لماذا لا يستجيب الاقتصاد الموازي لإغراءات الحكومة؟، وما هي العوائق التي تقف في طريق انضمامه لركب الاقتصاد الرسمي؟، وكيف ينجح في الهروب من حملات التفتيش؟، وكيف توفر الحكومة منافع اقتصادية لراغبيّ العمل في الظل؟.. تظل هذه الأسئلة هي “مربط الفرس” كما يُقال في مواجهة مشكلة الاقتصاد الموازي بمصر، الذي يشكل نسبة تتراوح بين 40 و60% من إجمالي حجم الناتج المحلي الإجمالي.
يتمسك أصحاب الأنشطة غير الرسمية، بمنتهى الوضوح، بالمنافع الاقتصادية الكبيرة التي يملكونها في ظل عملهم البعيد عن الأضواء، الذي يضمن لهم الهروب من دفع الضرائب، والتأمينات الاجتماعية على العاملين، والتزام منتجاتهم بالاشتراطات الصحية، والحصول على عائد صافي دون منغصات أو التزامات.
2 تريليون جنيه حجم الاقتصاد الموازي في مصر بحسب إحصاء اتحاد الصناعات
لا توجد إحصائية رسمية تحدد حجم الاقتصاد الموازي في مصر، لكن أقربها إلى المنطق كان إحصاء لاتحاد الصناعات يقدر حجمه بنحو 2 تريليون جنيه بقيمة ضرائب تضيع على الدولة سنويًا تتراوح بين 330 و550 مليار جنيه، بينما ترفع بعض الدراسات الأكاديمية الرقم إلى 60% من حجم الناتج المحلي، ويقدرها جهاز تنمية التجارة الداخلية التابعة لوزارة التموين بنحو 4 ملايين منشأة مسجلة في مصلحة السجل التجاري التابعة للجهاز.
تتسم دراسة اتحاد الصناعات بجانب كبير من المنطقية بسبب تتبعها الفجوة بين عدد المسجلين بالسجل التجاري الذين يبلغ عددهم 90 ألفًا وبين المقيدين في الاتحاد الذين يصل عددهم إلى 43 ألفاً فقط، والعدد الناقص لم يستخرجوا سجلاً صناعياً لمباشرة عملهم، ويصرفون منتجاتهم في 1200 سوق غير رسمية في مصر أو الاعتماد على شبكة البائعين الجائلين.
في بعض المناطق التجارية في القاهرة كـ “حمام التلات” و”الموسكي” و”الدرب الأحمر”، يظهر حجم اقتصاد الظل بقوة، فالأدوار من الأول وحتى الرابع التي يفترض أنها مخصصة للأغراض السكنية يتم استغلالها في أنشطة صناعية كورش تجارية أو مخازن لتخزين البضائع دون اشتراطات للأمن الصناعي.
يقول “م. محمود”، صاحب ورشة لتفصيل الجوارب، إنه لا يوجد ما يدفعه للتخلي عن نشاطه السري من أجل الانضمام للاقتصاد الرسمي، فالخامات متوفرة ولديه خمسة ماكينات تعمل عليها خمس سيدات في وردية واحدة يوميًا، ويتولى توزيع الإنتاج عبر باعة القطارات التي يصرفون منتجه جيدًا في ظل رخص سعره فيبيع الثلاثة بـ 10 جنيهات، بينما يبلغ الجورب الواحد في المحال التقليدية ما بين 10 و30 جنيهًا وفقا للمصنع.
راهنت الحكومة في بعض الفترات على الضرائب العقارية في تحديد عدد الوحدات المسجلة سكنيًا ويتم استغلالها في أغراض أخرى، لكن المشكلات التي تبعت القانون الذي ينتظر صدور بديل له قريبًا، واعتماد الموظفين على شبكة الجيران في الحصر لم يؤتي ثمارها مع سيادة منطق “انصر أخاك ونجيه من الضريبة”.
يقول الدكتور صلاح الدين فهمي، أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، إن الدولة تعتمد على استراتيجيتين في التعاطي مع الاقتصاد غير الرسمي، أولها الشمول المالي، الذي يحد كثيًرا من التعامل النقدي، ما يصعب على أصحاب الورش والمصانع غير الرسمية الحصول على المادة الخام أو وضع أموالهم دون إظهار مصادر الدخل، وبالتالي تضيق الخناق عليهم بقوة، مضيفًا أنه يتضمن قاعدة بيانات قومية شاملة تحدد عنوان المواطن ومصادر دخله وسلوكه الإنفاقي والاستهلاكي.
ويضيف “فهمي” أن الاستراتيجية الثانية تتعلق بالإعفاءات الضريبية والحوافز ما يتطلب منح المشروعات الصغيرة إعفاء لمدة لا تقل عن 3 سنوات والتغاضي عن سنوات النشاط التي تسبقها حتى لو كانت 20 عامًا، وتسهيل إجراءات رسوم التسجيل، وتقديم تسهيلات بنكية في حالة انضمامه إلى القطاع الرسمي بمعاملتهم معاملة المشروعات متناهية الصغر وبفائدة متناقصة، بما يمثل في النهاية إغراء لتلك المشروعات بالدخول تحت المظلة الرسمية.
دمج القطاع غير الرسمي وزيادة حصيلة الدولة الضريبية
ينتقد بعض الخبراء الربط المستمر في خطاب وزارة المالية بين دمج القطاع غير الرسمي وزيادة حصيلة الدولة الضريبية التي تجعل أصحاب المشروعات يتوجسون خيفة من الانضمام للمظلة الرسمية، أو ترديد الاتهامات المستمرة لهم بأنهم يسرقون موارد الدولة مثل المياه والكهرباء ولا يحصلون على أي تراخيص، ما يجعل أصحاب تلك المشروعات يشعرون بأنه فخ من أجل استقطابهم والتركيز على المزايا أكثر من الأعباء، فتجارب الكثير من تلك الأنشطة مع الجهات الحكومية ليست مشجعة وتتعلق دائمًا بحملات التفتيش والإغلاق.
جدل الإعفاء
وقال رمضان صديق، مستشار وزير المالية للضرائب، خلال ندوة نظمتها الجمعية العلمية للتشريع الضريبي، قبل يومين، إن قانون المشروعات المتوسطة والصغيرة، الذي صدر برقم 152 لسنة 2020 يهدف إلى جذب القطاع غير الرسمي، وتم منح العديد من الحوافز للمشروعات حتى تدخل تحت مظلته كحق الامتياز والضمانات والتأمين، لكنه لا يتضمن إعفاءات لأن تجربة العفو الضريبي صدرت في العديد من القوانين ولم تؤتِ ثمارها لذا تم التركيز على منح امتيازات وضمانات وحوافز للممولين لجذبهم للدخول تحت مظلته.
لا تمثل فكرة حق الامتياز عنصر إغراء كبير للقطاع غير الرسمي، فنموه ارتبط في كثير من الأحيان إلى غياب ريادة الأعمال عن الفكر الاقتصاد بمصر، فنجاح مشروع يتبعه في النهاية عشرات المشروعات المشابهة التي تنتج المنتج ذاته وبالمواصفات نفسها دون قدرة على الابتكار أو تحقيق أس إضافة، بجانب ارتفاع البطالة التي تدفع بالملايين للقبول بوظائف متدنية وبرواتب منخفضة دون البحث عن أي حقوق مستقبلية كالتأمينات الاجتماعية والصحية.
وقدم بعض نواب مجلس النواب مطالب بإضافة إعفاء ضريبي للاقتصاد غير الرسمي لمدة 10 سنوات حتى يقبل أصحاب هذه المشروعات في دمج مشروعاتهم بالقطاع الرسمي، لكنها فترة طويلة لا تتناسب مع طبيعة الفهلوية التي يملكها أصحاب تلك المشروعات وإمكانية لجوئهم لتغيير النشاط أو إغلاق المنشأة خلال تلك المدة، ما يجعلهم يستفيدون من موارد الدولة ويهربون من التزاماتهم.
الخوف من المطاردة والملاحقة والرقابة والمصادمات والاحتكاكات أحد أهم أسباب صعوبة دمج الاقتصاد غير الرسمي
ووفقًا لمسئولين لغرفة التجارية بالقاهرة، فإن الخوف من المطاردة والملاحقة والرقابة والمصادمات والاحتكاكات كان أحد أهم أسباب صعوبة دخول دمج الاقتصاد غير الرسمي الذي يصل عدد العاملين فيه إلى نحو 8 ملايين مواطن، وبالتالي يجب إعادة الثقة بين ذلك القطاع والمسئولين في الحكومة أولًا قبل اتخاذ أي إجراءات لدمجهم.
يعول بعض الخبراء على إمكانية أن تشن الدولة حملة إعلامية ضد المشروعات غير الرسمية تحذر من خطورة منتجاتها وتشجع المواطنين على عدم شرائها، باعتبارها تستخدم خامات رديئة قد تضر بصحة المستهلك إذا كانت في مجالات الأغذية أو الملابس لأن العاملين بها لا يحملون شهادات صحية وقد ينقلون العدوى.
ولمصر تجربة سابقة في مجال توظيف الإعلام في تغيير الأفكار المغلوطة ضريبيا حينما دشنت أكبر حملة دعائية لقانوني الضرائب على الدخل، والضرائب العقارية تحت شعار “مصلحتك أولاً” التي باعتراف مسئولي وزارة المالية ساهمت في تغيير مواقف آلاف من دافعي الضرائب بسبب لعبها على المنفعة التي يحصل عليها الممول وليس الدولة ذاتها.
يقول صلاح الدين فهمي إن العقوبات القانونية قد تكون رادعًا بتغليظها على النشاط غير المرخص، ففي النهاية لا يلتزم الكثير من المواطنين بمصر، إلا بقوة القانون كما حدث بالقطاع العقاري الذي يعتبر أحد أكبر الأنشطة المصنفة ضمن الاقتصاد الموازي، مشيرًا إلى أن مصر تتضمن ما يزيد على 25 مليون عقار، المسجل منها لا يتجاوز 8٪ فقط.
يقترح اقتصاديون أن تتحمل الدولة جزءًا من حصة العاملين في القطاع غير الرسمي في التأمينات الاجتماعية لمدة زمنية محددة
تجربة مهمة
ويمكن لمصر الاستفادة من تجربة الدانمارك، التي كانت ثالث دولة أوروبية في ترتيب حجم الاقتصاد السري، فحتى سنوات قليلة كان نحو 60% من المواطنين يعملون في أنشطة أساسية أو إضافية سرية رغم معرفتهم بالعقوبات المغلظة ورفع الغرامات، ما دفع السلطات إلى حظر الدفع نقدًا تمامًا وتقليص مستمر في الأعباء الضريبية والاعتماد على الحملات الإعلامية التي طمأنت أصحاب تلك المشروعات على الاندماج.
ساهم نمو سوق التوزيع الإلكترونية في تمسك الكثير من مصانع بير السلم بمواصلة العمل في الظل، فامتلاك شبكة من الموزعين دون صفحات رسمية لهم على مواقع التواصل الاجتماعي، يضمن لهم البيع بسلاسة دون القدرة على تتبعهم، أو معرفة أي معلومات عن القائمين على صناعة المنتج الذي يتسم برخص الثمن عن المنافسين الذين يعملون في المظلة الرسمية.
ويقترح اقتصاديون أن تتحمل الدولة جزءًا من حصة العاملين في القطاع غير الرسمي في التأمينات الاجتماعية لمدة زمنية محددة وتشجيعهم على التوسع بتوفير أراض مجانية لهم لفترات زمنية، ومصادر طاقة مدعمة حتى يشعر أصحاب تلك المشروعات بوجود فوائد من الانضمام للمظلة الرسمية، وأن الأعباء التي سيتكبدها سيحصل في المقابل على منافع متعددة، مع وقف دعاوى القضائية القديمة المتعلقة بالمخالفات المقامة ضد بعض تلك المشروعات لبدء علاقة جديدة مع الدولة.
ثقافة خاطئة
يقول الدكتور عبدالرحمن عليان، أستاذ الاقتصاد، إن المشكلة الأساسية في الاقتصاد الموازي هي الخبرة الطويلة التي يمتلكها أصحابه في كيفية التهرب من الحكومة والانزواء في الظل، فبداية ذلك النشاط كان في السبعينيات وبتسامح من الدولة حينها التي فتحت المجال على وسعه أمام الاستيراد والتصدير وأنشأت مناطق حرة وعلى مدار تلك العقود اكتسبوا خبرة طويلة في إدارة تلك الأنشطة.
ويلمح بعض الخبراء إلى وجود بعض التواطؤ من المحليات في رصد الأنشطة الاقتصادية في نطاق المناطق الخاضعة لولايتهم فيستحيل أن يوجد مصنع يدخله عشرات العمال يوميًا وعربات لحمل البضائع والمادة الخام دون أن تعرف أجهزة الحي بوجود نشاط تجاري داخلها.
ويرتبط التزايد الكبير للاقتصاد غير الرسمي في مصر بتطبيق سياسة الخصخصة في التسعينيات التي دفعت بآلاف العاملين خارج سوق العمل في سن مبكرة، فلم يجدوا أماهم سوى استثمار المبالغ التي حصلوا عليها كمكافأة نهاية خدمة، في أي أنشطة تدر عليهم عائدًا، وفي ظل حالة الحنق التي امتلكوها من تنصل شركاتهم لهم فضلوا العمل بصورة غير رسمية مهما امتلكوا من أرباح.
وأوضح “عليان” أن أصحاب المشروعات الموازية يعملون بمنطق التاجر فيضعون المزايا في كفة والأعباء في كفة، وبعض المسئولين لا يجيدون التعامل معهم بذكاء بتصدير دائما المنافع التي تأتي للاقتصاد الكلي من دمجهم دون التركيز على المنافع التي يحصل عليها أصحاب الأنشطة ذاتهم بعد انضمامهم للمظلة الرسمية.
ولجأت بعض الدول مثل البرازيل في تفريغ منشآت الاقتصاد الموازي من العمالة وغالبيتها من الأطفال والنساء، إلى توفير إعانات البطالة لهم، وفي نيبال تم توفير برامج للتدريب المهني ومنح العاملين دعمًا لإنشاء منشآت متناهية الصغر خاصة بهم ما أغرى غيرهم على ترك العمل في ظل الإطار غير القانوني لامتلاك مشروع دائم.
يعترف مسئولو وزارة المالية بأن المشكلة الرئيسية التي تواجههم تتمثل في انتشار ثقافة خاطئة بأن الوزارة تريد “أن تأخذ قوتهم ورزق أولادهم”، لكنها تراهن على عامل الزمن للتغيير وتضع في تقديراتها بأنها تحتاج إلى عقد كامل من التحرك لحل مشكلة مستمرة منذ أربعة عقود.