قبل 15 عامًا بالتمام، فجعت مصر في 50 من أبنائها ما بين مبدع وعاشق للفن، راحوا ضحايا حريق قصر ثقافة بني سويف في أثناء متابعتهم لفعاليات مهرجان نوادي المسرح.

حينها هاجم المثقفون وزير الثقافة فاروق حسني، وقال ممن ناجوا من موت محقق إنّ “من لم يمت بالنيران مات دهسًا تحت الأقدام، أو بسبب الإهمال الطبي”.

النيران لم تفرق بين مثقفين كبار، أمثال: محسن مصيلحي، وبهائي الميرغني، وحازم شحاتة، ومدحت أبو بكر، وصالح سعد، وشبابًا في عمر الزهور.

عربات الحماية المدنية التى تبعد عن موقع الحريق مسافة 5 دقائق جاءت بعد مرور ما لا يقل عن 50 دقيقة

غضبة المثقفين، وهي نادرة أجبرت وزير الثقافة على التقدم باستقالته التي رفضت حينها، بعد توقيع أعضاء بالحقل الثقافي على بيان يطالب الوزير بعد الاستقالة، ليظل في منصبه حتى ثورة الخامس والعشرين من يناير، ويبقى أطول وزير مكث بالمنصب لمدة 23 عامًا متواصلة.

وبعد تشكيل لجان تقصي، وتنظيم مظاهرات منددة، وإصدار بيانات شجب، لم يتبقى شيئًا من وجه حريق قصر ثقافة بني سويف، حتى احتفالية التأبين التي تقام كل عام في هذا الشهر “ذرًا للرماد في العيون”، أصبحت طي النسيان.

حركتا “أدباء وفنانون”، و”كتاب من أجل التغيير” اللتين خرجتا من رحم حريق قصر الثقافة، لم يُعد لهما ذكرًا بالأوساط الثقافية، بعد ملأت الحركتين الدنيا تصريحات بشأن فتح ملفات قصور الثقافة، ومسارح الجامعات، وفروع اتحاد الكتاب والثقافة الجماهيرية التي لا ينالها سوى الفتات، وملفات الفساد الإداري.

وحين قضي على محاولات الإصلاح الثقافي، شهد المسرح القومي في بني سويف، حريقًا جديدًا بعد 3 سنوات، ورغم عدم وجود خسائر بشرية، إلا أنه تسبب في خسارة صرح تاريخي افتتح في العام 1921، ولم يتبقى منه سوى حطام “ثقافة”.

انتفاضة المثقفين

“احترقت قلوبنا مع حريق المسرح القومي، عاوزين محاكمة فاروق حسني”.. انتفض المثقفون وقت حريق قصر ثقافة بني سويف، مؤكدين “ذكرى الحريق في قلوبنا ولم ننساها”.

فاروق حسني

وخلال تصريحات صحفية بعد وقوع الحريق، أرجع الأديب فتحي إمبابة، حريق المسرح القومي الذي عده كارثة قومية”، إلى وجود خلال في إدارة المشهد الثقافي عمومًا، وقارن بينه وبين حرائق القاهرة في السبعينات التي غالبًا ما كان ورائها “مجهولين”.

“حريق المسرح القومي يأتي في إطار الإهمال المستشري في بنية الدولة المصرية والمصريين عمومًا”.. فؤاد قنديل

واعتبر أن هناك آيادي خفية تحاول الانتقام من الرموز الوطنية مع عجز الحكومة وقتئذا، وتآكل هيكلها الداخلي وعدم تفاعلها مع مثل تلك الأحداث التي تمثّل قيمة كبيرة في التاريخ المصري والعربي، ويتساءل عن السرقات الأثرية الكبيرة التي تتم تحت دعوى الإهمال ويتسبب فيها الخلل الإداري والانهيارات التي بدأت الشهر الماضي بحريق مجلس الشورى ثم انهيارات الدويقة فالمسرح القومي .

وأضاف “إمبابي” أنه يجب تذكير وزير الثقافة فاروق حسني بأنه بعد محرقة بني سويف الشهيرة في تاريخ وزارة الثقافة المصرية أطلق حملة بملايين عدة للإنفاق على مسارح الوزارة وأجهزتها كي لا تتكرر تلك المأساة مرة أخرى، وهو ما حدث الآن في المسرح القومي.

أما الروائي فؤاد قنديل فقال حينها، إن حريق المسرح القومي يأتي في إطار الإهمال المستشري في بنية الدولة المصرية والمصريين عمومًا، وإن أحداث وزارة الثقافة تجد صدى قويًا ومدوّيًا خصوصًا من الإعلام وكأنها أحداث نادرة أو أن وزارة الثقافة المصرية هي مخصّصة للأحداث المأساوية والدراسة فحسب.

وأكد قنديل أن الإهمال المسبّب لحرائق مسارح وزارة الثقافة ناتج من عدم جود آليات بالعقاب أو الثواب داخل أروقة الوزارة، مضيفا أن مسألة الاستسهال في اتهام وزير الثقافة فاروق حسني غير صحيحة، لأن لكل موقع مسؤولين وإن كان مسؤولاً بحكم رئاسته للوزارة، لكن لا بد من أن توجد قرارات لمحاسبة من يتسبّب في مثل تلك الجرائم.

احتراق البيت

ولم ينس أحدًا موقف سيدة المسرح العربي، سميحة أيوب، التي بكت وهي تقول “بيتنا اتحرق”، وأكملت: “المسرح القومي الذي حمل تراثنا المسرحي والثقافي على مدار تاريخه فجأة تشتعل فيه النيران وتلتهم قاعته التي استقبلت كبار الفنانين الذين وقفوا على خشبتها وقدموا أروع العروض، وفي لحظة واحدة أتت النيران على أحلامنا وذكرياتنا الجميلة وإخلاصنا، ومن دون سبب واضح لذل”.

أصبح مصير الحرقى معلقًا بالمحاولات العشوائية التي قام بها المتواجدون في محيط المسرح لنقل المصابين

وفي تصريحات سابقة، للفنان الكبير محمود ياسين والذي كان في إحدى الفترات مديرًا للمسرح القومي قال: “حتى الآن لا أجد وصفاً ملائمًا لما حدث للمسرح الذي لم يكن مجرد مسرح صغير بل هو من أكبر المسارح ليس في مصر فحسب وإنما في المنطقة العربية كلها، فقد تخرّج منه فنانيون كثيرون، وشهدت خشبته أكبر المسرحيات وأروعها ووقف عليه أكبر الفنانين, وبعد ذلك كله يدمَّر فجأة ويلتهم الحريق أجزاءً كبيرة منه. كلنا غير مصدّقين لما حدث ونشعر بالحزن والأسى ونتساءل لماذا؟ وما السر وراء ذلك الحريق الذي لم نعرف أسبابه حتى الآن؟”.

قوات الحماية المدنية

تقصي الحقائق

يذكر تقرير لجنة تقصي الحقائق الصادر عن “جماعة 5 سبتمبر” التي تشكلت بعد الحادث، أن عربات الحماية المدنية التى تبعد عن موقع الحريق مسافة 5 دقائق جاءت بعد مرور ما لا يقل عن 50 دقيقة. وبعد وصول العربات حاول عمال الإطفاء استخدام الخراطيم لإطفاء الحريق، لكنهم لم يجدوا مياهًا يضخونها.

وهكذا أصبح مصير الحرقى معلقًا بالمحاولات العشوائية التي قام بها المتواجدون في محيط المسرح لنقل المصابين. لكن رفض موظفو المستشفى استقبال الضحايا إلا بعد الانتهاء من الإجراءات القانونية كلفهم نصف ساعة أخرى أضافت إلى قائمة القتلى. وأخيرًا دخل المصابون (أغلبهم بحروق من الدرجة الثالثة) إلى المستشفى ليجدوا أنفسهم في بيئة لا يتوافر بها الحد الأدنى من الرعاية الصحية، مما أضاف إلى الموتى رقمًا جديدًا.

ويذكر التقرير أنه حينما زار وزير الصحة ومحافظ بنى سويف المصابين دبت الحيوية في العاملين بالمستشفى في نوبة نشاط بيروقراطي تعرف العمل فقط حين يظهر الرؤساء.