“أحمل في قلبي حبًا وانتماءً وصرت منبوذًا في بلادي”.. لسان حال “البدون” في السعودية، الذين لا يفرق بينهم وبين المواطنين السعوديين سوى مجموعة من الأوراق تمنح للبعض شرف الانتماء لدولته، وتحرم آخرين، بل وتصنفهم على أنهم طفيليون لا حق لهم في الهوية والتملك والتعلم، وغيرها من الأمور الحيوية والأساسية.
شعور بالدونية
“الدونية” قريبة جدًا وملاصقة من أي مواطن وقع تحت مقصلة اللقب الذي يصنف على أنه معيب وحقير وهو “البدون”، فهو الأدنى في كل شيء، بداية من أبسط حقوق الحياة وصولًا إلى التملك والتوظيف والترقي، مرورًا بفرص الزواج والاندماج.
نعم هناك من يعيش عمره حاملًا هذا اللقب “بدون”، وبالتالي لا حق له في الاندماج داخل مجتمعه بقرار من الدولة التي ينتمي إليها ويحيا تحت سماءها فاقدًا لفتات الخدمات الأساسية والتي يأتي على رأسها الزواج والاستشفاء وأغلب المعاملات المالية.
لا يستطيع “البدون” استخراج جواز سفر سواء كان الهدف الدراسة أو العلاج حيث تعتبر هذه الرغبات محرمة تمامًا عليهم، إلا أنه قد يتمكن من الحصول على تذكرة مرور مؤقتة أيضًا على غرار البطاقة السوداء لمدة 6 أشهر فقط، ولكن حتى مع وجود هذه البطاقة فهي لا تسمح بدخول الدول الخليجية.
بل إن مستقبل من تم تجنيسه من “البدون” لا زال معلقًا، فهم يقعون تحت بند رقم “9” من القانون المعمول به، والذي يحرم أبناءهم من الوظائف العسكرية والرسمية وكذلك التعليم، كما أن المصارف أغلبها لا تتعامل معهم على الطلاق.
من هم “البدون”؟
مجموعة من البدو الرحل، عاشوا حياة التنقل بين عدد من الدول منها “الكويت والسعودية والأردن والعراق”، لم يتمكنوا من تسجيل أنفسهم في الإحصاء الرسمي للبلاد مطلع السبعينيات واسمهم هو اختصار لـ “بدون جنسية” ونسبة لفقدانهم ما يعتبره المواطنين المثبتين في الأوراق شرف بدونه يصبح المواطن منبوذ.
و”بدون السعودية” يختلفون نسبيًا عن “البدون” الآخرين في دول الخليج، حيث يحمل بعضهم بطاقة سوداء “بطاقة تعريف مؤقتة لمدة 5 سنوات” ومجموعة منهم تحمل شهادات ميلاد، وبعضهم أيضًا ينتمي لليمن حصلوا بالفعل على الجنسية السعودية، وعند قيام حرب الخليج الثانية انتزعت منهم الجنسية عام 1991.
وينقسم البدون إلى ثلاثة أقسام على النحو التالي:
“بلوش البريمي”، وهم سكان منطقة البريمي الحدودية بين السعودية وعُمان.
والجاليات الإسلامية من آسيا التي استوطنت مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف وجدة كالبخارية، والتركستان، والبرماوية والإندونيسية.
والقسم الثالث والأخير “الجاليات العربية والإفريقية التي استوطنت بعد أداء العمرة والحج”.
وهناك أيضًا تصنيف حقوقي للبدون السعوديين، قسمهم إلى 5 فئات، وهم “من تم سحب الهويات منهم لبلاغات تشكك في آلية حصولهم على الهوية”، و”فئة سحبت هويتهم أثناء تصحيح بياناتهم تعللا بعدم ثبوت نسبهم السعودى”، كذلك “الحلفاء وهم من صدرت لهم بطاقة سوداء ولم يحصلوا على الجنسية”، و”من قدموا للسعودية لأداء فريضة الحج أو العمرة عبر الحدود ومكثوا بطرق غير شرعية”، والفئة الخامسة والأخيرة هم “من صدرت لهم بالفعل الموافقة على الجنسية ولم تصدر بعد ولا زالوا قيد الانتظار”.
بطاقة سوداء
حصل عدد من “البدون” على بطاقة سوداء لا يزيد عمرها عن 5 سنوات فهي مؤقتة ومن ثم جميع الخدمات التي يحصل عليها حاملها مؤقتة أيضًا على غرار البطاقة، ويظل صاحب هذه البطاقة رهن التجديد متجرعًا ويلات البقاء بدون أوراق ثبوتية.
وتكمن الطامة الكبرى في تغيب أي شخص عن موعد تجديد البطاقة السوداء التي يتم تجديدها في “حفر الباطن” بغض النظر عن مكان إقامة الراغبين في التجديد والتي يستغرق تجديدها وفقًا لمن قاموا بالتجديد نحو شهر كامل.
وحاملو البطاقات السوداء لا يمكنهم تملك أكثر من سيارة أو تملك أرض أو منزل، وفى فترة تجديد البطاقة تتوقف أغلب الخدمات والإجراءات القانونية والتي يأتي منها تجديد رخصة القيادة واستخدام الحساب المصرفي وهو أقرب لتوقف كامل للحياة.
ورغم صدور قرار ملكي عام 2001 يفيد بمنح الجنسية لكل من حمل بطاقة الـ 5 أعوام وأسرته، إلا أن القرار تمت المماطلة في تنفيذه ولم يُفعل على أرض الواقع.
مماطلة حكومية
قبل 13 عامًا صدر مرسوم ملكي بمنح الجنسية لعدد من القبائل من بينها “عنزة وبني خالد وشمر والأساعدة” بالإضافة الى حلفائهم.
مشكلة البدون قائمة منذ أكثر من 60 عامًا والسلطات السعودية تطلق عليهم اسم “النازحين” وتماطل في جميع الإجراءات المتخذة بشأنهم، كما أنها عادة ما تتلكأ في تنفيذ تعهداتها بشأنهم خاصة الخدمات الضرورية للحياة والتي يأتي على رأسها العلاج والتعليم وفرص العمل.
وهناك تباين ملحوظ في حصر عدد “البدون” داخل المملكة العربية السعودية، ففي الوقت الذي قدرته المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة بنحو 70 ألف شخص، أعلن عدد من الإحصائيات الأخرى أنه يصل لنحو 150 ألف شخص.
الزواج العرفي مصير محتوم
لا يستطيع “البدون” إتمام إجراءات الزواج الرسمي، لذا فملاذهم الوحيد هو الزواج العرفي لعدم وجود أوراق ثبوتية في حوزتهم.
عدد من النشطاء الحقوقيين السعوديين أكدوا أن حياة المواطن داخل السعودية عبارة عن رقم آلي “رقم في الحاسوب يحمل كامل المستندات”، وفى حال غياب هذا الرقم لا توجد أي إمكانية لإتمام أي إجراء حكومي ومنه الزواج والتملك.
وتم رصد أكثر من 10 آلاف حالة زواج مخالفة تمت بدون توثيق حتى عام 2014م، وفقدت الإحصائيات في الفترة اللاحقة، إلا أن عددًا كبيرًا من المختصين بالشأن أكد أن العدد قد تضاعف خلال الأعوام الست اللاحقة.
حياة “البدون” وأماكن تواجدهم
يتواجد أغلب “البدون” في أحياء النظيم والنسيم وحفر الباطن وأطراف الرياض والجنادرية والمنطقة الشمالية من رفحاء وعرعر الى القريات والجوف.
وعن حياتهم فبعيدًا عما رصدته عدسات الكاميرات حول المنازل التي تم إنشاؤها من بقايا الحديد والأخشاب، يمكن تخيل حياة أسرة لا تحمل بطاقة هوية أو رقم آلي في السعودية فهم لا يستطيعون ارتقاء وظائف تدر دخلًا لائقًا، لأن الشركات والمؤسسات تطلب الرقم الآلي قبل الالتحاق بأي وظيفة، بالإضافة أنهم لا يمكنهم العلاج فحياتهم تعد الأكثر بؤسًا على جميع المستويات وهي بالفعل “عيشة رحالة بدو أو نازحين” تشبه كثيرًا الحياة المؤقتة على طريق السفر ولكنها بالنسبة لهم دائمة وقائمة ما بقوا أحياء.
قصص مخيفة
تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لسيدة وضعت مولودها داخل سيارة في الدمام وتخلل ذلك محاولات استغاثة الزوج والذي قابلته المستشفى برفض نتيجة عدم وجود أوراق إثبات شخصية رغم أن زوجته كانت تعاني آلام المخاض.
الزوج أكد أن زوجته كانت تتألم إلا أن المستشفى تعنت لأنه من فئة “البدون” ولا يملك أوراق هوية، مضيفًا أن المولود هو الطفل السادس له والذي سينضم إلى بقية أبنائه في المصير المحتوم، فيما نفى المستشفى تمامًا ما أثير في مقطع الفيديو مرجعًا الأمر إلى إجراءات الوقاية من فيروس كورونا، وحرر محضرًا ضد الزوج لاعتدائه على الطاقم الطبي للمستشفى.
أحد الطلاب “البدون” أكد أنهم يعاملون على أنهم طلاب أجانب، وأبناؤهم داخل الجامعات لا يستطيعون الاستفادة من المنح، كما أن هناك كليات يحرم عليهم دخولها كالطب على سبيل المثال، مؤكدًا أنه ومن هم على شاكلته يتم تجاهلهم وتهميشهم والتعامل معهم على أنهم مواطنون درجة عاشرة بل وغرباء عن البلد والكثيرون يخافون الاقتراب منهم.
أنوار خالد العنيزى طالبة تبلغ من العمر قرابة الـ 7 سنوات رفضت المدرسة قبولها وتم طردها من المدرسة، وأثار الفيديو الخاص بها جدلًا كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي.
جاء وصفها لحالها وأمثالها من “البدون” باكية: “أنا أناشد محمد بن سلمان، أنا من القبائل النازحة وتم طردي من المديرية أمام زميلاتي، وأنا من مواليد السعودية وأمي سعودية ليش يحرموني من المدرسة يابابا سلمان”.
وتباينت الآراء بين مؤيد ومعارض، إلا أن الإدارة التعليمية أكدت ما ذكرته الطفلة وأنه لا يمكن قبول طالب بدون استيفاء الأوراق”.