هل يمكن أن يلغي الإنسان عقله لينفذ أوامر شخص آخر دون تفكير؟ هل يمكن أن يُقبل الفرد على فعل يؤذي به غيره وسببه الوحيد أنه يطيع شخص آخر؟ حاول عالم النفس البروفيسور مليجرام الإجابة على السؤالين الماضيين، بعد أن خطرا بباله بعد الحرب العالمية الثانية، حيث سأل جنود النازية عن جرائم الحرب التي ارتكبوها ضد النساء والأطفال والأبرياء فكانت إجابتهم: “نحن كنا ننفذ الأوامر و المسؤولية تقع على القادة”.

فصمم مليجرام، تجربة يضع فيها إنسان في موضع المعلم وآخر في موضع التلميذ يجلس على كرسي كهربائي، وإذا أخطأ التلميذ يعاقبه المعلم، بظغط زر كهرباء يعرض التلميذ لصعق كهربائي بمقدار 15 فولت وتتضاعف شدة التيار مع كل خطأ حتى تصل إلى 450 فولت، وربما أكثر.

الطاعة المؤذية

النتيجة المفاجئة، كانت أن جميع المعلمين استمروا في صعق التلاميذ حتى وصلت لـ300 فولت، وربما أكثررغم سماعهم صرخات المُتعلم من الألم، ومع ذلك فإن أكثر من نصف المشاركين استمروا إلى نهاية التجرب’ التي تصل درجة الصعقة الكبرى منها إلى 450 فولت، مع العلم أن التيار ليس حقيقيًا وصوت الألم الذي كان يصدر أيضًا من جهاز التسجيل لم يكن حقيقي، إلا أن النتائج كانت مروعة.

توقف العالم كله أمام نتائج مليجرام، فكيف لبشر طبيعيون أن يُطيعوا غيرهم طاعة عمياء، تصل إلى قتل إنسان بريئ لم يؤذيهم لمجرد أنهم ينفذون الأوامر ولا تطالهم أي مسؤولية، والمسؤولية تقع هنا على من أصدر تلك الأوامر فقط.

خلال متابعة التجربة السابقة، يقف العقل حائرًا في تفسير السلوك البشري، ماذا يدور داخل عقل الفرد وقتها يجعله تابعًا لرأي غيره إلى هذا الحد؟، وهو ما يُذكر بموقف الإمام الحسين مع من أرادوا قتله.

فعندما ألقى عليهم الحجة وعرفهم بنفسه عليه السلام ولم يجدوا أي مبررًا لقتله، فقالوا: “طاعة لابن زياد”، فقال لهم: “إذا لم يكن عندكم دين يمنعكم عن قتلي؟  فكونوا أحرا”، وهو ما أعاد الأمر برمته للوازع الديني الذي لا ينجح دائمًا في ردع المخالف عن أداء مخالفته.

وضع المجتمع، ضوابط جديدة مع تقدم العصور، وتغيير المجتمعات، كان يعتقد العلماء أنه مع تقدم الوقت ستتغير الأمور للأفضل، لكن الحياة تتفنن في مفاجئة البشر

البروفيسور مليجرام

طاعة اجتماعية

وضع المجتمع، ضوابط جديدة مع تقدم العصور، وتغيير المجتمعات، كان يعتقد العلماء أنه مع تقدم الوقت ستتغير الأمور للأفضل، لكن الحياة تتفنن في مفاجئة البشر، فتغيرت الأمور قليلاً ولكن للأصعب والأسوأ فباتت الطاعة العمياء إحدى أنماط الحياة التي يمارسها الأفراد دون ضغوط، دون حتى وجود معلم، وبين طبقات وأفراد مختلفين تبدأ من هيمنة فطرية داخل المنزل، فيطيع الأبناء الأب طاعة عمياء، ومن يخرج عن إطار هذه الطاعة فهو حتمًا خرج عن حدود اللياقة والأدب وينعته الجميع بأنه أبن عاق، كذلك الزوجة تطيع الزوج دون تفكير، ويجب عليها السمع والطاعة، وتنفيذ أوامر الزوج، دون جدال، وما دون ذلك فهي زوجة منحلة، خاصة في جيل الألفية السابقة، التي اتسمت باستسلامها لا إراديًا لسلوك الطاعة العمياء لأولي الأمر، ناهيك عن الطاعة في منظمة العمل، وداخل الهيكل الإداري لأي وظيفة فهي دائمًا تتخذ ستار “أكل العيش” ويتعايش معها الجميع على هذا النحو.

“”استخدموا عقولكم أيها الناس.. لتكن لكم الجرأة على استخدام عقولكم! فالله زودكم بالعقل لكي تستخدموه لا لكي تلغوه”.. الفيلسوف الألماني كانت

كانت ونظرية التنوير

كانت هو فيلسوف ألماني، ومؤسس الفلسفة المثالية الألمانية، أي الفلسفة التي تؤمن بأهمية الأفكار والمثل العليا وأنها قادرة على تغيير الحياة وتحسينها نحو الأفضل، كان له رأي هام فيما يتعلق بالطاعة العمياء، فرغم أنه ألماني الجنسية، وولد ونشأ وتربى وسط ديكتاتورية أفكار هتلر، إلا أنه كان يحلم بعالم مختلف، كان دائمًا ما يغرد خارج السرب بمثالية مبهجة.

كان يؤمن بقدرة العقل البشري على تحقيق المعجزات على هذه الأرض عن طريق العلم الفيزيائي والرياضي الذي نبغ فيه إسحاق نيوتن، ولد كانط وعاش في عصر التنوير الكبير كما كان يطلق عليه وقتها، وحرص على محاربة التعصب الديني والمتواكلين وعديمي التفكير، كما كانت له إسهامات فيما أسماه “نظرية التنوير” التي عرفها على أنها خروج الإنسان من مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد، كما عرف القصور العقلي على أنه التبعية للآخرين وعدم القدرة على تكوين التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار دون استشارة الشخص الذي يلعب دور الوصي على الشخص المطلوب منه الطاعة العمياء، فهو كالأب أو الشيخ أو الكاهن أو ولي الأمر ومن بيده مقاليد الأمور لمجموعة من البشر او حتى لفرد واحد، ما يعني أن الفئة التي تُمارس عليها هذا النوع من السلطة نظل في مرحلة الطفولة العقلية حتى بعد أن يصبحوا رجالاً ونساء كبارًا.

ولذلك صرخ كانت، بمقولته الشهيرة، قائلاً: “استخدموا عقولكم أيها الناس.. لتكن لكم الجرأة على استخدام عقولكم! فالله زودكم بالعقل لكي تستخدموه لا لكي تلغوه، لا تتواكلوا بعد اليوم ولا تستسلموا للكسل والمقدور والمكتوب، ولا تقبلوا شيئا قبل إخضاعه لمحكمة العقل والتمييز والغربلة والتمحيص “.

لذلك عُرف عن كانت في جميع الكتب والمراجع الفلسفية، أنه حارب التنميط والسيطرة على الفكر أو التلقين الإجباري للفكر، على امل أن تتعلم الأجيال اللاحقة له أهمية إعمال العقل، إلا أنه للأسف الشديد فإن ألمانيا خرجت على مبادئه أكثر من مرة وبخاصة عقب المرحلة التي حكم خلالها هتلر، فقد أصبح مبدأ الطاعة العمياء هو السائد وقتها ، خاصة في ألمانيا التي تمنى كانط كثيراً أن يحولها لعالم مثالي يعمل عقله أكثر من أي شيء آخر، فتطورت الأمور في ألمانيا ومنها لباقي دول العالم وأصبح الفرد ينفذ الأوامر حتى ولو كانت مضادة لقناعاته العميقة تطبيقاً لمبدأ نفذ ثم لا تعترض.

الفيلسوف الألماني كانت

سلوك الطاعة الحيوانية

لا ينظر علماء النفس، لسلوك الطاعة على أنه خير لا شر، بل هو عبارة عن آلية محيرة، حيث أن سماتها الأخلاقية والتكيفية تعتمد على البيئة، أو بمعنى آخر تتوقف على الظروف التي تحدث فيها، مع الأخذ في الاعتبار أن الإفراط في السلوك الخضوعي أو الطاعة العمياء قد ينجم عنها الكثير من المشكلات الاجتماعية المتفاقمة.

ورغم أن الطاعة العمياء لكي تتم تحتاج إلى فاعل ومفعول به، معلم وتلميذ أي أن هناك ملامح بشرية في مكونات العملية برمتها، إلا أن علماء النفس وجدوا الطاعة العمياء في أساسها سلوك حيواني، حيث يمكن ملاحظة سلوك الخضوع والطاعة عند الكثير من الكائنات الأخرى غير الإنسان، مثل قطعان الفيلة وجماعات القردة والحيوانات الرئيسية العليا ومجتمعات النمل والنحل، لكن تعبيراتها عند الكائنات البشرية تحدث في مجال مختلفة، فالبشر هم من يمنحون لبعضهم الآخر حق السلطة والألقاب، يصنعون من أنفسهم دائماً مفعول به، يتحرك تحت ضغط الفاعل او الحاكم وولي الأمر والمسيطر والمهيمن عليهم، تارة تحت مسمى الولاية الأسرية، وتارة أخرى تحت ولاية مجتمعية أو هيكلية أو وظيفية، حتى وإن أدت بهم الأمر لإرتكاب جرائم تحت مظلة هذا الحاكم أو القائد، وهو ما جاء على لسان الكاتب ابراهيم جرجس في أبحاثه حول سيكولوجية الطاعة والخضوع.

وضع المدرسي، في كتابه بعض الملامح الملاصقة للطاعة الإلهية

الطاعة العمياء

طاعة مسموح بها

ربما يجد العلماء علاجاً للدماغ والاعصاب لمساعدة الإنسان على التحكم بقراره، أو تزويده بالعلم والمعرفة لتحصينه من القرارات الخاطئة، إلا أن جميعهم توصل إلى أن الحل الأكمل والأشمل يكمن في إيجاد إطار جديد ينظم الطاعة حتى لا تتسبب في كل الأزمات التي تتسبب فيها الطاعة العمياء سالفة الذكر، ويأتي هذا بتنظيم وضع الفاعل أو الشخص المسيطر، فعلى سبيل المثال الطبيب الذي يعطي تعليمات بتناول الدواء على نحو بعينه، وجبت طاعته، لأنه في هذا الحالة يهيمن ويسيطر بغرض إنقاذ الحياة، وبالرغم من ذلك وجبت مراجعة أكثر من طبيب للتأكد من تعليمات الطبيب الأول قبل تنفيذها.

حسم كتاب “القيادة السياسية في المجتمع الإسلامي”، على لسان السيد محمد تقي المدرسي، الأمر كله، فهو أوضح أن الطاعة في الإسلام خاصة بالله تعالى إذ لا يجوز للمسلم طاعة أحد غيره تعالى، ولكن هناك فرق بين الطاعة الذاتية التي تكون لله، وبين الطاعة الامتدادية التي تكون لله أيضًا، لكنها من خلال شخص آخر، مثل طاعة الوالدين التي يفعلها الفرد بهدف طاعة الله فيطيع الأبوين بغرض إرضاء الله، أي أن طاعة هذا العبد مشروطة بإذن من الله تعالى، واستشهد على وجهة نظره ببعض آيات القرآن الكريم منها قوله تعالى: “وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله”، فلولا أن الله أمر بطاعة رسوله وطاعة أوليائه، لكانت تلك الطاعة نوعاً من الشرك.

ووضع المدرسي، في كتابه بعض الملامح الملاصقة للطاعة الإلهية بينها أن يفعلها الفرد دون ضجر أو غضب، فأهم ما يميزها الورع والتقوى والإيمان والأخلاق وغيرها من الصفات التي يجب توفرها فيمن يقدم طاعته للإله، وهو ما يفسر أنه ليست كل السلوكيات الحالية التي يقوم بها البشر تدل على طاعة سوية ، فلابد من التمعن للتفريق ورؤية الشعرة والحد الفاصل بين الطاعة السوية وغير السوية .