“وإنّ كُلـيبًا كــان يَظــلم قومَــه فأدركـه مثلُ الـذي تَريانِ
فلما حَشاه الرمحَ كفُّ اْبن عمّه تذكّر ظُلم الأهل أيّ أوانِ
وقـال لجسّاسٍ أَغِثْني بشـرَبة وإلا فخَبِّر مَن رأيتَ مكاني
فقال: تجاوزتَ الأحصَّ وماءه وبَطن شُبيثٍ وهو غير دِفَانِ”
هكذا أنشد عمرو ابن الأهْتم، حول واقعة مقتل الملك كليب، وائل بن ربيعة بن الحارث بن مُرة بن زهير بن جُشم، على يد ابن عمه جساس بن مُرة بن ذُهل بن شَيبان، تلك الواقعة التي فتحت الباب لحرب ثأرية استمرت 4 عقود بين أبناء العمومة، سميت بـ”حرب البسوس”.
راوض كليب، منذ صغره حلم تأسيس المملكة، فهو الذي رأى الممالك، وجالس الملوك، وعاملوه كند، بل وهزمهم يوم خزاز حين حاول “التبع اليماني” إذلالهم
كليب ملك العرب
راوض كليب، منذ صغره حلم تأسيس المملكة، فهو الذي رأى الممالك، وجالس الملوك، وعاملوه كند، بل وهزمهم يوم خزاز حين حاول “التبع اليماني” إذلالهم بعدما احتجز أسرى من “مُضَر وربيعة وقضاعة”، طالبًا أن يحضر زعماء القبائل ليأخذ عليهم المواثيق بالطاعة، فأبت قبائل “معد” أن تحمل هذا الذل، فاجتمعوا على كليب، قائدًا لهم، فظفروا بالنصر على اليمنيين، “تذكُر النصوص الأدبية أن سبب الحرب هو طلب التبع اليماني الزواج من الجليلة ابنة عم كليب وحبيبته، لكن هذه الحكاية لا تعدوا خيال مؤلف، ولم يوجد ما يدعمها تاريخيًا”.
أراد الرجل أن يجمع العرب تحت ظل مملكة تحيطها الأسوار، وتأتمر كلها بأمر رجل واحد، وأن يُنهي حياة البداوة، ووجد الفرصة بعدما هزم اليمنيين، ونُصب ملكًا، لكن العرب لم يكونوا يعرفون الممالك ولا ينصاعون لجبروت الملوك، فتأففوا من أمور كليب، لكنهم لم يُقبلوا على مواجهته، حتى اندلع الصدام بينه وبين أبناء عمومته، خاصة جساس بن مرة والذي كان من أشجع فرسان قبيلته.
شرع كليب، بعد تنصيبه في إنشاء سور حول أرض تهامة والتي تقع بين اليمن والحجاز، حيث كانت تعيش قبيلة تغلب التي ينتسب إليها كليب، وقبيلة بكر أبناء عمومته والتي كان ينتسب إليها جساس ويتزعمها أبوه مرة بن ذهل، وعدد من القبائل التي بايعته ملكًا، هذا السور الذي أراد كليب أن يحيط بعاصمة ملكه الناشئ.
“كُليب بن ربيعة هو الذي يُقال فيه: أعزّ من كليب وائل، وقاد معدًا كلها يوم خَزاز ففضّ جُموع اليمن وهَزمهم”.. ابن عبد ربه الأندلسي
تجبر كليب
لم يراعي كليب، طبيعة القبائل العربية، التي عاش بها وأدرى الناس بحال أهلها، ولا تكوينها البدوي، ولا آليات حياتهم ووسائل عيشهم، فأراد أن يكنس كل هذا بضربات سريعة، ليحول قبائل معدّ إلى رعايا في مملكته، وفرسانها إلى جنود في جيش الملك، فوضع أول بذرة لجيش نظامي ضم إليه فرسان القبائل، وأراد أن يُنهي حياة الترحال والهجرة وراء المراعي، لكن مشروعه لم يكن قد تبلور بعد، حينما وقعت الحادث الجلل بمقتله على يد جساس.
يقول ابن عبد ربه الأندلسي، في مؤلفه “العقد الفريد”: “كُليب بن ربيعة هو الذي يُقال فيه: أعزّ من كليب وائل، وقاد معدًا كلها يوم خَزاز ففضّ جُموع اليمن وهَزمهم، فاجتمعت عليه معد كُلها وجعلوا له قسمِ المَلك وتاجَه وتحيّته وطاعته، فغَبر بذلك حينًا من دهره ثم دخله زهوٌ شديد وبغى على قومه لما هو فيه من عِزّة وانقياد معدّ له حتى بلغ من بَغيه أنه كان يَحمي مواقع السحاب فلا يُرعى حِماه ويُجير على الدَهر فلا تُحفر ذمّته ويقول: وَحش أرض كذا في جواري فلا يُهاج، ولا تورد إبلُ أحدٍ مع إبله ولا ترعى معها، ولا توقد نار مع ناره”.
لم يأخذ كليب أبناء عمومته، أولاد مرة بن ذهل، أصهاره، أنصارًا له ليعضضوا ملكه، بل تجبر عليهم
ناقة البسوس
لم يأخذ كليب أبناء عمومته، أولاد مرة بن ذهل، أصهاره، أنصارًا له ليعضضوا ملكه، بل تجبر عليهم، فمنعهم أن يوقدوا نارًا لضيف إلا بأذنه، أو أن يصطادوا في أرض إلا بأمره، ومنع إبلهم من ورود الماء، فضاق فرسان بكر وعلى رأسهم جساس بن مرة، لكنهم صبروا على أذى ابن عمهم، إلى أن رمى كليب ناقة تدعى “سراب” برمح في درعها عندما وجدها ترعى مع إبله دون إذنه، وكانت سراب ناقة “البسوس بنت مُنقذ” خالة جساس وضيفته، التي نزلت في جواره، فحانت ثورة جساس التي اختمرت في صدره بعد سنوات من الصبر على أذى كليب.
مقتل كليب
بعدما رمى كليب “سراب” بسهمه، راحت البسوس تصرخ، مستنهضة جساس، فلم يكن الرجل يحتاج سوى لهذه الواقعة لينفُض عنه وعن قومه ذل كليب، فلحق بابن عمه كليب، لكن جساس حتى وهو في قمة غضبه وإحساسه بالعار، كان يتمنى أن يراعي ابن عمه صلة الرحم، أو ربما كان جساس رغم شجاعته يتهيب المَلك، فكليب كان فارسًا وملكًا له هيبته، فخاطبه جساس، كما يخبرنا “العقد الفريد” قائلًا: “أيا أبا الماجدة عمدتَ إلى ناقة جارتي فعقرتها”، فرد عليه كليب متهكمًا: “أتُراك مانِعي إن أذُبّ عن حِماي”.
هنا أدرك جساس، أن اللحظة حانت لا محالة فلم يكن رمي ناقة البسوس، سوى الشرارة، فطعن كليب “فقَصم صُلبه” وأكمل عليه عمرو بن الحارث، والذي كان يرافق جساس “فطعنه من خلفه فقطع بَطنه فوقع كُليب وهو يَفْحص برجله”، هكذا مات الملك، يستجدي شربة ماء من قاتلِيه فلا يغيثه أحدهما، مات غدرًا في عيون أهله التغلبيين، وجبارًا نال جزائه في عيون أبناء عمومته البكريين.
هَمَّ المُهلهِل عدي بن ربيعة، الملقب بسالم الزير، شقيق كليب، وحامل دمه، لأخذ ثأر أخيه الملك، لكن حكماء القبائل توسطوا ليطرحوا صلحًا شريفًا على مُرة بن ذهل
الثأر
بعد مقتل كليب، هام جساس على وجهه في الصحراء، فهو كان يعلم أن قومه سيسلمونه إلى التغلبيين، لدرء الحرب.
هَمَّ المُهلهِل عدي بن ربيعة، الملقب بسالم الزير، شقيق كليب، وحامل دمه، لأخذ ثأر أخيه الملك، لكن حكماء القبائل توسطوا ليطرحوا صلحًا شريفًا على مُرة بن ذهل، فذهبوا إليه يتزعمهم الحارث بن عباد ومعه اثنين من إخوة كليب وقدموا عرضهم كما جاء في مؤُلف ابن عبد ربه: “نعرض عليكمِ خِلالًا أربع لكم فيها مَخرج ولنا مَقنع فقال مُرة: وما هي؟ قالوا له: تحيي لنا كليبًا، أو تدفع إلينا جَساسًا قاتلَه فنقتله به أو همّامًا “شقيق جساس” فإنه كُفء له أو تُمكننا من نفسك فإنّ فيك وفاء من دمه”.
فرد مُرة: “أما إحيائي كُلَيبًا فهذا ما لا يكون، وأمّا جَسّاس فإنه غلام طَعن طعنةَ على عَجَل ثم ركب فرسَه فلا أدري أيّ البلاد احتوى عليه، وأمّا همّام فإنه أبو عَشرة وأخو عَشرة وعَمّ عشرة كُلهم فُرسان قومهم فلن يُسلموه لي فأدفعه إلَيكم يُقتل بجرَيرة غيره، وأما أنا، فهل هو إلاّ أنْ تَجول الخيلُ جولة غدًا فأكونَ أوّلَ قتيل بينها فما أتعجَّل من الموت”.
كان رد مُرة قاسيًا على الجميع، فالرجل لم يقبل تسليم ولده همام، ولم يقبل أن يؤخذ هو بدم كليب، ولو تعقل لفعل، لقد كان هذا العرض آخر كلام عاقل سمعته “معدّ” وشبه الجزيرة العربية كلها طيلة أربعين سنة دارت فيها رحى الحرب، دون أن تتوقف لحظة إلا بعد أن حصدت رقاب آلاف تعبت السنين من عدها.
وقعت الحرب بين بكر وتغلب، واعتزلها الحارث بن عباد، فارس “معد” وحكيمها، كما اعتزلها الكثير من البكريين، ممن رأوا أن مرة كان عليه أن يسلم أحد أبنائه جساس أو همام، لحقن الدماء.
“أكثرت قتلَ بني بكر بِربّهم.. حتى بكيتُ وما يَبْكي لهم أحدُ.. آليتُ بالله لا أرضىَ بِقَتْلهمِ.. حتى أبهرج بكرًا أينما وُجدوا”.. الزير سالم
أمير الدم
إلى هذا، ربما كانت حرب “الزير سالم” تبدو عادلة رغم تجبر كليب، وانتفاض جساس لكرامته وكرامة أهله، حتى بعد أن عرض مُرة عرضه بأن يأخذ التغلبيين أحد أولاده عدا همام وجساس، ليقتلوه بدم كليب، أو يقبلوا الدية ألف ناقة، لكن طلب العدل انقلب إلى بغي، فقد أُخذ بدم كليب آلاف من بكر من بينهم همام وولديه، في عدد من المعارك كانت الغلبة فيها جميعها لتغلب، ولم يسمع “المُهلهِل” طيلة هذه السنوات أي نداء للصلح، وأعمل سيفه في بكر حتى كاد يبيدهم، فأنشد يقول: “أكثرت قتلَ بني بكر بِربّهم.. حتى بكيتُ وما يَبْكي لهم أحدُ.. آليتُ بالله لا أرضىَ بِقَتْلهمِ.. حتى أبهرج بكرًا أينما وُجدوا”.
استمرت الحرب، حتى قتل الزير سالم، بجير بن الحارث بن عباد، وكان الحارث قد أرسله إلى “الزير” ليقتله بدم كليب
“تحلاق اللمم”.. وخسة المهلهل
استمرت الحرب، حتى قتل الزير سالم، بجير بن الحارث بن عباد، وكان الحارث قد أرسله إلى “الزير” ليقتله بدم كليب، ووقف الحرب، فتهكم سالم، عليه، قائلًا: “أأنت بكليب! موت بشِسْع نَعْل كُليب، فطعنه، قتل الصبي دون أن يعطه فرصة للدفاع عن نفسه، ظن الحارث أن ولده مات حقنًا للدماء، فلما علم ما كان من الزير، أعد بني بكر وحلفائها للقاء الزير في معركة عرفت بـ”يوم تحلاق اللمم” لأن الحارث أمر جيشه بحلق رؤوسهم حتى يتعرفوا على بعضهم لأنه قرر ملاقاة الزير ليلًا.
في “تحلاق اللمم”، نستطيع أن نرى صورة مغايرة للمهلهل، فالرجل الذي خاض حرب طيلة أربعين سنة، قتل فيها مئات الآلاف من العرب، لم يكن بهذه الشجاعة، فاحتال على الحارث عندما وقع أسيرًا في يديه، وكان الحارث تعدى الثمانين من عمره، ولم يسعفه نظره في التعرف على الزير، فقال له الحارث وهو بين قبضته: “دلني على عدي بن ربيعة وأُخلي عنك” فقال له المُهلهِل: “عليك العهود بذلك إن دللتك عليه؟” فقال له الحارث: “نعم” فقال المهلهل:”فأنا عدي”، فطلب الحارث أن يدله على رجل كفء لـ”بجير” فدله على امرئ القيس بن أبان، فقتله الحارث.
هذ الموقف، أظهر خسة الزير سالم، فقد وشى بصديقه ورفيقه ونصيره في حرب استمرت لأربعين سنة، لينجو بحياته، انتهت الحرب ليس لأن الزير اكتفى من الدم، لكن لأنه هزم وقصم ظهره، وانتهى هو الآخر أسوأ نهاية يمكن أن يلقاها فارس.
جساس ليس نذلًا
لا نعقد هنا مقارنة بين جساس والزير سالم، ولا نحاول الانتصار لجساس على حساب “الزير”، أو على الملك كليب، لكننا نرصد رواية أخرى توارت بين ركام السنيين، رواية انتفض فيها جساس ضد جبروت الملك، رافضًا المذلة متمردًا في وجه سلطة ناشئة لملك كانت تقول المعطيات التي صاغها هو بنفسه إن مملكته ستكون من أكثر الممالك قمعًا، فقد حرم على أبناء القبائل الرعي والصيد وورود الماء إلا بإذنه، وادعى أنه يحمي الوحوش في الجبال فلا يروعها أحد، رواية تقول إن جساس لم يكن نذلًا ولا خسيسا.