عام 1985، كشف الكاتب “أدير كوهين” في كتابه “وجوه قبيحة في المرآة”، عن وجود أكثر من 1500 كتاب في أيدي الأطفال اليهود تمثل “ذروة الاستعلاء والفوقية اليهودية التي تلازمها دونية مغرقة في التحقير لكل من هو عربي ومسلم”.
وفي أغسطس 2020، أعلن علي النعيمي رئيس لجنة الدفاع والداخلية والخارجية بالمجلس الاتحادي الإماراتي، عن نية بلاده تغيير الخطاب الديني والمناهج التعليمية “حتى يشعر الشعب الإسرائيلي بالطمأنينة والانتماء”.
مشهدان يفصل بينهما 35 عامًا، ظل الأول فيهما كما هو صامدًا أمام العداء الذي صنعته آلته الدموية، بينما تغير الثاني تمامًا، وتحول بين ليلة وضحاها إلى ود يصل لحد العشق، وسلام لا حدود له ولا ضوابط، حيث وصل الأمر لتقديم أطفال العرب للترويج لهذا السلام، ولإثبات حسن النوايا، ما آثار استياء الكثيرين ممن تحمل ذاكرتهم بقايا من مشاهد العنصرية الصهيونية.
ففي مشهد غير معتاد في الوطن العربي، ظهر بعض الأطفال الإماراتيين مرتدين “تيشيرتات” تحمل صورة العلم الإسرائيلي، عقب إعلان حكومة بلادهم توقيع السلام مع الكيان الصهيوني وتطبيع العلاقات معه.
وانتشرت الصور على نطاق واسع، ما أثار الجدل والغضب، وقبل أن تغيب تلك الصورة عن الأذهان، ظهر أطفال آخرون، خلال استقبال أول وفد إسرائيلي على الأراضي الإماراتية، يلوحون بأعلام الطرفين لتتكرر حالة الاستياء ويلقى الأمر هجومًا حادًا على مواقع التواصل الاجتماعي.
تجميل العدو
دأبت البلاد العربية خلال العقود الماضية، على تعريف الأجيال المتتالية بقضية الصراع العربي – الإسرائيلي، وكيف دفعت الأمة العربية ثمن هذا الصراع من دماء أبنائها أمام كيان محتل مغتصب لأرض العرب، ولم يخلو كتاب تاريخ في المناهج العربية من التطرق لهذا الصراع، ولم تخلو الأعمال الفنية العربية من إلقاء الضوء على تفاصيل العلاقات العربية الإسرائيلية، وكيف بدأ العداء من الجانب الإسرائيلي الطامع في الأراضي العربية وثرواتها.
في تلك الفترة تشبعت أذهان الأطفال العرب بالعداء لإسرائيل، وتسلم جيل بعد جيل راية هذا العداء لحين استرجاع الأرض، ورغم وجود تطبيع إسرائيلي عربي معلن، بين بعض الدول العربية ودولة الاحتلال مثل مصر والأردن، وآخر غير معلن مثل العلاقات الخليجية الإسرائيلية، إلا أنه كان تطبيعًا بمواصفات معينة جعلته محصورًا في العلاقات الدبلوماسية فقط.
مع تطور الأحداث وفرض إسرائيل لتواجدها بالمنطقة، وتغير معطيات التطبيع، التي لم تعد قائمة على العلاقات الرسمية فقط، وإنما باتت تجمع الشعوب والحكومات، وفي خطوة قوية لإثبات حسن النوايا، شملت إجراءات التطبيع الجديد تغيير أبجديات الصراع في عقول الأجيال الجديدة، وتعديل صورة الكيان المحتل باعتباره صديقًا، بهدف خلق جيل صديق للاحتلال معترف به، وربما متعاطف معه.
ورغم أن المعطيات الجديدة تبدو وكأنها وليدة اللحظة، إلا أنها تعرضت لتمهيد على مدار سنوات قليلة ماضية، تم خلالها الترويج لفكرة قبول الآخر التي تمهد بدورها لقبول الكيان الصهيوني، والتشكيك في تفاصيل الصراع العربي الإسرائيلي، وتعمد غياب صورة الطفل الفلسطيني الذي كان يمثل أيقونة هذا الصراع.
ولعبت ثورة الاتصالات دورًا كبيرًا في التمهيد لأصول التطبيع الجديد، وتم اختراق عقول أطفال العرب، وقبول الوجه الجميل الذي صدره الكيان الصهيوني عن نفسه، واتباع أساليب تربية تعتمد على ترسيخ المبادئ الغربية، وانتشار المدارس الدولية، وتشكيل عقل الطفل العربي بعيدًا عن الهوية العربية.
وظهرت كبرى ملامح استخدام الطفل العربي في معادلة التطبيع مع إسرائيل والتلاعب بهويته، خلال مشاهد ارتداء ملابس تحمل شعار الصهيونية، ورفع الأعلام الإسرائيلية والترحيب بالتواجد الإسرائيلي على الأراضي العربية.
تحقير العرب
اعتادت إسرائيل، على إعداد أجيال تنشأ على فكرة العداء للعرب، ورغم التطبيع مع الدول العربية وإقامة العلاقات الرسمية وغير الرسمية، إلا أن هذا الهدف لم تتهاون إسرائيل في تحقيقه منذ عقود طويلة، ومثل لها واحدًا من أساسيات إقامة دولتها واستمرارها.
واعتمدت إسرائيل، في تنشئة الطفل الصهيوني، على البعد الأيديولوجي، بداية من استخدام الديانة لتشكل الهوية، وإحياء اللغة العبرية، مرورًا بتحديد العدو الأول والأخير والتهديد الأخطر للكيان الصهيوني وهو العرب.
في كتب الطفل الإسرائيلي، لن تجد حديثًا عن أي سلام مع العرب، بل يقدمونهم على أنهم مجموعة من المحتالين الذين سرقوا الأرض اليهودية، ففي عام 1986، أصدرت وزارة المعارف الإسرائيلية، مجموعة كتب الأطفال “الأرض الطيبة” لتدريسها للأطفال بالمدارس اليهودية، والتي ذكر فيها وصف الأرض الإسرائيلية أنها تنتمى لليهود ولكن جاءت بعض الشعوب “ويقصد العرب” وكانوا قليلين جدًا، وجعلوها خرابًا.
كما يتم وصف أرض العرب بأنها أرضٍ إسرائيلية احتلها العرب من زمن قديم، وذلك كما جاء في سلسلة “تاريخ الأدب العربي” للكاتب اليهودي “مراد ميخائيل” التي ذكر فيها أن الضفة الغربية وقطاع غزة أراضٍ إسرائيلية محتلة، بخلاف إظهار الجولان باعتبارها أرض إسرائيلية.
في أبجديات نشأة الطفل الإسرائيلي، تفاصيل عديدة ترتبط بالشأن السياسي، وترسم صورة ذهنية داخل عقل الطفل الإسرائيلي تجعله فيما بعد مهيأ لمعاداة كل ما هو عربي.
قلب الحقائق
في كتاب “تحولات جغرافيا الشرق الأوسط، استبدل أرنون سوفير، بلاد العرب بالبلاد المتخلفة، والخليج العربي بالخليج الفارسي، ما يساعد على طمس الهوية العربية في عيون أطفال إسرائيل، فيما يخلو “الأطلس” الإسرائيلي للأطفال بالابتدائي والإعدادي، من أي ذكر للعرب، ويتم استخدام مسميات أخرى تسيء لهم، فيما تظهر ما يعرف بـ “خريطة إسرائيل الكبرى” إسرائيل ممتدة للمدينة المنورة، بينما يُطلق على القرآن الكريم “التوراة المكتوبة”، والأحاديث النبوية بـ”التوراة الشفهية”، فيما تُسمى أرض فلسطين بأرض إسرائيل.
فيما وصف الأدب الإسرائيلي الموجه للأطفال، الشخصية العربية بصورة سيئة تضمن كراهيته فهو شخص قبيح، أحول العين، وجهه مجروح، لديه عاهة وشارب كبير وأسنانه متعفنة، وملامحه شريرة، هذا من حيث الصورة، أما من حيث المضمون فيتجلى فيما وصفته قصة “قاصد الأثر من الحدود الشمالية”، التي تُظهر العربي بشخص قاتل للأطفال والنساء والشيوخ ولا يقترب من الجنود الإسرائيليين.
أيضًا قصة “خريف أخضر” والتي تظهر العربي بمظهر الجبان من خلال سرد أسرار بلاده بعد وقوعه أسيرًا في يد جندي إسرائيلي، وقصة “القرية العربية” والتي تصف القرى العربية بالعفن وانعدام النظافة وعدم وجود مياه وأهلها لا ينظفون أجسادهم ولا يغيرون ملابسهم، والاستحمام عادة لا يعلمون عنها شيء، أما قصة الأطفال “أفرات” فتصف العربي بالشخص الدموي الذي نهب أموال وممتلكات اليهود واستحل دمائهم، وأنه مجرم يعشق لون الدم وتسير الجريمة بداخله.
وتقدم قصة “الأمير والقمر”، لكاتبها يورى إيفانز، العرب في صورة المتخلف الذي لا يعي قيمة الأشياء من خلال حوار هذا الحوار “قالت الصغيرة لي: من الذي سرق القمر؟ .. قلت: العرب .. قالت: ماذا يفعلون به؟ .. قلت: يعلقونه للزينة على حوائط بيوتهم .. قالت: ونحن؟ .. قلت: نحوله إلى مصابيح صغيرة تضيء أرض إسرائيل كلها .. ومنذ ذلك الوقت، والصغيرة تحلم بالقمر، وتكره العرب، لأنهم سرقوا حلمها وحلم أبنائها”.
وفي دراسة بعنوان “انعكاس شخصية العربي في أدب الأطفال العبري”، أعدها الباحث “أدير كوهين” على مجموعة من الأطفال الإسرائيليين، انتهت إلى انتشار خوف الأطفال الذين شملتهم عينة البحث، من العرب بنسبة 75%، ووصف الأطفال الإسرائيليون للعرب بأنهم خاطفي أطفال وقاتلين ومخربين ومجرمين، و80% من العينة وصفت العربي براعي البقر والذي يعيش بالصحراء والقذر، وله شعر أخضر وذيل.
كما أوضحت الدراسة، أن 90% من الأطفال الذين شملهم البحث يرون أنه ليس للعرب حق في البلاد ويجب طردهم بعيدًا، فيما لا يعرف معظم الأطفال أسباب الصراع العربي الإسرائيلي.
تفاوت كبير
تفاوت كبير بين الأجيال الإٍسرائيلية والعربية في النظرة لطبيعة العلاقات والصراع بين الطرفين، فبينما مهد الطريق لتقبل الطفل العربي لإٍسرائيل كدولة صديقة، لايزال الطفل الإسرائيلي يتم تشكيله على حقيقة أساسية هي معاداة العربي والتقليل من شأنه.
الباحث في الشأن الإسرائيلي سامح عيد، قال إن المصطلح السياسي داخل إسرائيل يختلف عن الدول العربية، فهناك يتم إعدادهم وتأهيلهم على أساس أن السياسية أساسها المصلحة، لذلك عندما يقول مسئول ما داخل إسرائيل أن تصرف ما أو موقف ما سيكون في مصلحة إسرائيل يتم تقبله دون تقديم أي مبررات لذلك.
وأضاف “عيد”، أن الأجيال الجديدة في إسرائيل خاصة لدى اليمين المتطرف تنشأ على أن العدو هو العرب، وهناك قطاعات تحث على الكراهية وهو المجتمع الديني المتشدد.
وأكد “عيد” “أنه في الداخل الإسرائيلي لا يُمارس التطبيع والعلاقات بالمفهوم العربي القائم على تقديم كل شيء لإثبات حسن النوايا، هي في الحقيقة لا تقدم شيئًا سوى بالونة اختبار إن حققت نتائج تعتمدها وإن فتحت أبواب لا تريدها ألغتها، وتسعى دائمًا لتحويل مبدأ الصراع من الصراع على الوجود للصراع على الحدود، وقد نجحت في ذلك مع تقبل العرب لها وإقامة علاقات معها، والآن سيتحول الصراع لصراع حدود حول من يثبت هويته”.
وأكد “عيد”، “أن العرب عليهم العمل على اختراق المجتمع الإسرائيلي لأنه مجتمع هش، وليس كما يصوره الإعلام متماسكًا وقويًا، بل هو مجتمع يعاني من مشكلات كبيرة وصراعات.
بلا هوية
على جانب أخر ترى الخبيرة النفسية رحاب العوضي، أن الطفل العربي يعانى مما يراه في بلاده، وتم استخدامه في معادلة هو بعيد كل البعد عنها، موضحة “رأيناهم جزءًا من عمليات إرهابية ومقايضات سياسية، دون ذنب لهم أو دراية بما يحدث حولهم”.
وقالت “العوضي” “إن الطفل العربي يدفع ثمن تشتت قاداته وعدم التزام كبار وطنه بكلمه واحدة، أو التوحد حول كلمة وطن، فهى بلاد الصراعات والرجعية والخنوع والاحتلال، لذلك تظل الأوطان الغربية بالنسبة له، أمل يسعى للوصل إليه، ويريد أن ينسلخ من عاداته وتقاليده للابتعاد عنها، فهى بالنسبة له بلدان أدت به إلى أن ينشأ بلا وطن أو هوية بالتالي يريد تقليد العالم الآخر الأكثر تقدما واستقرارًا وتقبلا للآخر، مقابل التخلص من هويته العربية.
وتابعت “العوضي”: “فالطفل معد لتقبل أي مجتمع حتى وإن كان المجتمع الإٍسرائيلي لأنه قدم له باعتباره عدوًا ثم صديقًا، ما يفقده الثقة في المباديء التي قام عليها العداء، وبالتالي يتقبله كصديق”، مشيرة إلى أن أطفال العرب الآن بين نقيضين، إما أكثر انفتاحًا على المجتمع الغربي وأكثر إنتماءًا له، أو متمسكًا بعاداته البالية.
واستطردت “الطفل حتى 12 سنة المفروض يكون عنده استمتاع بحياته خطأ إدخال الطفل في أي نشاط من هذا النوع، فلابد أن يكون لديه ترفيه، أما استقبال الوفود عادة فهي بروتوكولات جرت عليها الأمور والطفل غير مدرك لمن يستقبل”.