يبدو أن الأمل الذي حمله الحراك الشعبي في الجزائر الذي بدأ 2019، لم يغير من الواقع والسياسات كثيرًا بل تردت الأوضاع الحقوقية وملف الحريات إلى الأسوأ، وذلك بشهادة المراقبين والتقارير الدولية.

منذ العام الماضي، وانتفاضة 22 فبراير، التي خرج فيها الآلاف من المتظاهرين رفضًا لولاية خامسة للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، تراجع ملف الحقوق والحريات، في عهد عبد المجيد تبون، أول رئيس منتخب بعد الحراك، حتى بالمقارنة مع زمن بوتفليقة، نتيجة حملات الاعتقال والقمع.

تعد الجزائر طرفًا في عدد من معاهدات حقوق الإنسان، من بينها “الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب”، و”العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”.

تقويض للدستور

منظمة العفو الدولية، قالت إن حملة القمع والاعتقالات التعسفية الواسعة التي تشنها السلطات الجزائرية بلا هوادة ضد النشطاء والمتظاهرين تهدد بتقويض مصداقية عملية الإصلاح الدستوري في الجزائر.

وكانت اللجنة التي عينها تبون، قد انتهت من إعداد “مشروع تمهيدي لتعديل الدستور”، وسوف تقدمه للرئيس لإقراره نهائياً.

وتجدر الاشارة، إلى أنه منذ أعلن “تبون” إجراء إصلاحات دستورية، في ديسمبر/ كانون أول 2019، افتقرت تلك العملية للشفافية بما في ذلك إطارها الزمني، وكانت البداية من حظر نشر نسخة من “المشروع التمهيدي لتعديل الدستور” على الإنترنت ليكون متاحًا للعموم، وأعلنت السلطات إرسال نسخ إلى مجموعة مُنتقاة من الشخصيات والجماعات لإبداء تعليقاتها عليه، بحسب المنظمة.

وأعربت المنظمة عن قلقها بشأن عدد من المواد في “المشروع التمهيدي” للتعديلات الدستورية المقترحة، مثل المواد المتعلقة بالحق في التعبير، والحق في التجمع، والحق في الحياة؛ بينما رحبت المنظمة ببعض المواد التي اتسمت بصياغات قوية بشأن حقوق المرأة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

وعلقت هبة مرايف، مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المنظمة: “إذا كانت السلطات الجزائرية ترغب في أن تؤخذ عملية إعادة صياغة الدستور التي تقوم بها على محمل الجد، فإنه يتعين عليها الكف عن القبض على نشطاء المعارضة، والإفراج عمن احتُجزوا أو حكم عليهم دونما سبب سوى ممارسة حقهم في حرية التعبير وحرية التجمع”.

“في وقت يرزح فيه خلف قضبان السجون نشطاء سلميون من المجتمع المدني والنشطاء السياسيين، بالإضافة إلى صحفيين، تأتي مسودة تعديل الدستور للتذكرة بأن الواقع أبعد ما يكون عن وعود السلطات التي لم تتحقق، بأن تنصت إلى أصوات الحركة الاحتجاجية المعروفة باسم الحراك” بحسب مرايف.

الإصلاح الدستوري

من جانبه، يستعد البرلمان الجزائري لمناقشة الوثيقة الدستورية الجديدة، وهو ما أثار بعض التساؤلات بشأن حجم الفساد داخل الحزب الحاكم، “جبهة التحرير الوطني”، الذي تلاحقه اتهامات الفساد ضد أعضائه، ومن جهة أخري يثار جدل واسع حول مدى شرعية المسودة الدستورية حال إقرارها.

في هذا الشأن، يرى مراقبون أن المفترض حل البرلمان الجزائري قبل وضع الدستور الجديد، والذهاب إلى انتخابات تشريعية للحصول على برلمان شرعي، فما يحدث يعد تطبيقًا لسياسة “الأمر الواقع”.

فيما كشف بعض المحللين والمهتمين بالشأن الجزائري أسباب حالة الجدل التي تسيطر علي الشارع  بعد إعلان مشروع تعديل الدستور، أهمها تجاهل مناقشة مشروع التعديل، أو حتى تمريره على مجلس الوزراء، وانتهى الأمر إلى مطالبة الشعب بالتصويت عليه فقط.

ومن شأن التعديلات المقترحة أن تعزز صلاحيات “المجلس الأعلى للقضاء”، وهو هيئة إشرافية تتمتع بالاستقلال الإداري، إلا إن الحكومة ستستمر في الاحتفاظ بصلاحيات كبيرة للهيمنة على النظام القضائي، بما في ذلك احتفاظ رئيس الجمهورية برئاسة المجلس الأعلى للقضاء، ومنحه صلاحية التعيين المباشر لمن يشغلون مناصب قضائية مهمة.

كما تنص التعديلات على أن حرية الصحافة لا تقيد بأي شكل من أشكال الرقابة المسبقة، ولكنه يجعل هذه الحرية مشروطةً باحترام “ثوابت الأمة وقيمها الدينية والأخلاقية والثقافية” والعمل في إطار القانون، وهما ما يبقيان الباب مفتوحًا أمام السلطات لفرض قبضتها على الصحفيين وغيرهم ممن ينتقدون السلطة.

وبالرغم من النص على ضمان حرية التعبير، فإنها تظل مشروطة بالقانون المحلي، مما يتيح اللجوء إلى قوانين قمعية، من قبيل التعديلات التي أُدخلت على “قانون العقوبات” واعتُمدت في أبريل 2020، وهي تعديلات تجرم نشر “أخبار كاذبة”، وتعاقب على ذلك بالسجن لمدة تصل إلى ثلاث سنوات.

كما تتضمن الوثيقة مقترح “الحق في التجمع السلمي”، إلا إنه ينص هنا أيضاً على أن يحدد القانون كيفية ممارسة هذا الحق، ويفرض القانون الجزائري عقوبات جنائية على “التجمهر غير المسلح”، وهي تهمة كثيرًا ما تستخدم لاعتقال ومحاكمة معارضين سلميين، بحسب منظمة العفو الدولية.

وتأتي التعديلات الدستورية الجديدة، في وقت يظل فيه خلف قضبان نشطاء سلميون من المجتمع المدني ونشطاء سياسيون، بالإضافة إلى صحفيين، وهو ما يؤكد بأن الواقع أبعد ما يكون عن وعود السلطات التي لم تتحقق، بأن تنصت إلى أصوات الحركة الاحتجاجية المعروفة باسم “الحراك”.

وحتى يونيو/حزيران الماضي، كان ما لا يقل عن 69 ناشطاً لا يزالون رهن الاحتجاز، وذلك للتعبير عن آرائهم عبر الإنترنت، أو المشاركة في مظاهرات سلمية، ومن بينهم شخصيات سياسية من نشطاء “الحراك” ونشطاء من المجتمع المدني.

وتتناقض حملات القمع والقبض على الصحفيين والنشطاء مع وعد الرئيس الجزائري، عندما تولى مقاليد الحكم في العام الماضي، وتأكيده على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون.

وفي سياق متصل، أعرب نواب البرلمان الأوروبي، أواخر العام الماضي، عن قلقهم من التضييقات التي تمارس بحق النشطاء السياسيين و المدنيين واعتقال عدد كبير منهم.

كما انتقد النواب الأوروبيون التضييق على الأقليات الدينية وخاصة المسيحية، بالإضافة إلى الطائفة الأحمدية و باقي الأقليات الأخرى.

الحريات الدينية

ورغم اعتراف دساتير الجزائر كافة بحرية ممارسة الشعائر الدينية لغير المسلمين، لكن الواقع يختلف ويتطور أحياناً إلى اتهامات وتضييق واضح، فالحديث عن ملف الحريات الدينية يكتنفه الكثير من الغموض بالبلاد .

في عام 2005، سنت الحكومة الجزائرية قانونًا يحدد ضوابط إنشاء معابد دينية لغير المسلمين، وممارسة الأقليات الدينية شعائرها، وهو الأمر الذي تم التنصيص عليه أيضا في مسودة الدستور الجديد، إذ أفردت لها في المادة 51 ثلاثة بنود تتعلق بأنه لا مساس بحرمة حرية المعتقد وحرمة حرية الرأي، وأن حرية ممارسة العبادات مضمونة وتمارس بلا تمييز في إطار احترام القانون، فضلاً عن مسؤولية الدولة عن حماية أماكن العبادة.

إلا أن المواد الدستورية المذكورة يقابلها العديد من القوانين التي تحرم على غير المسلم السُني الحق في الحرية الدينية الكاملة، باستثناء الطائفة الإباضية التي تمارس حريتها الدينية، مع صعوبة الحصول على تراخيص لإنشاء مساجد خاصة بها.

وأغلقت السلطات في نهاية العام الماضي، بيوت عدة يستغلها مسيحيون في الجزائر للصلاة، تابعة للكنيسة البروتستانتية، ما خلق موجة انتقادات داخلية وخارجية.

وذكرت منظمة “كريستيان سوليدرتي” أن كنيسة “الرجاء” الإنجيلية في وهران، تلقت أمر إغلاق صادر عن محكمة محلية، مؤكدة إغلاق 13 كنيسة منذ يناير الماضي.

ويقول البعض إن الأمر تخطى الحجر على حرية العبادة للحريات الشخصية، حيث لا يزال بعض الأزواج عالقين في المحاكم بسبب عدم تسجيل أبنائهم بأسماء مسيحية في بعض مناطق الجزائر، باعتبار أنها ليست عربية، وغير موجودة في قاموس الأسماء المعد من طرف الدولة خلال ثمانينيات القرن الماضي.

 

حقوق تتلاشى بعد الحراك 

ويبدو أن المرأة في الجزائر أيضًا لم يطالها أي تغيير المتوقع في أوضاعها، فرغم مشاركة الجزائريات بقوة في الحراك، إلا أن مكانة المرأة تلاشت، فأول اختبار سياسي خاضته البلاد سجل غيابًا كليًا للعنصر النسوي، بعد أن غابت عن قائمة المتنافسين على كرسي الرئاسة.

وتشير منظمة “هيومان رايتس ووتش” إلى أن هناك أيضًا ثغرات كبيرة في القانون الجزائري فيما يتعلق بالاستجابة للعنف الأسري، فحتى ديسمبر 2015 لم يكن العنف الأسري جريمة قائمة بذاتها، بل كان العنف الجسدي يلاحق بموجب أحكام جنائية عامة تتعلق بالاعتداء، وينظر فيه تبعا لخطورة الإصابة.

وبحسب المراقبين، فإن التقارير الدولية بشأن أوضاع حقوق الإنسان المتردية بالجزائر تمارس نوعًا من الضغوط على الحكومة الحالية من أجل تقديم مزيد من التقدم في ملفات لازالت تواجه تعسفًا وتضييقًا فيما يتعلق بالحريات الدينية وحرية الرأي والتعبير.