لفت نظر، تلاه خصم يوم، ثم جلسة استجوابات، وقعت “علا” معلمة لغة عربية فريسة لكل ما سبق، فهي تعمل بمدرسة “ص. غ” في حي المعادي بالقاهرة.
“علا” فتاة حديثة التخرج تخرجت من كلية التربية جامعة عين شمس، لتعمل بمجال التدريس، كان يملأها شغف كبير أن تبدأ حياتها العملية بمدرسة قريبة من محل إقامتها وأسرتها، وتحديدًا في حي المعادي، وبالفعل التحقت بهيئة تدريس إحدى المدارس القريبة من منزلها، وقبل توقيع عقد عملها.
كانت هناك بعض اللوائح وجب على “علا” معرفتها بل والموافقة عليها قبل بدء العمل.
أول هذه التعليمات أن هناك زي معين لا يجب أن تخرج عنه معلمات المدرسة بأي حال من الأحوال، فلا يُسمح بدخول معلمة ترتدي بنطال، كما لا يُسمح بارتداء الجلابيب الضيقة، ولا يُسمح كذلك بالملابس ذات الألوان الزاهية الفاتحة، ولا يُسمح بمساحيق التجميل، مجموعة من التحذيرات والممنوعات قالتها باقي المعلمات لـ “علا” لتطلعها على نظام المدرسة، مبرهنين على وجهات نظرهم بأن المعلم أو المعلمة قدورة لا ينبغي أن يراهم الطالب بشكل غير لائق، لكنهم تركوا لأنفسهم مسؤولية تحديد ما هو لائق وما دون ذلك وفقاً لرؤيتهم الخاصة.
مجتمع محافظ بطبعه
وجهة نظر البعض تقف أمام فكرة أن الملبس هو المؤشر الدال على شخصية الفرد، فضمن آراء المعلمات القدامى داخل تلك المدرسة أن المعلمة لو لم تكن وقورة ومحتشمة في ملبسها فلا يمكنها أن تؤدي عملها في توصيل المعلومات للطلاب، والقيام بمهمتهم في تربية الأجيال.
“اضطررت أن أغير كثيراً من شكل ملابسي “تقولها علا” بنبرة مستاءة موضحة أنه رغم كونها فتاة محجبة، من البداية، وملابسها تعد لائقة نوعًا ما للعمل كمعلمة، إلا أنها لاقت نظرة اشمئزاز في عيون البعض بسبب ارتدائها بنطال في المرة الأولى التي ذهبت فيها للمدرسة.
اضطرت “علا” لتغير بعض الأمور من أجل الفوز بفرصة العمل هذه التي لم تتمكن من الحصول على مثيلتها وقتها، فقررت أن توافق على كل التعليمات وتتجنب كل ما تم تحذيرها منه، فتوقفت عن وضع جميع مساحيق التجميل، اضطرت لشراء جلابيب وملابس واسعة وطويلة، استبدلت جميع ألوانها المفضلة الزاهية بألوان أخرى قاتمة مثل الأسود والكحلي.
جلباب شفاف
رغم كل ذلك، لم تسلم “علا” من مصيدة الجزاءات والانتقادات، وحصلت في الشهر الأول من عملها على لفت نظر، وخصم يوم من راتبها لارتداء جلباب طويل وواسع ومحتشم وأسفله بنطال إلا أنها ارتكبت جريمة من وجهة نظر المدرسة، وهي أن الجلباب لونه أبيض ويمكن أن يشف لون البنطال الموجود أسفله، ما اعتبرته إدارة المدرسة وهيئة التدريس الموجودة بها نوعاً من أنواع الانحلال الأخلاقي، وعدم تحمل المسؤولية، وإخفاق في دورها كقدوة للطلاب.
وبناء عليه تقرر تفعيل عقاب على “علا” بشكل رسمي، بخصم يوم من راتبها، فضلاً عن درس الحكمة والموعظة الذي تطوعت وكيلة المرحلة بإعطائه لها، في سبيلها لإقناعها بمدى الجريمة المرتكبة، على أن تأخذ منها وعد بعدم تكرار هذا الخطأ الفادح.
تقول “علا” جلست ساعات طويلة على كرسي الاستجوابات والتوبيخ والتأنيب، تكاد لا تسمع منهم شيئاً كان عقلها مشغول فيما وضعتها فيه الظروف من احتياج مادي جعلها مضطرة للتحمل، لا أدري ما هي جريمتها الحقيقية، هل هي ارتدائها جلباب أبيض يشف الألوان من أسفله؟ أم الجريمة الحقيقية هي الموافقة على العمل في مثل هذه البيئة المتشددة؟
اضطرت “علا” للاستمرار في عملها سنتين، بعد الواقعة سالفة الذكر، مستسلمة تماماً لقواعد المدرسة، ورغم ذلك، كانت تسعى في اتجاهات أخرى للبحث عن عمل جديد، وهو أمر لم يكن سهل على الإطلاق، كانت تبحث في مساحات ومحيط المدارس اللغات لأنها توقعت أنها ستكون أكثر تحضراً من المدارس الخاصة العادية أو غيرها من أنظمة التعليم في مصر.
ألوان قاتمة للإناث
حتى وجدت ضالتها في مدرسة بنفس الحي، وقريبة هي الأخرى من منزلها وهي مدرسة “ب. غ”، إلا أنها وجدت نفسها خرجت من مأزق لتضع نفسها في آخر، فرغم أن المدرسة الجديدة التي نقلت إليها “علا ” عملها كانت لغات ودولية وتابعة لنظام تعليمي أكثر تحضراً -من وجهة نظرها- إلا أنها وجدت أمر غريب، وهو أنهم يفرضوا زي ذات ألوان وشكل ثابت للمعلمات وآخر للمعلمين، بحيث يصبح لكل نوع لون مميز للزي الخاص به.
ما آثار حفيظة “علا” أن الألوان التي فرضت على المعلمات كانت قاتمة وباهتة تتراوح ما بين درجات اللون البني الغامق والفاتح منه، مع إلزام الحجاب من نفس الألوان، والجيبة أو البنطال يكون أسود اللون مع ضرورة أن يكون واسع بل وفضفاض، بحيث لا يسمح بدخول المعلمات التي ترتدي ملابس ضيقة بأي حال من الأحوال.
على الصعيد الآخر، كان لبس المعلمين الرجال أو ألوان زيهم جميلة وزاهية من وجهة نظر علا، حتى أنها تمنت أن يتم استبدال الألوان بين المعلمات والمعلمون، فكان الزي الرجالي للقميص بلون وردي ودرجاته، والبنطال باللون الرمادي ودرجاته.
قررت “علا” أن تستسلم هذه المرة، ولن تبحث عن مدرسة جديدة للعمل بها، خاصة أن راتبها في المدرسة الجديدة يعد مناسباً لخبراتها ومجهودها المبذول، وهو أمر ربما لن تجده مجدداً في أي مكان آخر، وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها الجميع، فقررت الاستمرار، رغم التحكمات في الزي غير المبررة.
لا للزينة وللعطور
عادت “نسمة” من جديد لأفعال طالبات الثانوي في التسعينيات، حيث كان هناك تقليد سائد وقتها، يجعل الفتيات يحتفظن بأدوات تجميل خفيفة في حقائبهن، يضعون بعضها ويتزينون بها قبل خروجهن من المدرسة مباشرة، حيث كان يمنع الأهل بناتهن من وضع مساحيق التجميل، وكان أمر غير سائد في المجتمع ككل، فكان يلجئن لذلك في الخفاء.
تقول “نسمة” شعرت كثيراً أن الحياة عادت للخلف من جديد، فأصبحت أحمل أدوات زينة خفيفة كفتاة مراهقة “كالكحل وأحمر الشفاه في حقيبتي بمجرد أن انتهي من عملي كمعلمة في المدرسة أذهب إلى دورة المياه قبل انتهاء اليوم الدراسي لوضع القليل من مساحيق التجميل على وجهي، واخرج سريعاً قبل أن يراني أحد من المعلمات فيخبر الوكيلة أو مشرفة المرحلة فلن يستطيع أحد وقتها أن يفلتني من الخصومات والجزاءات التي ستوقع عليه” مضيفة أنها اعتادت على وضع مساحيق التجميل منذ زمن بعيد ولا تعرف كيف وافقت على العمل في مكان يحرمها من حق شخصي بالنسبة لها؟!
تعمل “نسمة ” في مدرسة “ح. غ” منذ 2017 ومن وقتها وهي تعرف أن هذا النظام هو السائد، لا لمساحيق التجميل، لا للعطور، لا لطلاء الأظافر، وممنوع منعاً باتاً الملابس الضيقة والقصيرة، حتى أنها تتذكر وقت تقديم أوراقها للعمل بالمدرسة كانت ترتدي حجاباً صغيراً يظهر منها بعض خصلات شعرها من فوق جبهتها، نصحتها إحدى المعلمات الموجودات بالمدرسة بإدخال شعرها واخفائه تحت الحجاب قبل الدخول للمقابلة الشخصية حتى لا يتم رفضها، وبالفعل نفذت النصيحة، وتقبلت كل شيء في سبيل عدم إهدار فرصة العمل التي لن تتكرر بسهولة من وجهة نظرها.
محض دراسة
اعتقد البعض أن هذه تعليمات وزارية وأن الأمر يرجع برمته لحزمة قرارات تطوير المنظومة التعليمية الجديدة، التي يعلن عنها بين الحين والآخر إلا أن الأمر كان على عكس ذلك، حيث طلت بعض رموز وزارة التربية والتعليم، أواخر العام الماضي، تعليقاً على الأمر عبر أحد النوافذ التليفزيونية، ليتضح إن الوزارة بصدد إصدار كتاب يوضح الملابس المسموح للمعلمين ارتدائها داخل المدارس، وهذا لا يعني تطبيق الزي الموحد على المعلمين ولكن سيتم فيه رصد مواصفات الزي، وسيتم تنظيم ألوان المدارس، وهذا الكتاب سيوضح الألوان المقبول ارتدائها من قبل المدرسين والألوان غير المقبولة ،وأوضحت قيادات الوزارة أن مساحيق التجميل الكثيرة للمعلمات أمر مرفوض، حيث تعد المعلمة قدوة للطالبات، ويجب أن تكون الملابس مقبولة ومتناسقة.
وحول استنكار المعلمين ذلك باعتبارها حرية شخصية، اعتبر المسؤولين هذه الحجة غير مجدية، معبرين عبر صفحاتهم أن الحرية الشخصية بعد المدرسة، بعد الخروج من مكان العمل، لأن العمل له قواعد منظمة له، وقد تسعى جميع مؤسسات الدولة مستقبلاً لتطبيق فكرة الزي الموحد على جميع قطاعات الدولة.
يذكر أن فكرة تطبيق زي موحد في قطاعات الدولة لم يكن أمر حديث العهد، وتعد محافظة الوادي الجديد من أولى المناطق التي فعلت فكرة الزي الموحد بقرار من المحافظ وليست من الوزارة، وقد أشاد المسؤولين بهذه التجربة كثيراً، ومن المتوقع تجربتها في أكثر من قطاع خلال الفترة المقبلة.