزمة أدت إلى انهيار (حائط/جدار برلين، وزوال ألمانيا الشرقية. تسبب انهيار جدار برلين في سقوط الشيوعيين في بلغاريا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا، وبدأت دول “حلف وارسو” في الانسحاب من الحلف تدريجياً. وأخيراً وفي العام 1991 إعلان جميع البرلمانات المنتخبة في جمهوريات الاتحاد السوفييتي عن سيادة حكوماتها على أراضيها، وبالتالي  الإعلان عن تفكك الاتحاد السوفييتي رسمياً في ديسمبر من العام نفسه. وفي العام 1992 صدر كتاب (نهاية التاريخ) لـ “فرانسيس فوكوياما”. وسائراً على خطى الفيلسوف الألماني “هيجل” استعمل “فوكوياما” المنهج الجدلي/المثالي باعتباره قوة دافعة خلف حركة التاريخ البشري، وعلى حد زعمه أن هذا التاريخ ليس مجرد سجل للأحداث بل عملية ارتقاء متواصلة للفكر البشري. وقدم عبر صفحات الكتاب ملحمة (انتصارية ليبرالية) فيما بعد حقبة الحرب الباردة تعلن عن انتصار “الليبرالية” ويعلن أن ما هي إلا لحظات لتدخل دول ومجتمعات العالم في الديموقراطية تباعا.

ومنذ هذه اللحظة (انهيار الاتحاد السوفييتي) وعلى مدار عقد من الزمان عقب انتهاء ما سمي بـ”حقبة الحرب الباردة” والولايات المتحدة الأمريكية تنصب نفسها السيد على العالم، والوصي عليه، على حد قول “جاك دريدا”، وتهيمن نظرا لغناها ونفوذها التقني والعلمي والعسكري على المؤسسات الدولية، وخاصة مجلس الأمن، وتصدر باسمه القرارات، على الرغم من أنها لا تحترم، وبشكل لا تعاقب عليه لا حروف ولا روح قرارات هذه المؤسسات، وفي أجواء الهيمنة واحدية القطب من قبل “أمريكا” الظاهؤة للعيان تأتي أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتعلن انتها حقبة، وبدء حقبة عالمية جديدة، تشهد حروبا عبثية تحت دعوى محاربة الإرهاب، وقرارات دولية ومحلية تحد من الحريات الشخصية، ويعود الاستعمار في شكله القديم، وتتضاعف سيطرة “الإعلام” على المشهد، وهو ما يعني السيطرة على قلوب وعقول ملايين البشر، ومن ثم تصبح الديموقراطية مجرد ديكور/ثنوجرافيا لمشهد الهيمنة الأمريكية، وهيمنة رأس المال.

يطرح منظرو الرأسمالية مقولة يؤكدون من خلالها على أن (اقتصاد السوق) الذي يسيطر عمليا ونظريا على العالم، ويعد المرجع الرئيسي للمجتمع البشري، يمتلك عقلا خاصا يذهب بالعالم نحو (سوق عالمي متجانس) و(عقلاني) قادر على أن يؤمن بدوره احتياجات البشر دون تمييز، وعلى السياسة أن تمارس دورها في حفظ استقلالية وعقلانية هذا (السوق). ويبدو هذا الطرح وكأننا أمام عالم مثالي يحكمه ” عقل كلي عادل” لا يفرق بين البشر، ويضمن لهم جميعا السعادة والرفاه دون تمييز، وإذا ما تمكننا من استبعاد السياسة والايديولوجيا يبدو الأمر أننا أمام (علم موضوعي محض) وعقل مستقل قادر على إدارة شئون العالم.

بيد أننا في اللحظة ذاتها، إذا ما نظرنا إلى واقع العالم في العقود الخمس الماضية، التي تمكن فيها (اقتصاد السوق) من السيطرة، حيث حقق انتصارات حاسمة نلحظ أن التناقض بين النظرية والواقع تناقضا حادا وظاهرا للعيان. حيث يسيطرنسبة قليلة من سكان العالم على مجريات الامور به، فهم يلكون المال والنفوذ والسلطة، بينما يعيش الغالبية الساحقة تحت وطأة شروط النظام الرأسمالي العالمي الذي يمكن أن نعده بطمأنينة نسخة “محسنة” من النظام “العبودي“.

وبينما يتحدث منظرو الرأسمالية العالمية بكلماتهم الأنيقة حول السعادة، والرفاه، والحرية لجميع البشر، يموت ملايين الأطفال في نزاعات مسلحة وحروب تصنعها وتمولها وتغذيها الرأسمالية العالمية، كما يموت ملايين الأطفال من جراء أمراض كان يمكن علاجها، ويعيش الملايين تحت وطأة شروط حياتية قاسية في ظل المجاعات، والتلوث، والتهديدات اليومية، وعلى الجانب الآخر يعيش ملايين البشر في ظل شروط النظام الرأسمالي المجحفة، مهددين بالخروج من النعيم في حال لم يتمكنوا من الالتزام الصارم بشروطها ومحدداتها التي تستهلك حياتهم ماديا وروحيا.

إن هذه الانتصارات المتلاحقة للرأسمالية في نسختها “المتوحشة” تطرح بديلا أيديولوجيا واحدا، تروج له وتقدمه بوصفه الرؤية التي تعبر عن “نهاية التاريخ”. فبعد الحديث عن “نهاية القومية” من خلال “نهاية التاريخ والجغرافيا”، تطرح الرأسمالية نهاية “الايديولوجيا” ومن ثم نهاية السياسة، كي يصبح الحاكم الأوحد للعالم دون انحياز ودون “قدرة على تغييره” هو (اقتصاد السوق) بما يملكه من (عقل كلي) كامن يسيطر على العالم في محاولة أخيرة للمنتصر لتمكين “اليأس”، وتثبيت “هندسة الخضوع” للسيطرة على كافة أدوات التغيير والمقاومة. ومن ثم إلزام البشر جميعا بهذه الرؤية. والإعلان عن نهاية “الايديولوجيا” وإخضاع الثقافة والفنون مثلما تمكنوا من السيطرة على “الإعلام ووسائله المختلفة”. ومثلما تمكنوا أيضا من السيطرة على التعليم وأدواته المتنوعة عندما تمكنوا من تحويل “المؤسسات التعليمية” لمصانع لإنتاج “آلات بشرية” خاضعة وخائفة.

ويأتي العام 2008 ليعمق أزمة النظام العالمي الجديد من خلال انهيار أسواق المال العالمية وتسارع (المؤسسات المملوكة للدول) لنجدة (الشركات) في حدث كاشف لطبيعة العلاقة بين السياسة ورأس المال، ومنذ هذه اللحظة والأزمة السياسية/الأخلاقية للنظام العالمي تتعمق لتعبر عن مشهد جديد وغرائبي في الآن ذاته وحضوره مغاير هذه المرة، فعلى الرغم من كثافته فإنه لم يتم استدعائه عبر نص أدبي أو فلسفي يطرح تفسيرا (ميتافيزيقي) للعالم، بل عبر (حدث) في العالم. حدث هو في صميمه تجليات لمأساة تقليدية، وكأنها “تراجيديا” مكتملة الأركان صنعها “سوفوكليس” على عجل، يصر بطلها على الذهاب إلى قدره المشئوم باصرار مجهول المصدر، ولكنه بخلاف ما يرى “دريدا” في أي (نص) من النصوص، لا يحتمل كثيرا من (الألغاز المفخخة) التي تخفي أسراره عن المتأمل للوهلة الأولى، بل (حدث) يسلم نفسه ببساطة ساذجة لمن يسعى إليه، ويخبره في خجل مصطنع، بأن أبطاله مدفوعو إلى الهاوية، وعازمون على استقبال مصيرهم دون مقاومة.

يقول “جورج لوكاش”: تبدو تبعية الفلسفة في تطورها وتخاذل مواقفها إزاء (الصراع الطبقي) غير عقلانية، حيث تتقلص بمرور الوقت المساحات المتروكة لإنشاء فلسفة (حقيقية)، وهو ما يسمها بطابع تقريظي- ديماجوجي، الأمر الذي يفسر الانخفاض (المحتوم) لمستواها ويجعلنا نتفهم دون دهشة كيف استطاع “هتلر” ببساطة من خلال الابتذال الديماجوجي لكل موضوعات الفكر الفلسفي “البرجوازي” أن يمثل (التتويج) الايديولوجي والسياسي لتاريخ (اللاعقلانية) في الفلسفة الغربية. وأتساءل. ما الذي سمح لليمين “المتطرف” النفاذ إلى داخل المجتمعات الغربية واحتلال مساحات في الفضاء الاجتماعي والثقافي، ليس هذا فحسب بل والتنفذ في فضاءات صناعة السياسة وغرف اتخاذ القرار … وهنا .. قد يصبح “ترامب” مجرد (علامة) وتتويج محتوم لماهو قادم خلال سنوات قليلة ليعيد للأذهان مرحلة ظنها كثير من المفكرين الغربيين مضت دون رجعة، بينما هي تتخلل طبيعة التكوين الفكري “للذهنية البرجوازية” وطبيعتها (اللاعقلانية(. بينما يكشف “بيير بورديو” الأمر بوضوح بأن شروط الحياة في ظل المجتمعات الحديثة هي نفسها شروط الإنتاج الاجتماعي في الرأسمالية الجديدة، والتي تموضع الدولة في فضاء “ملغز” حيث ترى البشر ولا تراهم في الوقت عينه، تراهم بينما تضع سياسات اقتصادية واجتماعية وثقافية …الخ من شأنها إفقارهم على كافة المستويات، ولا تراهم بينما “يتفككون” في واقع قاس وحاضر لا أفق له، وعلى هذا النحو يبدو العنف في مستواه الظاهري وكأنه عنف فردي، محكوم بعلاقات فردية، بينما_ وفي لحظة ما_ سيتكشف بوضوح مستواه العميق والذي يتجلى في عنف سياسات الدولة وشروط الإنتاج.

لقد قامت الدولة الحديثة تأسيسا على مفهوم (العقد الاجتماعي) الذي بدا للوهلة الأولى مفهوما افتراضيا من الناحية التاريخية، بينما بدأت ممارساته العملية عبر الآليات الديموقراطية التي أخذت تتعين وتتشكل تباعا، والتي أتاحت للفرد (المواطن) حق اختيار من يحكمه وحق محاسبته وفق آليات مؤسسية تم الاتفاق عليها واعتمادها اجتماعيا وسياسيا، ومع تطور هذه الممارسات السياسية والديموقراطية بدأ يتشكل  في الفراغ  الاعتباري (مجالا عاما) ما بين (الفرد) و(الدولة) يشكل فضاء اجتماعيا/ثقافيا تعول عليه مؤسسات المجتمع كثيرا عبر مساحات للتعبير عن الرأي تسمح للمواطننين بتنظيم أنفسهم، وعبر مساحات للفعل تسمح بتشكيل تنظيماتهم التي تتيح لهم التعامل مع ممارسات مؤسسات الدولة من ناحية، ومؤسسات المجتمع من ناحية أخرى في إطار من السلم الاجتماعي ومن خلال فعل الديموقرطية، فمن خلاله يستطيع المواطنون أن يكونوا خارج الدولة  بوصفهم ناقدين ومراقبين لها، إذ يعبر المجال العام عن المصالح والمشاعر على مستوى الخاص، وعلى المستوى المجتمعي عبر أشكال تنظيمية متنوعة، ويضفي قدرا من الاتساق على المشاعر المتفرقة، ويمنح قوة (جمعية) للرؤى الفردية المبعثرة والمشتركة في آن واحد. ومن ثم يسمح من خلال تنويعاته المختلفة بتيسير وإدارة الصراع الاجتماعي إدارة سلمية بعيدا عن العنف عبر آليات ديموقراطية ويرسل رسالة الى الحكام تتعلق بالإرادة الجمعية للفاعلين الاجتماعيين المستقلين تعبر عن اتجاهات (الرأي العام).

فالمجال العام ينشأ في إطار الظرف التاريخي الذي يمر به المجتمع، ويتشكل وفق صراعات اجتماعية ويتيح أدواته السلمية والديمقراطية لإدارة هذا الصراع، مثلما يسمح للمواطنين بالدخول في أشكل تضامنية مع بعضهم البعض سواء اقتصاديا أو ثقافيا أو اجتماعيا، ومن هنا تتجلى ضرورة المجال العام بوصفه عنصرا رئيسا من عناصر العقد الاجتماعي الذي أصبح يتم صياغته فعليا باتفاق شفاهي وكتابي بين الحاكم والمحكوم (الدستور) بحيث يصبح هو المرجع النهائي عند الاختلاف فيما بينهم، ويتم احترام بنوده من كل الأطراف.

ومن هنا فإن أية محاولة لغلق هذا الفضاء العام، من خلال قوانين مجحفة، أوعبر ممارسات تسلطية بغرض مصادرته لصالح مؤسسات الدولة، التي تمثل طرفا واحدا من أطراف (العقد الاجتماعي) سينعكس بالسلب على المجتمع، وعلى مؤسساته المختلفة، بل تمتد التداعيات السلبية لتشمل مؤسسات الدولة التي ستصبح عاجزة عن التعرف على اتجاهات المجتمع، ومن ثم إدارة صراعاته، بالإضافة إلى خسارتها لقوة داعمة لا يستهان بها من خلال تراجع آليات التضامن الاجتماعي لفئات اجتماعية لن تتمكن الدولة عبر مؤسساتها المختلفة من توفير الموارد الكافية لمساندتها.

يمتلك “المجال العام” اعتبارات ذات دلالة على المستوى الخاص والعام، ويؤدي عبر وظيفته الذرائعية دورا هاما، يدعم من خلالها “السلم الاجتماعي” عبر توفير أدوات سلمية متنوعة للممارسة الديموقراطية وإدارة الصراع، ويسهم في تطور المجتمع من خلال التنوع الثقافي الخلاق، والاختلافات الفكرية الداعمة لتقدم المجتمع. تضمن كفالة الحقوق لكل المواطنين دون تمييز، والحفاظ على استمراريته وضمان مستقبل أفضل لأجياله، بينما تؤدي هذه الإجراءات التعسفية إلى خسارات فادحة ومآلات كارثية تعرقل نموه وتعوق استقراره.

يتغول الهامش على المتن، وتعاقب الأطراف تسلط المركز، يأتي المغمور ليحتل صدارة المشهد، ويفرض سطوته التي كانت لوقت قريب تتجاهلها “النخب” القابعة في بؤرة الحدث. تأتي الثقافة المطمورة والمهمشة والمهجورة لسنوات لتستنشق هواء الحداثة (المتوهمة) التي صاغها أسلافنا تحت وطأة الصدمة والانبهار، والتي تبناها نخبة صنعها (الحاكم) بعطاياه السخية. تتصدر مقولات لا تحوي سوى (سذاجة وسطحية) عناوين الأخبار، وتحويها كتب هي الأكثر مبيعا. وبينما يتقدم العلم بفروعه المختلفة من خلال قفزات هائلة، وتتزايد حجم المعلومات والمعارف باطراد غير مسبوق يحتل اليمين المتطرف قلوب ملايين البشر ويسيطر على عقولهم عبر التكنولوجيا الحديثة وتطبيقاتها المتطورة.

من سنوات قليلة مضت كان من المؤكد أن تتعامل النخب الثقافية والسياسية مع أحداث تجري في اللحظة الراهنة بوصفها (حدث مستحيل) أو على أقل تقدير (نكتة سخيفة) بدءا بفوز “دونالد ترامب” برئاسة أمريكا، ذلك الرجل القادم من أروقة فنادق (صالات القمار) ومحافل تنظيم مباريات (المصارعة الاستعراضية) والذي لا يختلف كثيرا عن سياقات شبيهة سابقة قد أتت بشخصية إجرامية (كما يزعم التاريخ الأمريكي) مثل (دون كوروليوني) الذي يعتبره الشعب الأمريكي عدوا لهم، أو هكذا أرادت صناعة الإعلام في حينها أن تصوره، ذلك الرجل الذي تتناقض رؤيته العامة مع أبسط (القيم الإنسانية) أصبح يحتل دفة قيادة العالم (الحر). وانتهاء بتصريح أحد (نواب) الشعب المصري بأن كتابات (نجيب محفوظ) كتابات اباحية يستحق عليها العقاب.ولا يبرأ العالم بدوله (المتقدمة) و(المتخلفة) كافة من هذا المشهد (السيزيفي) بجدارة، فمنذ الأزمة المالية التي عصفت بالاقتصاد العالمي في العام 2008، والجميع يسعى إلى حرب كونية مازالت أطرافها تتشكل على استحياء عبر حروب صغيرة هنا وهناك، ليست سوى تعبير عن حرب (الكل ضد الكل). ففي سوريا تدور المعارك الضارية بين الإرهابي المتطرف وبين المستبد الدموي، ويطلق فيها على الأول (الثائر) بينما يطلق على الثاني (حامي سوريا ورمز وحدتها) في حرب تنتصر فيها الهزيمة، وفي اليمن يقاتل أعداء الحرية من أجل تحرر الإنسان.وتشهد بلدان أوروبية عدة صراعا دراماتيكيا بين إحساس عاطقي وساذج بالذنب لا يرتكز على (وعي وجودي) بأخطاء ارتكبها أجدادهم في حق البشر، وبين صعود ملحوظ للنازية والفاشية التي تمثل في الضمير الأوروبي آلة التدمير التاريخية التي يحذرون دائما عودتها. وبين هذا وذاك تتعثر خطى الديموقراطية المزعومة، ويعلو صوت الحديث عن (الحرية)  في قنوات إعلامية تزهو بقوتها، وتتباهى بقدرتها على (تصنيع) الحدث واحتلال أفئدة العامة وعقولهم.

يأتي “ترامب” بأصوات المهمشين الذين يهاجمهم في خطابه مدفوعا بكراهية الرجل الأبيض الذي يظن أنه صاحب أمريكا و(مكتشفها). وهكذا تفعل (الجماهير) في كثير من بلدان أوروبا، وهم عازمون على إظهار ذلك القبح المخفي خلف مظاهر حضارة تزعم أنها الأفضل. في (أمريكا) الشمالية حيث قامت حضارتهم المزعومة على جثث السكان الأصليين، وملايين (العبيد). وفي أوروبا حيث بنوا مجدهم على استنزاف موارد الآخرين وسحق تطلعاتهم.

يقول “سارتر”: إن العقل الذي يرفض التفكير الخطي/السببي الذي يتسم بالميكانيكية. هذا العقل هو القادر على اكتشاف التناقضات، والتعامل مع تعقيدات الحياة بطريقة ديناميكية، هو وحده القادر على التعامل مع الواقع ووصف التاريخ (الذي صنع عبر إرادات فردية أثرت فيه)، عبر تجربتي (الضرورة) و(الحرية) بدءا بوصف أقدم العلاقات وأولها على الأرض، والتي أقامها الإنسان/الفرد مع العالم/الطبيعة. 

يوجد الإنسان في هذه اللحظة التي تتسم بـ (الموات/الجمود) وفي هذا العالم الذي تسوده الحاجة والندرة والعنف والاستلاب ويصير فيه (هو) نتاج لإنتاجه، بما يعني أن العمل الذي يقوم به، أي عمله الخاص وقد انقلب عليه، يصبح انتماءه (هو) لمجموعة عاجزة تحكمها قساوة المادة، حيث يشعر البشر جميعهم بالخضوع لما هو أقوى منهم، ولا سيطرة لهم عليه، محكومين بالهموم المعيشية اليومية، مقتولن بالوحدة، غير مبالين بالشأن العام، وفي ظنهم أن هذا هو العادي/الطبيعي، في نظام (طبيعي) بل وضروري،لايد لهم فيه ولا مفر لهم منه، حيث لا يعرفون حياة أخرى، في هذه الأثناء لم يصل البشر بعد إلى (التاريخ) ولم يشارك الإنسان بعد في صناعته، لأن التاريخ يبدأ حيثما تبدأ مجموعة من البشر في امتلاك مشروعها الخاص، حيث المشروع يعبر عن (حرية فردية) و(خلاص جمعي).