في السودان، أعلنت لجنة الفيضان التابعة لوزارة الموارد المائية والري في تقاريرها اليومية تسجيلات لأعلى منسوب من المياه وصل له نهر النيل في الخرطوم من مائة عام حيث سجلت مقايس النيل مستوى 17.48 مترًا.

بينما كان أعلى منسوب وصلت له مياه النيل هو 17.14 متر، منذ أعلى فيضان في تعرضت له السودان في عام 1912، حيث وصل الإيراد اليومي للنهر 985 مليون متر مكعب من المياه، كما سجلت محطات الخرطوم وشندي ارتفاعا قدره 20 مترا لأول مرة في تاريخ سجلات فيضان النيل.

مع الآثار الكارثية للفيضان في السودان والتي أدت إلى تدمير ما يقرب من 30 ألف منزل وقتل 94 شخصًا وتشريد عشرات الآلاف، وهو ما وصفه رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك بأنه الكارثة الأسوأ خلال العام، إذ أدى لخسائر مفجعة وموجعة في الأرواح والممتلكات.

في 2017، وضعت وزارة الموارد المائية والري مشروع لخطة قومية لإدارة المياه حتى 2037

إلا أن مناطق مختلفة في الأراضي السودانية بخاصة مصبات روافد النيل الأزرق باتت الأكثر استفادة من مياه الفيضان حيث تعتمد في زراعة ما يقرب من 2 مليون فدان على الري الفيضي لمرة واحدة في العام فقط خلال موسم الفيضان.

فيضان النيل في السودان
فيضان النيل في السودان

بداية مُبشرة لإيراد النهر في مصر

بعد موجة التخوفات من قرار إثيوبيا للملئ المنفرد لبحيرة سد النهضة بـ5 مليار متر مكعب من المياه في بداية الموسم المطري في يوليو الماضي، من دون موافقة مصر والسودان على قواعد مشتركة لمليء وتشغيل سد النهضة.

إلا أنه في القاهرة تلقت لجنة ايراد النيل قياسات مختلفة لمناسيب المياه في نهر النيل بفرعية في النيل الأزرق من الحدود الإثيوبية السودانية، والنيل الأبيض من البحيرات الاستوائية حتى الخرطوم من خلال بعثات الري المصري في السودان وأوغندا.

إضافة إلى البيانات التي تحصل عليها القاهرة من خلال اللجنة الفنية المشتركة المصرية السودانية لمياه النيل، والتي أفادت في معظمها ارتفاع منسوب مياه النيل في المنابع سواء في الهضبة الإثيوبية أو البحيرات الاستوائية وهو ما يبشر بإيراد مرتفع قد يكون في المستوى فوق المتوسط لفيضان النيل الذي يصل لبحيرة ناصر هذا العام.

يبدأ موسم الفيضان في مصر في أغسطس ويمتد لثلاثة أشهر حتى نهاية أكتوبر، حيث يصل إيراد المياه إلى بحيرة ناصر نتيجة حصاد مياة الأمطار في الهضبة الإثيوبية والبحيرات الاستوائية.

بينما تشير البيانات ارتفاع مناسيب المياه طوال الثلاثين عامًا الماضية حيث كان الفيضان عن المستوى المتوسط أو فوق المتوسط، بينما لم تسجل أي حالات من الجفاف أو الجفاف الممتد عقب موجة الجفاف الأخيرة أوائل الثمانينات من القرن الماضي.

وفقًا لآخر التقديرات التي أعلنتها لجنة إيراد النهر خلال اجتماعها مع وزير الموارد المائية والري، محمد عبد العاطي في 30 أغسطس فإن بيانات الرصد والتنبؤ الأولى تشير إلى أن ايرد المياه خلال أغسطس أعلى من نظيره في العام الماضي.

تشير التقديرات الرسمية إلى أن زيادة الطلب على المياه في مصر مع ارتفاع معدلات السكان والتوسع في المشروعات القومية

ولكن مازال من المبكر الحُكم بشكل نهائي على نوع وحجم الفيضان حتى نهاية شهر أكتوبر، رغم أن المؤشرات الأولية تؤكد زيادة معدلات الأمطار في منابع النيل، وهو ما يعكس حالة من التحفظ من قبل وزارة الموارد المائية والري في الإعلان عن مستوى أو منسوب المياه في بحيرة ناصر.

إجرائيًا تحتفظ القاهرة بإيراد المياه السنوي مع بداية السنة المائية في أغسطس كمخزون استراتيجي في بحيرة السد العالي “ناصر”، بينما يتم تصريف الاحتياجات اليومية من استخدامات القطاع الزراعي والصناعي وقطاعات مياه الشرب والملاحة في النهر وغيرها بمعدلات يومية محددة تقرها وزارة الموارد المائية والري من خلال لجان مشتركة مع الوزارات المختلفة حسب احتياجات كل قطاع من خلال بوابات السد العالي، بحيث تتوافق مع الحصة المائية السنوية لمصر من نهر النيل والمقدرة بـ55.5 مليار متر مكعب حسب اتفاقية تقاسم الحصص المائية مع السودان في 1959.

مُنذ بداية أزمة سد النهضة، واستمرار التوتر خلال المفاوضات مع إثيوبيا مُنذ توقيع اتفاق المبادئ في مارس 2015، كانت الاستخدامات المائية لمصر من مياه النيل مسار للخلاف والجدل بين المفاوض المصري الذي يسعى لحماية حقوق القاهرة في الاستخدامات الحالية لمصر من النهر بجانب الحصة المائية السنوية وبين المفاوض الإثيوبي الذي لا يريد الاعتراف بأي حقوق تاريخية أو حصص مثبتة لمصر في مياه النيل، وهو ما انعكس في العديد من التحفظات التي أبدتها القاهرة في تداول البيانات المتعلقة باستخدامات مياه النيل بداية من مستوى ومنسوب المياه في بحيرة ناصر حتى حجم التصرفات اليومية من البحيرة للوفاء بالاحتياجات الداخلية.

ألغت وزارة الموارد المائية النشرة اليومية لمنسوب المياه في بحيرة ناصر طول أيام السنة كذلك خلال فترة الفيضان.

وضع حرج وقرارات مشدّدة لتأمين الموارد المائية

تشير التقديرات الرسمية إلى أن زيادة الطلب على المياه في مصر مع ارتفاع معدلات السكان والتوسع في المشروعات القومية للوفاء بالاحتياجات المحلية مع محدودية الموارد المائية من مياه الأمطار أو المياه الجوفية واقتصار الحصة المائية من مياه النيل على 55.5 مليار متر مكعب وهي نفس الحصة التي تحصل عليها مصر منذ خمسينيات القرن المائي.

وهو ما تسبب في أزمات مائية خانقة حيث دخلت مصر حد الفقر المائي بعد أن وصل نصيب الفرد من المياه 500 متر مكعب سنويًا وهو ما يقل بالمعدل العالمي الذي حددته الأمم المتحدة بـ1000 متر مكعب سنويًا.

في 2017، وضعت وزارة الموارد المائية والري مشروع لخطة قومية لإدارة المياه حتى 2037، لتنمية الموارد المائية وحسن استغلالها وتعظيم العائد منها من خلال رفع كفاءة استخدام المياه في الزراعة وتحقيق عدالة التوزيع وتقليل تكلفة الري من خلال خطة التطوير المتكامل، فضلاً عن رفع كفاءة منشآت الري لتقليل هدر المياه من خلال تسرب المياه من الترع والقنوات الرئيسية.

وزارة الموارد المائية والري
وزارة الموارد المائية والري

بينما ركزت الخطة على برامج مشددة لترشيد المياه في كافة القطاعات بخاصة الاستخدامات الحضرية في مياه الشرب ومياه الري، حيث تصل التقديرات الأولية لحجم الاستثمارات المطلوبة لتنفيذ هذه الخطة ما يقرب من 900 مليار جنية.

الرئيس عبد الفتاح السيسي، أصدر توجيهات للحكومة وجهاز الخدمة الوطنية للقوات المسلحة بالتوسع في استصلاح الأراضي

في 2018، قررت وزارتي الموارد المائية والزراعة خفض مساحة الأرز إلى 724 ألف فدان، بدلاً من 1.1 مليون فدان، فيما حظرت التوسع فى زراعة الموز فى المناطق القديمة، والاكتفاء بالمناطق الصحراوية فقط، ضمن قرارات لحظر زراعة المحاصيل الشرهة للمياه، حيث تم منع زراعة الأرز نهائيًا بمحافظات: أسوان، والأقصر، وقنا، وسوهاج، وأسيوط، والمينا، وبنى سويف، والفيوم، والوادى الجديد، والجيزة، والقاهرة، والقليوبية، والمنوفية، ومرسى مطروح، وشمال سيناء، وجنوب سيناء، والبحر الأحمر، والسويس.

وهو ما صدق عليه مجلس النواب بتعديل بعض أحكام قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966، أعطت هذه التعديلات للوزارة الزراعة الحق فى حظر زراعة محاصيل معينة فى وقت معين، كما تم زيادة العقوبة فى القانون ووصولها للحبس لمدة 6 أشهر، والغرامة بقيمة 20 ألف جنيه أوكليهما.

بينما وصلت الغرامات المقرره على الفدان المخالف 3600 جنيهًا، وهو القرار الذي تسبب في أزمات متعددة بعد انخفاض كميات الأرز المحلي، حيث لجأت الحكومة لاستيراد كمياة من الأرز وحظر تصدير الأرز المحلي.

تخفيف الإجراءات المشددة لتأمين الغذاء

رغم استمرار الوضع المائي الحرج، إلا أن عام 2020 شهد تخفيف لبعض الإجراءات المشددة حيث قررت وزارتي الزراعة والموارد المائية في مارس الماضي، تقسيط غرامات الأزر المخالفة تخفيفًا على المزارعين والعودة لتقنين زراعات المحاصيل الشرهة للمياه مثل: الموز.

فيما حاولت وزارة الري اللجوء لسياسات تحسين الري بالتوسع في استخدامات الري الحديث في الأراضي القديمة لترشيد الاستهلاك بدلاً من المنع التام لزراعة بعض المحاصيل، إضافة إلى حملات لرفع وعي المزاعرين بالقيمة والجدوى الاقتصادية من المياه.

مع انتظار استكمال إثيوبيا لملئ وتخزين المياه في بحيرة سد النهضة بما يعادل 18 مليار متر مكعب من المياه، تبقى العديد من التخوفات لدى مصر

وساهم في تعزيز تخفيف قرارات الحكومة المشددة على استخدامات المياه في الزراعة، الآثار السلبية لانتشار فيروس كورنا على قطاع الزراعة والغذاء في العالم بعد الأزمات التي تعرض لها انتاج محاصيل استراتيجية كالقمح في أمريكا وروسيا، والتي كانت تشكل الأسواق العالمية الرئيسية التي تعتمد عليها القاهرة في تأمين احيتاجاتها من القمح، بسبب عدم قدرة القطاع الزراعي في مصر في تحقيق الاكتفاء الذاتي والوصول إلى الأمن الغذائي، لأسباب كثيرة في مقدمتها نقص إمدادات المياه.

كان الرئيس عبد الفتاح السيسي، قد أصدر توجيهات للحكومة وجهاز الخدمة الوطنية للقوات المسلحة بالتوسع في استصلاح الأراضي وزراعة المحاصيل الاستراتيجية لحماية الأمن الغذائي في ظل أزمة منتظرة لاستيراد الغذاء من الخارج وارتفاع الأسعار بعد تفشي فيروس كورونا.

تفاؤل حذر بارتفاع منسوب المياه في بحيرة ناصر

تقول مصادر بوزارة الموارد المائية والري، إن زيادة فيضان النيل خلال العام المائي الحالي، قد يعزز من التخفيف من التشديدات التي فرضتها وزارة الري خلال العامين الماضيين، حيث أن منسوب المياه في بحيرة ناصر لا يزال في المعدلات الأمنة حيث بدأت مصر تستقبل فيضان المياه عند منسوب 180 مترًا.

بينما قد تضطر الوزارة إلى فتح مفيض توشكي لتصريف الكمياة الزائدة من المياه مع زيادة الإيراد جراء الفيضان، حتى لا يتم التحميل على القدرة الاستيعابية للقنوات والترع الرئيسية لمياه النيل في المحافظات، منعًا لغرق أي من الأراضي.

في 2018، قررت وزارتي الموارد المائية والزراعة خفض مساحة الأرز إلى 724 ألف فدان، بدلاً من 1.1 مليون فدان

وتتوقع المصادر أن تسمح الحكومة بالتوسع في زراعات الأرز دون تشديد خلال الموسم الحالي، لتأمين الاحتياجات الداخلية من هذا المحصول الاسترايتجي في ظل قيود استيراد الغذاء جراء أزمة كورونا من جانب، وتوافر كميات مناسبة من المياه خلال الموسم الجاري من جانب آخر، ولكن دون الإعلان رسميًا عن هذه الإجراءات.

ورغم المؤشرات الإيجابية لوضع الموارد المائية خلال السنة المائية الحالية واستقرار مناسيب المياه في بحيرة ناصر، إلا أن هنا العديد من التخوفات لا تزال تسيطر على أجهزة وزارة الموارد المائية والري.

بحيرة ناصر
بحيرة ناصر

فبينما لم يتعرض نهر النيل إلى أي موجات جفاف خلال الثلاثين عامًا الأخيرة، إلا أن النماذج الرياضية المستخدمة للتنبؤ بحالة النهر خلال السنوات المقبلة لا يمكنها حسم أي توقعات عن حالة الفيضان والأمطار خلال العام المقبل.

مع انتظار استكمال إثيوبيا لملئ وتخزين المياه في بحيرة سد النهضة بما يعادل 18 مليار متر مكعب من المياه، تبقى العديد من التخوفات لدى مصر بإمكانية تحول الوضع الهيدروليكي والخريطة المناخية في النهر إلى موجة من الجفاف أو الجفاف الممتد أشبه بما حدث في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، والتي خلفت آثارًا سلبية على المخزون الاستراتيجي من المياه في بحيرة ناصر.

رغم أنه تم تأمين احتياجات مصر من المياه وقتها مقارنة بموجة المجاعات التي حدثت في إثيوبيا إلا أن استمرار هذه الموجة، كان يمثل خطرًا في حالة نضوب المخزون الاستراتيجي في بحيرة ناصر، الذي يعتبر المصدر الرئيسي للمياه في مصر.

بسبب هذه التخوفات لا يزال الخلاف قائمًا في المفاوضات الجارية حول قواعد ملئ وتشغيل سد النهضة، حيث تتمسك القاهرة بضرورة التوافق على إجراءات لحماية الأمن المائي وتأمين وصول إيراد النهر خلال سنوات الجفاف والجفاف الممتد بشكل خاص، دون أن يؤثر أي من عمليتي ملئ أو تشغيل سد النهضة على هذا الإيراد.

وتبقى أجهزة وزارة الري في حالة طوارئ لإدارة مياه الفيضان والتأكد من استدامة وحسن استغلال كميات المياه الواردة لبحيرة ناصر، لتأمين الاحيتاجات الداخلية من زراعة المحاصيل الاسترايتيجة من جانب وتأمين مخزون استراتيجي للمياه في حالات تدهور الوضع المائي خلال الموسم المقبل مع استمرار التعنت، وتعذر كافة المحاولات الدبلوماسية في التوصل لحلول توافقية مرضية لتقليل الأضرار المتوقعة من سد النهضة الإثيوبي.