حساسية من نوع خاص تربط المصريون بملف “الديون”، تتحكم بها عوامل تاريخية سابقة، كان يُعتبر الدين فيها بمثابة مسمار جحا، الذي فتح الباب للتدخل في الشؤون الداخلية.
لم تعد الدول، تشعر بالقلق من ارتفاع الدين العام، خاصة الخارجي، مهما بلغت نسبته إلى الناتج المحلي أو أرقامه المجردة، حتى أن القدرة على الاقتراض أصبحت أمرًا محمودًا، يدل على ثقة المؤسسات الدولية في الاقتصاد الكلي، وقدرته على السداد.
الدين العالمي
بلغ حجم الدين العالمي في سبتمبر 2019، نحو 253 تريليون دولار، وفقًا لتقرير معهد التمويل الدولي لمراقبة الديون، بينما حذر صندوق النقد الدولي من ارتفاع مستويات الدين في الاقتصادات الناشئة والمتقدمة على حد سواء بسبب الإنفاق الموجه لتنشيط الاقتصاد في ظل أزمة فيروس كورونا.
قبل أيام، أعلنت بريطانيا تجاوز الدين العام المحلي لها حاجز 2 تريليون جنيه إسترليني، بما يعادل 2.65 تريليون دولار أمريكي، وبنسبة تتخطى 100.5% من الناتج المحلي الإجمالي، ولم تُبدي “المالية” الإنجليزية قلقًا كبيرًا، إزاء تلك النسبة التي تعتبر الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية في 1961.
جاءت القفزة الكبيرة في المديونية البريطانية، جراء تداعيات جائحة كورونا التي تطلبت زيادة ضخمة في الإنفاق الحكومي، وتخفيضات ضريبية للتيسير على أصحاب الأعمال، وارتفاع كبير في عجز الموازنة، ما كبد الاقتصاد نحو 200 مليار جنيه إسترليني كديون.
لم تعد الديون، أمرًا مقترنًا بالدول النامية الضعيفة، بل مشكلة لا تخلو منها الاقتصاديات الكبيرة أيضًا كالولايات المتحدة، التي قفزت ديونها بنحو 3 تريليونات دولار منذ أزمة كورونا، لتبلغ 27 تريليون دولار، ما أفسد خطط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي وعود بتقليص الدين العام.
أرقام قياسية
تحتل اليابان، المرتبة الأولى بقائمة الديون المحلية في العالم، بالنسبة للناتج المحلي وليس كرقم مطلق، بعدما بلغت نسبته 235.96% من ناتجها المحلي الإجمالي بما يعادل 12 تريليون دولار، وهي مصنفة ضمن أكبر خمس اقتصاديات.
تضم قائمة الدول الأكثر مديونية، تنويع بين الأسماء الكبيرة مثل إيطاليا التي يُعادل دينها العام 133% من الناتج المحلي الإجمالي، وفرنسا بنسبة 115%، واليونان بنسبة 191.27%، ولبنان بنسبة 160.6%، وفنزويلا بنسبة 161.99%.
الدين العام في مصر
ويثير ملف الدين العام في مصر، الذي يدور حاليًا في مستوى 82%، حالة من الجدل حول الحدود الآمنة، فالحكومة تعتبره ضروريًا لاستمرار عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مع وجود استراتيجية لاستبدال الديون قصيرة الأجل ذات العائد المرتفع بقروض طويلة الأجل بفائدة أقل.
وزير المالية محمد معيط، أكد على هامش مؤتمر لافتتاح مشروع تطوير ترعة المحمودية وعدد من المشروعات القومية بالإسكندرية، إن سياسات الوزارة نجحت في خفض الدين من 108% من الناتج المحلي إلى 82%، لافتًا إلى أنه لولا تفشي كورونا لنجحت في خفض النسبة إلى 79%، ليصبح في الحدود العالمية الآمنة.
ووفقًا لآخر الإحصائيات الرسمية الصادرة عن البنك المركزي ووزارة المالية، فإن الدين المحلي سجل 4.3 تريليون جنيه بنهاية مارس الماضي، بينما بلغ الدين الخارجي خلال الفترة ذاتها 106 مليار دولار.
الحدود الآمنة
وتقدر الكثير من المؤسسات الدولية، الحدود الآمنة للدين عند 60% من الناتج المحلي، بينما ترفعها بعض الدراسات الأكاديمية إلى 70% من الناتج، لكن الأمر كله مشروط بوجود احتياطي جيد من العملات الأجنبية.
وتوقع صندوق النقد الدولي، أن ترتفع نسبة الدين العام لمصر، إلى 91.5% بنهاية العام المالي 2020/2021، على أن يتراجع إلى 86.7% نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، بنهاية العام 2021/2022.
الاقتصاد الموازي
الخبير الاقتصادي شريف دلاور، يقول إنه لكل دولة وضعها الخاص في ملف الدين العام، فإذا كانت الدولة صادراتها قوية، ولديها احتياطيات قوية من العملات الأجنبية، فلا توجد مشكلة في ارتفاع حجم مديونياتها سواء الداخلية والخارجية.
يُعد الأردن مثالًا على ذلك، فرغم أن دينه العام، لا يتجاوز ٤٥ مليار دولار لكنه يمثل أزمة مزمنة للحكومة في تغطيته، في ظل ارتفاع عجز الميزان التجاري، وضعف حجم الصادرات.
أما اليابان، فتمثل حالة خاصة فرغم ارتفاع مديونياتها لكن 95% من دينها العام داخلي طويل الأجل يتجاوز عشر سنوات ومعدل الفائدة في فلك 1%، كما تمتلك احتياطي نقدي، وصادرات ضخمة مع حجم صادرات كبير يضم أشهر الماركات في التقنيات والسيارات.
ويرى دلاور، أنه لا يوجد تحديد ثابت لسقف المديونية في الأكاديميات الاقتصادية، فلكل دولة أو تجمع اقتصادي قواعده الخاصة، وكل تلك المؤشرات يمكن وضعها تحت بند التوجيهات أكثر من توصيفها كنسب اقتصادية ملزمة.
يضيف الخبير الاقتصادي، أن الإشكالية الرئيسية في حساب الدين العام تتعلق بكيفية حساب الناتج المحلي، ففي مصر لا يتم حساب الاقتصاد الموازي الذي يعادل نحو 40% من الناتج المحلي، وكثير من قوة العمل في قطاع الزراعة، أو العمل المنزلي للسيدات.
الدين المحلي
ويتفق خبراء الاقتصاد، على صعوبة تقدير حجم المخاطر المتعلقة بملف الدين العام لاتسامه بعنصري المرونة والآنية، فما يعتبر آمنا في ساعة معينة قد يكون خطيرًا في الساعة التالية، وكلما اتسم الاقتصاد بالمرونة والقدرة على التعويض كانت فكرة الاقتراض بشقيه الداخلي والخارجي لا تمثل أي مشكلة.
تمثل الدول ذات الاقتصاد المتنوع التي تعتمد على الإيرادات الريعية والخدمية والصناعية، مثالًا على ذلك، ففي حال تضررت قطاعات داخلية كالسياحة أو السفر أو تحويلات العاملين، كانت قادرة على التعويض بالتصدير، وسوق الطاقة.
يؤكد المفكر الراحل جمال أمين، في كتابه “الاقتصاد المصري.. من عهد محمد علي إلى عهد مبارك”، أن حقوق الدائنين كان وبالًا على مصر في فترات من تاريخها .
يقول محمد فؤاد عضو لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، إن الاقتصاد العالمي حاليًا لا يتضمن دولة واحدة بلا ديون، والمحك الرئيسي هو الحدود الآمنة التي لا يجب أن تتعدى حجم الناتج المحلي.
ويشير فؤاد، إلى أهمية أن تكون آجال السداد على فترات زمنية بعيدة، وليست متقاربة حتى تستطيع الدولة الوفاء بها، وهي سياسة تتبعها وزارة المالية حاليًا باستبدال الديون قصيرة الأجل بأخرى طويلة الأجل لتخفيف الضغط على الموازنة،
لا يلتفت كثيرون إلى أن مشكلة الدين المحلي ليست في نسبته إلى الناتج المحلي ولكن نسبته إلى ودائع البنوك التي تفضل إقراض الدولة عن القيام بدورها الأصلي في إقراض المستثمرين لخلق المزيد من المشروعات ودفع معدلات التشغيل.
يتطلب للسيطرة على ملف الدين، تفعيل سوق السندات الثانوية بالبورصة الذي لا يزال ضعيفًا وتستحوذ البنوك على كل تعاملاته على عكس الأسواق الأخرى المتوافر بها أسواق ثانوية نشطة مما يسمح بتوفير تمويلات متوسطة وطويلة الأجل للشركات، عبر توسيع قاعدة المستثمرين، واستحداث آليات مثل بيع وإعادة شراء السندات.