نشرت مؤسسة “راند الأمريكية للأبحاث والتطوير” دراسة تحت عنوان “استراتيجية الصين الكبرى” استنادًا إلى تقرير نائب رئيس أركان الجيش الذي حمل عنوان “المنافسة الأمريكية الصينية طويلة الأجل”.

ويهدف التقرير إلى مساعدة الجيش الأمريكي على فهم تطور القدرات العسكرية للصين خلال السنوات الثلاثين القادمة، ومن ثم التخطيط لمواجهتها.

الدراسة التي استعرضها “المرصد المصري” تؤكد أن الصين وأمريكا ستدخلان في مواجهة طويلة الأمد، حيث ينخرط كل منهما في نشاط في الشئون العالمية بنظرة تشوبها روح المنافسة والتشكيك في نوايا وأفعال الأخر.

كما كشفت ما تنطوي عليه تلك المنافسة بتحليل وتحديد الاستراتيجية الصينية الكبرى للعام 2050 بجوانبها الاقتصادية والعلمية والعسكرية، وإمكانيات نجاح تلك الاستراتيجية في وضع الصين على الساحة العالمية كلاعب فاعل ورئيسي.

الخطط الوطنية

لطالما أنكر الباحثون الأمريكيون امتلاك الصين استراتيجية كبرى لتطورها ودورها على الساحة العالمية، غير أن دراسة الخطط الصينية الوطنية ووثائق الأمن القومي الصينية وخطب المسئولين هناك، تتناغم وتتناسق وتشمل كافة جوانب السياسة الوطنية الصينية، وتركز على المدى المتوسط دون إغفال المدى الطويل، وهو ما يؤكد عملها ضمن سياق واحد بتوجيه من الاستراتيجية الصينية الكبرى للعام 2050.

يتضمن ذلك الخطط الخمسية للتنمية للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والتماسك الداخلي، وتعزيز سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على السلطة، وتطوير دبلوماسية صينية فعالة خارجيًا، مع الحفاظ على معدلات النمو الاقتصادي المزدهرة في الصين، وتطوير إسهامات الصين العلمية والتكنولوجية، وتطوير وتحسين القدرات القتالية للجيش الصيني.

في الكتاب الأبيض المنشور عام 2013، حددت الصين المخاطر الأربعة للصراعات المحتمل خوضها في المستقبل، وهي: حرب واسعة النطاق للدفاع عن البلاد ضد قوة عالمية مهيمنة تسعي للقضاء على نمو الصين وإيقاف نهوضها، أو حرب على نطاق واسع مع الانفصاليين في تايوان، أو عمليات متوسطة أو صغيرة للدفاع عن النفس في مواجهة تهديدات محتملة أو للتدخل في نزاعات إقليمية تهم الصين، وأخيرًا عمليات محدودة لمواجهة أي تهديدات إرهابية محتملة قد تؤثر على استقرار البلاد.

وتنفذ الصين تلك الاستراتيجية بنجاح عبر إقرار آليات مستقرة في إدارة النظام السياسي والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، بهدف الوصول بالصين عام 2050 إلى دولة تتمتع بحكم جيد ويسودها الاستقرار الاجتماعي، ومزدهرة علميًا وتكنولوجيًا، وتستند إلى اقتصاد قوي ينمو باطراد، وقوة عسكرية متقدمة تقنيًا ومتفوقة.

تنقسم تلك الاستراتيجية إلى مراحل زمنية، على المدى القريب سيكون الاهتمام نحو خلق بيئة سياسية مستقرة، وتطوير نظام الحكم لتلافي الثغرات التي قد تنفذ منها محاولات التدخل الخارجي في البلاد، وعلى المدى المتوسط يحظى الاقتصاد ونشر الدبلوماسية الصينية في العالم وتطوير القدرات العسكرية بالاهتمام الأكبر، وعلى المدى الطويل يحتل التطور العلمي والتكنولوجي الاهتمام الأكبر.

كيف ستبدو الصين عام 2050؟

اهتمت الدراسة بالإجابة على سؤالين، هما كيف ستكون الصين عام 2050؟، وكيف سينعكس وضع الصين الجديد على العلاقات مع أمريكا، ومسار المنافسة العالمية بينهما وسيناريوهات المواجهات المحتملة بحلول منتصف القرن الحالي؟.

السيناريو الأول في حال نجاح الصين في تحقيق أهدافها الكبرى، والثاني في حال نجاح الصين في تحقيق جزء من أهدافها الاستراتيجية وليس كل الأهداف، والثالث يفي حالة فشل الصين في تحقيق أي من أهداف استراتيجيتها الكبرى، والسيناريو الرابع هو انهيار الصين بسبب المشكلات الداخلية والعالمية وتهديد نظام الحكم فيها.

وترجح الدراسة نجاح السيناريو الأول وقدرة الصين على تحقيق القدر الأعظم من استراتيجيتها، خاصة وأن المخططين الصينيين لا يتركون أي هامش للخطأ حيث صياغة أهداف خططهم، وربما بدرجة أقل يمكن لسيناريو التحقيق الجزئي للأهداف أن يكون واقعيًا، لكن انهيار الصين أو فشلها التام في تحقيق أهدافها يبدو أمرًا يصعب تصديقه في ظل إثبات نظام الحكم الصيني لمهارته في التنظيم والتخطيط على مدى العقود الماضية.

محطات على طريق العلاقات

مرت العلاقات الأمريكية – الصينية بعدة انعطافات هامة عبر تاريخها، استمرت العلاقات باردة لعقود منذ استقلال الصين تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني، لكنها اكتسبت الكثير من الدفء بعد صياغة ماوتسي تونج الزعيم الصيني الكبير للتهديدات التي تواجهها بلاده من وجهة نظره، ووضعه الاتحاد السوفييتي على رأس هذه التهديدات وليس الولايات المتحدة، مما مهد الطريق لزيارة الرئيس الأمريكي نيكسون للصين عام 1972.

موجة من التوتر شابت العلاقات بعد عام 1989 بعد قمع الصين الدموي للمظاهرات المطالبة بالديمقراطية، واتهام الصين للولايات المتحدة بالتآمر ودعم الاحتجاجات للإطاحة بنظام الحكم في الصين، وبسقوط الاتحاد السوفيتي ازدادت المخاوف الصينية من أن تكون هي التالية في السقوط خاصة بعد استخدام الغرب للحدث في ترويج انتصار الرأسمالية النهائي على كل نظم الاقتصاد المخطط الاشتراكية.

سيناريوهات المواجهة

“الشركاء المتوازيين”، طرحت الدراسة سيناريو التعاون بين البلدين والسعي لتخفيف حدة التوتر بينهما، كما كان الأمر حتي عام 2018، والعمل معًا في القضايا الدولية والتعاون الاقتصادي والأمني، لكن مناخ انعدام الثقة الذي نما مؤخرًا خاصة في فترة حكم “ترامب” قد يجعل من هذا السيناريو صعب التطبيق، كما أن صعود الصين وازدهارها أمر مقلق للولايات المتحدة ولا يمكن أن يكون دافعًا لتعاونها مع الصين عالميًا.

السيناريو المحتمل الثاني، هو “التصادم بين المتنافسين” في ظل بيئة من المنافسة والتوتر بين البلدين، ونجاح الصين وازدهارها اقتصاديًا وتكنولوجيًا، قد يشجع العسكرية الصينية على السعي لطرد الوجود العسكري الأمريكي في شرق آسيا، وهو ما قد ينذر بمواجهات وصراع على نطاق واسع وربما عالميًا.

السيناريو الأقرب والذي ترجحه الدراسة هو “تباين الاتجاهات” أو الصعود والهبوط بالتعاون أحيانًا في نشاط ما وحسب نوع القضية/ والتنازع والتوتر أحيانًا أخرى.

وترى الدراسة أن هذا ربما يكون التصور الأمثل للقيادة الأمريكية ضمن استراتيجيتها لإسقاط الصين وتحجيمها عبر خلق صراعات داخلية وتوترات تشغلها عن تحقيق أهدافها الكبرى والتوسع عالميًا.

ودعت الدراسة الجيش الأمريكي إلى توقع زيادة المخاطر على قواته العسكرية المنتشرة في الفلبين وكوريا واليابان الملاصقة جميعها للصين، وضرورة أن تحظى تلك القوات بأعلى مستوى من الجاهزية القتالية، وتطوير خطوط الإمدادات التي قد تحتاجها في حالة نشوب صراع مسلح مع الصين.

وتفتقد القوات الأمريكية في شرق آسيا إلى ميزة البر والأرض التي تحظى بها قواتها في أوروبا، فهنا في آسيا تحتاج إلى خطوط إمدادات بحرية وجوية طويلة المدى، وهو ما يتطلب توجيه الكثير من الإنفاق العسكري نحو التواجد العسكري في الشرق الأقصى، خاصة مع توقعات بقدرة العسكرية الصينية على منافسة التفوق العسكري الأمريكي بحلول 2030.

المحيط الإقليمي للصين

تضع أهداف الاستراتيجية الصينية الكبرى البلاد في منافسة بل ومواجهة مع الولايات المتحدة وحلفائها المهيمنين على الساحة الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وهي تسعى إلى تجنب المواجهة لأطول وقت ممكن عبر اكتساب ميزات تنافسية من خلال الازدهار الاقتصادي والتكنولوجي، دون خلق تهديد لجيرانها لتحفيزهم على مواجهة التطلعات الصينية أو الارتماء أكثر في براثن السياسة الأمريكية.

ورغم القلق البالغ لدى القوى الإقليمية الأخرى في المنطقة، مثل الهند واليابان من الصعود الصيني، وتدخلها المتزايد في الصراعات الإقليمية والذي يشمل استعراضًا للقوة أحيانًا، إلا أن الصين كشفت عن براعة كبيرة في إدارة العلاقات مع حكومات تلك الدول من خلال التوغل مع القوى السياسية المختلفة وخلق علاقات مصالح مع النخب الحاكمة.

إفريقيًا نجحت الصين في التوغل في القارة السمراء عبر مشروع مبادرة “الحزام والطريق” وإنشاء شبكة ضخمة من السكك الحديدية والطرق وخطوط الأنابيب والمطارات والموانئ التي تربط كل أطراف القارة بالصين واقتصادها، لربط تطور هذه البلدان بصعود الصين وإبرازه على أنه مفيد ويشمل أيضًا الكثير من البلدان وليس الصين فقط من تجني عوائده.

وأخيرًا نحاج الصين الاقتصادي وازدهارها التكنولوجي ربما يكون بلا حماية لو لم يتواكب مع تطوير قدرات قتالية ودفاعية للجيش الصيني، وهو ما تعمل عليه الصين بتركيز وتوسع كبير من خلال إعادة نشر قواتها على كل الجبهات المحتملة للصراع والكشف تدريجيًا عن قدرات تكنولوجية كبيرة في مجال التسليح.